وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
بعد عشر سنوات من ثورة طالبت بإنهاء الظلم وسيادة الديمقراطية وشيوع السلمية في ميانمار، تقف مشكلة عداء المسلمين واضطهادهم عائقا أمام تلك الصورة، ومناقضة لجائزة نوبل للسلام التي حصلت عليها رئيسة البلاد، يناقش كاتب المقال دور الرهبان البوذيين في ثورة الزعفران السلمية والاضطهاد العنيف للروهنغيا.. بين الواقع والأسطورة.
نص المادة
ذات ليلة في مدينة رانغون العام الماضي، ذهبت إلى لقاء لشرب البيرة مع أحد من شاركوا في ثورة الزعفران في ميانمار، التي شهدت احتجاج عشرات الآلاف من الرهبان البوذيين والراهبات على المجلس العسكري السابق، ما أشعل حملة عسكرية وحشية قبل 10 سنوات.
وقد يبدو أن لقائي لشرب البيرة مع راهب أمرا غريبا، ولكنه قد ترك الرهبنة منذ فترة طويلة. غير أنني شعرت أن ذلك أيضا كناية عن التغييرات التي حدثت لميانمار، ولافتقار البلاد إلى نهاية خيالية لحكايتها.
بينما كنا جالسين مع نشطاء سابقين آخرين يشربون ويدخنون السجائر، تحدث عن كفاحه لكسب العيش وعن حالة الديمقراطية الميانمارية الناقصة. فقد فازت أونغ سان سو تشي بانتخابات في تشرين الثاني / نوفمبر 2015، لكنها كانت ما زالت محرومة من الرئاسة وفقا لدستور عام 2008 الذي صاغه الجيش.
وتكلم عن تمنيه بأن يصبح المزيد ممن كانوا جزءا من الحركة المؤيدة للديمقراطية في مناصب سلطة في الحكومة الحالية، وتذكر محاربة الظلم جنبا إلى جنب مع 80 ألف من الرهبان خلال ثورة الزعفران. وقال “لقد قدتهم، فأنا أريد ديمقراطية حقيقية. أريد من ضحى بحياته أن يكون له دور في السياسة وأن يجلس الأشخاص المناسبون في المنصب الصحيح”.
وقد أوضح لي صوته المحبط وجود وعي ليس بالسهل أن الرهبان لم يعودوا يلعبون الدور الذي كان لهم ذات مرة. فخلال ثورة الزعفران، ساعدوا على دفع البلاد نحو الديمقراطية، واكتسبوا الشخصية التي تبلورت في شكل أسطورة مطمئنة: فالرهبان بشكل عام سلميون وهادئون و”طيبون”، ورهبان ميانمار على وجه الخصوص هم الأنصار النبلاء ضد نظام عسكري شرير.
ولكن بعد مرور أقل من خمس سنوات على ثورة الزعفران، كان رهبان ميانمار على الشاشات يتوعدون في وسائل الإعلام التأثير الخبيث للمسلمين على الأمة البوذية، مع توجيه خاص إلى الأقلية المسلمة للروهنغيا في ولاية أراكان، بالقرب من الحدود مع بنغلادش.
ونظرا للوقت القصير بين هاتين الفترتين من التاريخ الميانماري، هل كانت ثورة الزعفران فاشلة؟ أم أنه ببساطة أسيء فهمها؟ ماذا حدث للرهبان “الطيبين” الذين شاركوا فيها؟ هل يتواطؤون مع الرهبان “السيئين” – المتطرفين المتشددين الذين غالبا ما تصدروا عناوين نشر معاداة للمسلمين؟
تتزامن الذكرى السنوية العاشرة للثورة مع تصاعد الضغوط الدولية على أونغ سان سو كي، الزعيم الحقيقي لميانمار، بشأن اضطهاد أقلية الروهنغيا. وكما يخضع وضع سو كي كقديسة علمانية لتدقيق أكبر، كذلك ينبغي لأساطير ثورة الزعفران المقدسة أن تخضع للتدقيق ذاته.
وهذا لا يعني إنكار إنجازات الرهبان -كما اقترح البعض سحب جائزة نوبل للسلام من سو كي- ولكنه يعني تعميق فهم دور ميانمار والبوذية المركبة في بلد معقد. ربما ساهمت ثورة الزعفران في دفع المجلس العسكري نحو الإصلاحات التي اعتمدها في عام 2011، والتي بلغت ذروتها بانتصار الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية في عام 2015 وزعيمتها سو كي. إلا أنها ساهمت كذلك في إساءة فهم طبيعة البوذية في ميانمار، وما يهتم به البوذيون هنا وما يريدون.
