وكالة أنباء أراكان ANA: (شبكة الألوكة)
يصعد لأعلى الشجرة بخفة طفل صغير، يطل على ما حوله بعيني صقر نافذ، يتلفت يمنة ويسرة، ينبض قلبه نبضات سريعة متوجسة من فجوة صغيرة في جذع الشجرة، يخرج جهاز جوال ملفوفًا بأوراق الشجر، يزيل عنه الأوراق بسرعة، يضغط على زر التشغيل بتوتر، يتذكر عيني زوجته المريضة، كانت تنظر إليه بتوسل نظرات صامتة، أن يفعل شيئًا لأجلها، لم يستطِعْ أن يحدق في عينيها طويلاً، خرج وأطفاله يتصايحون:
♦ لا تعُدْ إلينا إلا بطعام يا أبي!
♦ الجوع ينهش بطوننا كوحش صغير!
♦ ثلاثة أيام بلياليها ولا نأكل إلا أوراق الشجر!
تعلقت به ابنته الصغيرة عند باب البيت، عز عليه ألا يلتفت إليها قبل أن يتخلص برفق من قبضتها الصغيرة، أضاءت الشاشة، وبدأ الجوال يعمل، يدخل تطبيق (ويشات)، يبدأ في تسجيل مقطع صوتي: (قروفوربايَنْ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأنا نجم الحق، أحمد الله، أراسلكم من منغدو، أنقل لكم خبرًا جديدًا، استُشهد ظهر اليوم شاب روهنجي، يدعى شبير أحمد كالامياه، 15 عامًا، بسجن بوسيدونغ، متأثرًا بإصاباته البالغة التي تعرض لها خلال تعذيبه على أيدي السلطات الميانمارية، وكان الشهيد قد تم اعتقاله قبل عدة أيام بتهمة اقتناء شريحة جوال واستخدامها في تزويد وكالة أنباء أراكان ANA بأخبار يومية طيلة الأشهر الثلاثة الماضية، و…).
يصل المسمع الصوتي في لحظات معدودات، يخترق كل حواجز الزمان والمكان، يتحدى كل الإجراءات التعسفية المتشددة، يتجاوز كل الأسوار العالية والأسلاك الشائكة، رغم كل ذلك يصل المسمع الصوتي في انسياب وسرعة إلى القلب الإعلامي النابض للروهنجيا في المنفى عبر تقنية سريعة ومتقدمة، ولكنها بسيطة وفعالة.
♦ الحَقْ يا “أبو خليل” أيوب السعيدي أرسل خبرًا عاجلاً.
♦ فين يا ابن ولي؟
♦ في “قروب” المراسلين.
ينصت محرر الوكالة باهتمام إلى الخبر المرسل باللغة الروهنجية، يعيد الاستماع إليه أكثر من مرة، يفرغ مضمونه على الورق بدقة إلى اللغة العربية، يحرره بلغة صحفية متقنة، يراجعه، يمعن النظر فيه، يقلبه في ذهنه، يضع له عنوانًا صحفيًّا:
♦ عبدالله، إيش رأيك في العنوان: (الروهنجيون ينجحون في كسر الحصار الإعلامي ويحرجون حكومة ميانمار)؟
♦ اجعله أكثر وضوحًا وإثارة.
♦ كيف؟
♦ مثلاً: (ميانمار تقتل مراسلاً لوكالة أنباء أراكان ANA بسجن بوسيدونغ)!
♦ أحسنت يا عبدو.
يسعد المحرر بتجاوب زميله، ويضع عنوانه المقترح، بضغطة زر يرسله عبر المراسلات الخاصة في الفيسبوك إلى مدير وحدة الإعلام الدولي بالمركز الإعلامي الروهنجي:
♦ استلم يا ابن ولي.
♦ هات.
ينشره ابن ولي في موقع الوكالة على النت برفقة صورة حصرية، ينشر رابطه مع عنوانه في مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، تويتر، واتس آب، إنستغرام، يحوله مترجمو الوكالة إلى لغات أخرى: الإنجليزية – الأُردية – البورمية، يتلقاه المهتمون بقضية الروهنجيا في العالم، يتابعه فريق الرصد الإلكتروني الذي تجنِّده حكومة ميانمار، تنهال الاتصالات الدولية محتجة على سفاراتها في العديد من دول العالم:
♦ سيدي الوزير، ثلاثة من سفرائنا في أوربا ينتظرون ردك عليهم في الخطوط الدولية!
♦ قل لهم: وزير الخارجية ينتظر مكالمة عاجلة من سيادة الرئيس!
تجد الحكومة نفسها في موقف حرج، تنزعج، تتضايق، تغلي، تثور ثائرتها، تكشِّر عن أنيابها، تطلِق مخالبها، تعلن عن حالة استنفار قصوى، ترسل قواتها لتبحث مجددًا عن مراسلين مختبئين داخل الأدغال والغابات، تقوم بتمشيطها دون جدوى، لا تقِفُ لهم على أثر.
♦ أين يختفي هؤلاء البنغاليون الأوغاد كلما بحثنا عنهم؟
يهدر مبنى الاستخبارات بصرخات رئيسها البوذي الحانق:
♦ لو ظفرت بهم، لأكلت لحومهم أحياءً، ومصصت دماءهم!
