وكالة أنباء أراكان | مجلة الأدب الإسلامي
الكاتب | إبراهيم حافظ
وسط أزيز الرصاص وطلقات المدافع كنا نتساقى أحيانا أحاديث الحب ونتعاطى ذكريات الغرام!!
الشتاء الأراكاني بارد وموحش، يجاوز اللحم والعظم حتى يصل إلى النخاع. ولياليه الطويلة المرتعدة تطلب الدفء المفتقد، وتبحث عنه في حرارة الموضوعات والنقاشات الليلية الساخنة. ومهما كنا مرابطين على الثغور المشتعلة فإننا لا نقوى أن نتجرد من فطرتنا وطبيعتنا البشرية، وأن نحمل في داخل أنفسنا مشاعر وأحاسيس إنسانية حية لا تكاد تنفك عنا بحال.
كانت قد مضت ستة أشهر فقط منذ قيام الثورة الروهنغية الشاملة التي قادتها المقاومة المسلحة من الخارج. انطلقت في البداية كشرارات اشتباك هنا وهناك، وازدادت ضراوتها يوما بعد يوم، وفرضت نفسها بقوة على أرض الواقع، وغيرت كل موازين القوى في الميادين وساحات المواجهة.
البوذيون مجردون من كل أسلحتهم، ممنوعون من لقاء رهبانهم المحبوسين داخل معابدهم؛ بعد جلساتهم الطويلة على طاولة المفاوضات مع حكومة بورما. وكانت “ضربة معلم” أحكمت الحكومة تسديدها باتجاه المتمردين البوذيين. القوات الأمنية المتناقصة يوما بعد يوم تواجه حربا عنيفة شعواء من قبل الروهنغيين؛ حرب شوارع حقيقية لا هوادة فيها.
القتلى في الجانب البورمي بالعشرات كل يوم، وجرحاهم بالمئات في بعض الأيام.. تقلصت قدرتهم على الثبات فضلا عن التقدم للأمام.. باتوا يتخلون عن أماكنهم متراجعين باستمرار.. أصبح الشبح الروهنغي مصدر رعب وتهديد دائم لهم.. يطاردهم ويتخطفهم من كل جانب وفي كل لحظة وحين.
فجأة برز الروهنغيون على أرض الواقع وفي ميادين المواجهة وساحات القتال كتائب مسلحة مدربة، ومجهزة بكل أدوات القتال ووسائل المواجهة في الحرب المصيرية التي يخوضونها بكل شراسة وعنف واقتدار حتى الآن.. لم يعودوا خانعين مستسلمين كما كانوا قبل ستة أشهر فقط.. لم يعودوا متنازعين مختلفين كما كانوا قبل اندلاع الثورة بقليل.. من كان يظن أن “الأقلية الأكثر تعرضا للاضطهاد في العالم” كما كانت تصفها الأمم المتحدة تواجه اليوم وحدها أعتى الأنظمة القمعية في منطقة الآسيان؟
من أين أتوا بكل هذا العتاد والخبرات؟ من أين جاؤوا بكل هؤلاء الفدائيين المغامرين؟ أين كانوا يختبئون طيلة الفترة الماضية؟ هيهات أن يجيبوك مهما سألتهم.. إنهم مشغولون الآن بتحقيق الانتصارات الحقيقية والإنجازات الميدانية بعد فظائع القتل والتشريد التي طال أمدها عليهم.. كانوا هم أنفسهم يظنون أنها كابوس أسطوري قُدِّر عليهم أن يعيشوه بلا نهاية.
– يكفيك شرفا أن تناضل معنا في سبيل استعادة حقوقنا، وأن تنقل للعالم صورة ناصعة للنضال الروهنغي عبر الإعلام الأحوازي!
