بقلم: إبراهيم حافظ
وكالة أنباء أراكان ANA | خاص
تتوارد أخبار الظلم والعنف والاضطهاد المرتكب ضد مسلمي الروهنجيا في ولاية أراكان بميانمار (بورما سابقا) بشكل شبه يومي عبر كل الوسائل الإعلامية القديمة منها والحديثة؛ وذلك تنفيذا لسياسات التمييز العنصري والتطهير العرقي والإبادة الجماعية التي تنتهجها الحكومة العسكرية هناك ضد أقلية مسلمة عزلاء لا حول لها ولا طول، ومجردةٍ من كل وسائل الدفاع عن نفسها ضد الاعتداءات المستمرة عليهم من قبل بوذيين متطرفين. وكل ذلك بزعم أنهم دخلاء ومهاجرون غير شرعيين رغم كونهم عرقية أصيلة في البلاد مضت عليها قرون وقرون، وشواهد ذلك في الكتب والوثائق التي تركها المختصون (ومنهم مؤلفون غربيون مروا بالمنطقة وكتبوا عنها) وعلى أرض الواقع كثيرة ومتعددة.
والمتتبع لتفصيلات الأخبار الواردة عنهم والطرقِ والوسائل المتبعة في التضييق عليهم واستفزازهم وانتهاك كل حقوقهم بشكل يومي بل في كل لحظة من لحظات يومهم؛ يصعب عليه تخيل حياة إنسانية سوية يمكن أن يعيشها الإنسان الروهنجي بموطنه الأم المتمثل في ولاية أراكان، ويعجب أشد العجب من قدرته البالغة على الصمود على البلاء كل هذا الوقت؛ خصوصا إذا علمنا أن المحنة الأخيرة التي انطلقت شرارتها بالمحرقة الكبرى في مدينة أكياب التاريخية في عام 2012م ما هي إلا مرحلة من مراحل الاضطهاد والعنف التي سبقتها مراحل ومراحل منذ ما يزيد على 100 عام!!
دعونا نخرج عبر السطور القادمة في رحلة استطلاعية متخيّلة إلى ولاية أراكان في ميانمار؛ لنكون خلال هذه الرحلة الافتراضية بصحبة مسلم روهنجي مضطهد، فنرى ونشاهد كيف يعيش حياتَه هذا المسلمُ المتميز الصامد، وكيف يقضي ساعات يومه وليله في ظل الواقع السوداوي المظلم المفروض عليه. نرى ذلك ونشاهده بعين الخيال لا بعين الحقيقة طبعا، فما يعيشون فيه بأحاسيسهم ويواجهونه بمشاعرهم ويلمسونه بكل ذرة في كيانهم حقيقةً على أرض الواقع ربما يصعب علينا مجرد رؤيته بعين الحقيقة ولو من بعيد! فلنكتفِ بالخيال وحده ولنستعض به عن الواقع المرّ الأليم!
يبدأ يوم الإنسان الروهنجي في أراكان بساعات الفجر الأولى مع صياح الديكة وزقزقات العصافير مثل كل المسلمين في العالم حين يستيقظون من نومهم لأداء صلاة الفجر، ولكن الأمر مختلف بالنسبة للمسلم الروهنجي. فهو غالبا لن يتوضأ بالماء؛ لأنه لا يجد الماء الصالح للشرب في أكثر أيامه؛ فضلا عن الماء الذي يستخدمه في وضوئه، ولن يسمع الأذان من المسجد بل لن يصلي فريضته فيه؛ لأنه مغلق بأمر تعسفي من السلطات منذ أحداث العنف التي جرت في 2012م، وليس مسموحا له برفع الأذان حتى في قعر بيته؛ لئلا يصل هذا النداء القدسي الطاهر إلى أسماع المجاورين له في السكنى من البوذيين، فتتأذى به أسماعهم التي لا تطيق سماعه. ولذلك فإنه يعمد إلى التراب خارج كوخه المتهالك يتيمّم به مع أهل بيته من زوجة وولد، ويؤدي معهم فريضته بخشوع وطمأنينة في همسٍ ضعيف خافت لا يرفع صوته بالتكبير ولا يجهر بقراءة القرآن؛ خشية أن يسمعه أحد من الجواسيس المندسِّين هنا وهناك، فيشي به إلى السلطات التي حظرت أداء الصلوات وقراءة القرآن حتى في داخل البيوت، وهددت بالاعتقال والسجن كل من يخالف الحظر! فإذا أدى صلاته حمد الله كثيرا أن مكّنه من أداء الفريضة في مثل هذه الظروف العصيبة، واستعد للخروج وتهيّأ ولكن.. إلى أين؟
يبقى حائرا مترددا وهو يفكر: أين يذهب لطلب رزقه وقوت عياله؟ أما المزرعة الصغيرة التي ورثها عن أبيه، وكان يعمل فيها بنفسه حرثا وغرسا وحصدا ويجد منها الكفاف؛ فقد صادرتها السلطات منه عنوة ومنحتها لمهاجر بوذي أقدمتْه مؤخرا من بنغلاديش مع مئات آخرين مثلِه بهدف الاستيطان على حساب أراضي الروهنجيين.
وأما الصيد في البرك والأنهار القريبة فقد حظرته السلطات على الروهنجيا، وفرضت عليهم ضرائب باهظة مقابل السماح لهم به دون البوذيين الذين يسمح لهم بالصيد في أي مصدر مائي دون أن يضطروا لدفع أي ضرائب.
وأما الاحتطاب في الأحراش والغابات القريبة فالطريق إليها مزروع بنقاط كثيرة للتفتيش لا بد من المرور بها، ولا يسلم أحد من المارّين بها من اعتداءات العسكر: اعتداء لفظي بالسب والشتم، واعتداء فعلي بالركل والضرب؛ إن لم يجدوا ما يصادرونه من المارّة قبل السماح لهم بالمرور عبر نقطتهم.
وإذن؛ فإلى أين لطلب الرزق وقوت العيال؟ لا بد أن يأكلوا مهما كانت الظروف والمخاطر، ولا مفر من توفير أي شيء لهم، ساعتان أو أكثر أو أقل وينفد صبرهم ويتضاغون جوعا، لم يأكلوا شيئا منذ البارحة، لا مفر إذاً، لا بد من الخروج..
سنكمل رحلتنا مع صاحبنا الروهنجي في المقال القادم إن شاء الله.