تتجمد الدماء في عروق مرؤوسيه داخل المبنى، يزفر بغيظ حارق زفرات متتابعة، يعيد قراءة التقرير الموضوع أمامه للمرة السابعة: “يأوون إلى الأدغال والغابات ليلاً، يزودون وكالتهم في المنفى بالأخبار بعيدًا عن أعين الرقباء وآذانهم، يغادرونها بالنهار، يتجولون بين القرى والأحياء الروهنجية، يتحولون بأعينهم وآذانهم إلى رقباء صامتين، يرصدون الأخبار لحظة بلحظة، وكلما أرسلوا خبرًا انتعشت روحُ وكالتهم، وصار قلبها النابض أشبه بخلية نحل لا تتوقف”، يرفع رأسه عن التقرير ويكمل:
♦ وتنشر وكالتهم الفضيحة بعد الفضيحة، ويدوي بها العالم الحر، ونكتشف متأخرًا أن الحقيقة أقوى من كل الأسلحة المادية والطغيان، وأن حكومتنا فشِلت بكل قوتها وغطرستها في فرض الحصار الإعلامي على الروهنجيين في أراكان، يا للخزي! حرمناهم من اقتناء أجهزة الجوال، اعتبرنا امتلاكهم لشريحة جوال جريمة تستحق القتل، منعنا الوفود الإعلامية الدولية من دخول أراكان، أو الاقتراب منها، إلا بعد مصادرة الكاميرات والأجهزة التقنية، ورغم كل ذلك فإن الأخبار تتسرب إلى كل أنحاء العالم عبر مراسلي وكالتهم في المنفى، يا للعار!
♦ سيدي، قبضنا على مراسل وكالتهم (نجم الحق) داخل غابةٍ قريبة من هنا.
♦ مراسل واحد فقط؟
♦ أجل سيدي.
♦ هل اعترَف بشيء؟
♦ كلا، لم يعترف بشيء يفيدنا في تعقُّب المراسلين.
ويهدر رئيس الاستخبارات البورمي:
♦ لعنة بوذا عليك إذًا! إليك عني..
يختفي الضابط من أمام رئيسه في مثل لمحة البرق، يكمل الرئيس:
♦ وماذا أفعل بنجم الحق وحده؟ إنهم مئات النجوم المختبئة بين الأحراش وداخل الغابات سرعان ما يرسلون خبر اعتقاله هو الآخر في غضون ساعات فقط، وتنشره وكالتهم، ويزداد موقفنا حرجًا أكثر وأكثر أمام العالم المترقب.
يضرب بيده على الطاولة بأقصى قوته ويصرخ:
♦أدخلوا عليَّ (نجم الحق).
يدخل عليه شاب نحيل في العشرينيات من عمره، هزيل، ضئيل، شبح بشري، مهلهل، بقية إنسان، صامد، عيناه تتقدان ذكاءً، وتنطقان بالتحدي، يهجس رئيس الاستخبارات في أعماق نفسه: لماذا تخيفني أعينهم هكذا كلما دخل عليَّ أحدهم؟ نطق بعد صمت طويل:
♦ سأعطيك فرصة أخيرة قبل أن تلحق بزميلك “شبير”.
♦ أرجوك سيدي، لا تقتلني، أبقني لأجل زوجتي المريضة، وأطفالي الجياع.
♦ ألن تعترف؟
♦ بماذا؟
♦ أتراوغ أيضًا؟
♦ لا أعرف عن ماذا تتحدث سيدي!
وتأتيه اللكمة المرتقبة كالصاعقة، تستقر فوق أنفه تمامًا، ولا تغادر، كان يعلم بها يقينًا، ولكن لم يتخيَّلْها مؤلمة إلى هذا الحد، يحس برطوبة داخل منخريه، يشعر بدوار خفيف، يشتهي أن يترنَّح، ولكنه يقاوم ولا يهتز، يحاول أن يتماسك، يتلقى النظرات النارية بثبات:
♦ تكلم يا حشرة، من تظن نفسك؟ لن تصمد طويلاً.
♦ الصمود مهنتي.
♦ حسنًا.
وتأتيه الثانية فوق بطنه بباطن الحذاء الجلدي الضخم، يتطاير كورق، ويصطدم بباب الغرفة، يتكوَّم أسفل الباب كقطعة قماش، تغيم كل محتويات الغرفة، يراوده القيء، عن نفسه يشتهي لأن يتخلص من هذا الألم الفظيع في بطنه، يسمع خطواته كأنه يقترب منه، يتلقى في وسطه رفسات متتابعة، يتأوَّه، يتلوى، يئن، لسعات حادة تحرق وسطه في مثل حرارة النار المشتعلة، يسمعه يهمهم:
♦ لماذا تخسرون دائمًا حياتكم التي بين أيديكم من أجل حياة أفضلَ في جنة مزعومة؟
♦ لأنها ليست لكم.
يتفاجأ برده من وسط أنينِه وآلامه، يتميَّز غيظًا، يتطاير الشرر من عينيه، تنقبض سحنته، تنتفخ أوداجه، يكاد ينفجر، يضع حذاءه الثقيل فوق الصدر المنهك، يوجه فوهة المسدس إلى عينيه ويرعد:
♦ ولماذا كانت لكم؟ لماذا؟ أجِبْ يا لئيم، أجب!
♦ لأننا نصمد على الحق مهما كان الثمن!
أخذ يحدث نفسه وهو يبتلع ريقه بصعوبة: عدتَ تتحدث عن الصمود من جديد، ولكنك صادق، على كل حال لا فائدة منكم، كلكم هكذا، حتى عباراتكم هي هي نفسها، لا أدري من أين اكتسبتم كل هذا الصمود في وجه الطغيان، وفي النهاية نحن من خسر هذه المعركة غير المتكافئة، وسواءٌ أبقيناكم أو تخلصنا منكم:
♦ الحَقْ بزميلك “شبير” في الجنة كما تزعمون، مضت عليَّ شهور طويلة من حين أطلقت آخر رصاصة من مسدسي، خذ يا تافه، هذا ثمنك الذي كنت تنتظره، ولتنشُر خبرَك وكالتُكم اللعينة في المنفى!
طاخ طاخ..
♦ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.