هكذا أجابني زميلي الروهنغي في المناوبة الليلية التي كلفتنا بها قيادة المنطقة لحراسة المعسكر فور توقف الغارات البورمية مع غروب شمس أكتوبر؛ ولكنه لم يبخل علي بإجابة شافية وافية، إجابة شهية ولذيذة حين سألته عن زواجه كيف تم؟
كنت في الحقيقة أريد الدخول في حياة الروهنغيين أيام سلمهم في المهاجر والمنافي، والتعرف عليهم في كل جوانب حياتهم، خصوصا فيما يتعلق بالطريقة الروهنغية المتبعة في مراسيم الزواج وطقوسه ومقدماته.. أردت أن أجري مقارنات بينها وبين طريقتنا الأحوازية الشائعة، وربما نشرت عنها تقريرا صحفيا ذات يوم..
– ما أظن أحدا من الخُطّاب ظفر بنظرة شرعية كالتي ظفرت بها؟
قالها زميلي الروهنغي منتشيا ناظرا لبعيد، كأنما يستعيد لحظاتها ويعيش نشوتها من جديد.. أثار فضولي وحرك رغبتي في معرفة الدقائق والتفاصيل.. أردت أن أستفزه ليبوح أكثر والليل يبسط رداءه المظلم من حولنا شيئا فشيئا:
– إنما هي نظرة عجلى خاطفة لا تكاد تتجاوز الخمس دقائق أو أقل..
– بل هي نظرة حالمة لا تقل عن عشرين دقيقة!!
– عشرين دقيقة؟!
– إن لم تكن أكثر! قالها وهو يمتلئ ثقة وتلمظ، ثم أضاف:
– والأعجب أنها ليست نظرة شرعية بالمعنى المعهود ولكن..
وهنا تردد قليلا فشجعته بإيماءة من رأسي وابتسامة سريعة من شفتي فأكمل:
– هي أقرب ما تكون لجلسة غرامية واعدة!
وأدركت من فوري أني على أبواب حكاية لذيذة وتجربة مثيرة وسط هذا الجو الكئيب من الحرب الروهنغية الضارية.. عدلت من جلستي، وأصلحت من هيئتي، وتوجهت إليه بكليتي، كأني أريه أني مصغ إليه بكل جوارحي وذراتي، وعزمت في نفسي أن أتركه يستفيض في الحديث دون أن أقاطعه.. فأنشأ يكمل:
– قبلها بيوم سألت أمي في السيارة وأنا عائد بها إلى البيت على مسمع من أبي:
– ماذا رأيت أمي؟
– رأيت حوراء كبيرة العينين، حسناء أسيلة الخدين، هيفاء دقيقة الجنبين!
– آه، وأنت يا أختاه ماذا رأيت؟
– رأيت فتاة وضيئة جريئة بريئة!
– والله ما أسمع إلا إغراء يتوالى منذ اليوم، وددت لو انطلقت لأراها الآن..
وتتعالى الضحكات الماكرة من كل جوانب السيارة..
في اليوم التالي لبست جديدا وتأنقت ما وسعني التأنق وخرجت.. أخذت معي هدية: خاتما من ذهب، ومآكل ومشارب.. كان الموعد أن أصلي المغرب قريبا من بيتهم.. وجدت أخاها ينتظرني في المسجد.. قادني إلى بيتهم.. تعطرت قبل أن أخرج من السيارة.. دخلت يسبقني عطري بأمتاري.. فاح في كل أرجاء البيت.. استروحتْه فعلق بذهنها لأيام طويلة كما ستخبرني فيما بعد..
جلست في المجلس وحدي.. كأن ليس في البيت من إخوانها غير من قادني إليه من المسجد.. في العادة يكون أحد الكبار موجودا مع الخاطب والمخطوبة خلال النظرة الشرعية التي لا تتجاوز بضع دقائق، ولكن لحسن حظي اختلف الأمر معي وتركوني آخذ راحتي كاملة دون أي حرج أو تضييق..
فرش أخوها سفرة الطعام أمامي.. أخذت تتتابع علي الصحون والأكواب كل دقيقتين صحنا بعد صحن.. كوبا بعد كوب.. ماء.. بسبوسة.. كنافة.. بيتزا.. منفوش.. عصير.. شاهي.. إلخ..
ومضت خمس دقائق بل عشر بل عشرون.. كأنهن في حساب الإحساس أعوام وسنون.. ويطول الانتظار.. يطول ويتمدد.. وأهم بالنطق ثم أتردد.. أتحرق شوقا فأدفع نفسي وأتشجع.. أتوجس خيفة من ارتكاب زلة غير مغتفرة فأتراجع.. أظل قلقا متوترا تتناوشني مشاعر متنافرة.. كقارب صغير تتلاعب به الأمواج يمنة ويسرة..
أخيرا أتجرأ وأنطق وأنا أتكلف الهدوء:
– ترسل إلي صحنا بعد صحن ولا تأتي.. هي من أريدها ولأجلها أتيت، لا لأجل هذه الصحون يا حميد..
يطأطئ رأسه خجلا ويبتسم.. يضع الصحن على السفرة ويسرع إليها.. لم يمض وقت طويل حتى رأيت حركة وسمعت خشخشة من وراء الستار.. كأنها أقبلت تريد الدخول.. دق قلبي بعنف.. كأنه لم يكن يدق قبل اليوم.. كأنه يريد أن يفر.. مهلا يا قلبي الجبان.. أتريد أن تتركني وأواجه المصير وحدي وتفر؟ كن معي في هذه اللحظات العصيبة.. ساندني ولا تتخل عني.. تذهب كل توسلاتي سدى.. لا يجيب قلبي إلا بمزيد من النبضات العنيفة المتتابعة..
وأخيرا دخلت “الحورية الفاتنة”! كذلك سميتها من لحظتِئذ.. دخلت وأشرقت، فإذا الدنيا غير الدنيا، وإذا الشعور غير الشعور، وإذا الفتنة أمامي قائمة تتلألأ بالحسن بهاء وجمالا، وتكاد تسيل بين يدي رقة ودلالا، وتود لو استطاعت أن تذوب حياء مني وخجلا!
دخلت مطأطئة الرأس لا ترفعه، وظلت واقفة بتأدب ولا تقعد، وآذن لها بالقعود فتقعد، وأسألها فتجيب، وأكلمها فترد، وأطلب إليها فتستجيب.. سألتها عن حالها وعمن طبخ ما في الصحون أمامي فأجابت بأنها هي، وكلمتها عما حدثتني به أمي وأختي من شأنها فردت بما يناسب الحال، وطلبت إليها أن تقطع لي الكعكة لآكل منها فاستجابت؛ كل ذلك بهدوء وتماسك مصطنع لا ينجح في إسدال الستار على ما في نفسها من موافقة وارتياح ورضى..
وأحدث نفسي: قد صدقت أختي.. حقا إنها لوضيئة وجريئة وبريئة، وبراءتها في عينيها حينما تشعان بلمع وبريق، وجراءتها في شفتيها حينما تنفرجان عن صوت دافئ ورقيق، ووضاءتها في خديها حينما يتوردان بحمرة وحريق!
وكنت أقرأ وأسمع من قبل أن أراها عما يسمونه بالحب من أول نظرة، وكنت أتوهم أني أفهم معناها، وأني أعرف مغزاها، فلما رأيتها، ووقع نظري عليها، وقرأت سطور الرضى في عينيها؛ أيقنت أني لم أكن أفهم معنى الحب من أول نظرة، ولم أختبر شعور الحب من أول نظرة؛ إلا بعد تلك النظرة الساحرة، في تلك الليلة الشاعرة!
وكنت قبلها مضطربا متوترا لا أسكن في نفسي ولا أهدأ، وكنت أكثر من الاستخارة مرة بعد مرة، وكنت في داخلي قلقا متوجسا لا قرار لي، فلما أشرقت علي من وراء الستار كما تشرق شمس الشتاء على صباح بارد مرتجف، ورأيتها رؤيا العين أمامي صافية بيضاء نقية؛ إذا بي غير من عرفت، وإذا هي غير من سمعت! رأيتها، فلكأني لم أر قط في حياتي امرأة قبلها، ولكأن الحب “الكاسح” وقع من أول نظرة حينها.
وهدأت نفسي واستقرت، وشعرت براحة واطمئنان، وشعرت أني أعرفها من قديم، وأني كنت أنتظرها من سنين، وأنها هي من كنت أبحث عنها، وارتفع عني الخوف والقلق، وذهب عني التوتر والاضطراب، وانطلقت بسجيتي أتصرف، وطفقت بعفويتي أتكلم، وصرت أحادثها مرة، وأناجيها مرة، وأغازلها مرة، وأمازحها مرة، وأشاكسها مرة. وكل ذلك محتفظا بهيبتي، متحكما في هيئتي، لا أخرج عن طوري ولا أتخلى عن سمتي.
ثم عرفت من بعد أنها جاءت وفق ما أشتهي في كثير من أمورها.. أردتها صغيرة فكانت تصغرني بعشر أو تزيد، وأردتها هيفاء طويلة فكانت كما أردت، وأردتها تمت إلي بصلة من قرابة فكانت لي قريبة من جهة أبي.
وكنت أستبطئ الوقت وأستطيله قبل دخولها، فصرت أستأخره وأتوسل إليه قبل خروجي من عندها، ولكنه لا يستجيب لي في كلا الحالين. وإذا بي أسمع الأذان أذانَ العشاء، فأفيق من ذهولي ونشوتي بما يشبه الصدمة، وإذا بي قضيت عندها وفي حضرتها مثل الذي قضيته في انتظارها، وإذا بي مجبور مضطر إلى الخروج، وإذا بي أجدني مغروسا حيث جلست.. لا قوة لي على القيام، ولا رغبة لدي في الانصراف..
وأنتزع نفسي من مجلسي انتزاعا لأقوم، واستأذنها لأخرج، ولكني أترك عندها قلبي الذي كان يريد أن يفر مني قبل قليل، وأدفع إليها الهدية مغلفة موضوعة داخل كيس فاخر، وأخرج مودعا وأنا أتمنى في نفسي أن لو كنت أنا الهدية نفسها؛ لأبقى عندها.. أستمتع برؤيتها، وأطرب بصوتها، وأنتشي برائحتها، وأسعد بلمساتها، وأحظى برعايتها، وأنعم بجوارها، وأبقى طويلا بحوزتها.. وأتساءل في نفسي وأنا أتحرق شوقا وأكتوي بناره المستعرة: ترى هل تتحقق الأمنية قريبا؟
وهنا قاطعت زميلي الروهنغي وقد أوشك الليل أن ينتصف، واقترب موعد تسليم المناوبة لغيرنا:
– كيف وجدتها وقد تحققت الأمنية؟
– خيرا مما كنت أمني به نفسي.. عشت معها بحمد الله في جنة الزواج الناجح المبارك طيلة عشر سنين.. عشت معها في عش زوجي دافئ يأوي بين جنباته حمامتين رقيقتين وديعتين سعيدتين!
– فكيف هان عليك فراقها وتركها هناك، وجئت هنا لتطارد الموت في كل لحظة ومع كل طلقة؟!
كأني باغتّه بسؤالي دون أن يتوقعه.. نظر في وجهي مباشرة وأطال النظر قبل أن يقول وهو يغمض بعينيه ببطء ويتخشع:
– تلك هي المعجزة الروهنغية التي لم يكن يتوقعها أحد!
وزفر زفرة طويلة ثم أكمل وقد ظهر الإيمان في وجهه بما يقول:
– الروهنغيا عاشوا سنين طويلة مسالمين وديعين صابرين سواء هنا في أراكان أو هناك في المنافي والمهاجر؛ ولكن الثورة الإسلامية وروح المقاومة لم تمت في داخلهم.. ظلت تشتعل تحت طبقات من الرماد الساخن في نفوسهم ودمائهم.. ربما كانت تترقب الفرصة المناسبة وتتحين اللحظة الحاسمة التي أظهرتهم فجأة على حقيقتهم لكل العالم!
وسكت بعدها سكوتا طويلا ولم ينطق، وراح ينظر إلى بعيد وهو يتأمل، ووجدتني أحترم رهبة الموقف رغما عني وأشاركه في السكوت والتأمل!