وكانت القصة أكثر تعقيدا من صورة الرهبان البوذيين الذين كانوا لا يريدون شيئا سوى إنهاء الديكتاتورية العسكرية المقيدة للحريات. مع صوره لأوعية الصدقات المقلوبة اعتراضا والرهبان الشجعان الذين يواجهون الجيش الميانماري العظيم، حجبت ثورة الزعفران خوفا عميق الجذور بين البوذيين حول الهشاشة المتصورة لمستقبل معتقدهم والشعور بأنه على الرغم من ميانمار كانت بوذية بأغلبية ساحقة، فقد شكل الإسلام تهديدا لها.
وفي الواقع فقد تم التصرف بناء على هذا الشعور عدة مرات قبل الثورة. حيث ترجع كراهية المسلمين في البلاد إلى الحقبة الاستعمارية وإلى وصول أعداد كبيرة من العمال في جنوب آسيا على يد بريطانيا بعد مطلع القرن الماضي. ومنذ عشرينيات القرن العشرين، كانت هناك انفجارات دورية للعنف ضد مجتمعات جنوب آسيا التي نشأت، لتشمل المسلمين بينهم.
بعد الاستقلال وبدء الحكم العسكري في عام 1962، قام الجنرال ني وين بإطلاق مئات الآلاف من جنوب آسيا، وبدأ المجلس العسكري في تبني سياسات اضطهدت الروهنغيا. وكان يتم اعتبار الروهنغيا مهاجرين من بنغلادش، على الرغم من وجود جذور أجيال منهم في ولاية أراكان منذ مئات السنين.
تقول روزاليند راسل في كتابها “ربيع ميانمار”: “على الرغم من أعدادهم المتناقصة، فإن العداء تجاه المسلمين قد تفجر تحت السطح خلال السنوات الطويلة الحكم العسكري لميانمار.” وتضيف “تم تقييد حرية التعبير، ولكن الشعور بالسوء لم يتبخر.” فالمشاعر المعادية للمسلمين -التي عادة ما تحولت لأعمال عنف- اندلعت في الثمانينات والتسعينات، وفي عام 2001 بعد أن فجرت حركة طالبان تماثيل بوذا باميان في أفغانستان.
وحتى في خضم ثورة الزعفران، كان أشين ويراثو -الراهب الذي سيصبح وجه القومية البوذية المتشددة في ميانمار- قابعا في السجن للتحريض على العنف ضد المسلمين في عام 2003. بعد عام 2011، تغيرت الأمور وسط تحول غير مؤكد. وأُلغي نظام مضن من الرقابة قبل النشر. وأصبحت حريات جديدة للتعبير متاحة عندما أصبح الإنترنت متاحا على نطاق أوسع. وتم الإفراج عن ويراثو بالعفو.
في عام 2012، ارتفع العنف القبلي في أراكان، مما أسفر عن مقتل المئات وإرسال أكثر من 140 ألفا من الروهنغيا إلى معسكرات النزوح الداخلي، ولم تعد مثل هذا الانفجارات تحدث كل سنتين، بل كل عام. كانت الجماعات القومية البوذية سريعة الاستيلاء على المشهد، في حين أن العديد من الرهبان غير المتشددين من سنوات الزعفران لم يتعافوا حقا من القمع- إذا كانوا قد نجوا منه أصلا.
فقد أجبروا على النفي، أو كانوا يعالجون من مشاكل نفسية نتيجة الفترة التي أمضوها في السجن. كما رفضتهم الأديرة، التي تدعمها الدولة. ولم يكن يسمح حتى قبل خمس سنوات أن تجرى الاحتفالات بثورة الزعفران بشكل صريح داخل ميانمار.
ولكن سيكون من التبسيط المفرط اقتراح أنه لم يكن هناك أي تداخل أيديولوجي بين رهبان الزعفران وأخوتهم الأكثر قومية. في حين أن العديد من رهبان الزعفران قد تحدثوا ضد العنف الديني ولصالح المصالحة، فإنهم قد تشاركوا بعض الآراء مع القوميين، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالروهنغيا.
وقال لي مارك فرمانر، مدير مجموعة ميانمار في لندن، في رسالة بالبريد الإلكتروني إنه عندما زار أحد زعماء الزعفران مكتب المجموعة، ذكر أنه يجب وضع الروهنغيا في المخيمات حتى يتم ترحيلهم. فليست فكرة أن الروهنغيا غرباء عن البلاد أمرا غريبا حتى بين الناشطين المؤيدين للديمقراطية.
وقد فر ما يقرب من 500 ألف من الروهنغيا الآن إلى بنغلادش، حيث تتفاقم المشاعر المعادية للمسلمين مرة أخرى. بينما يتعهد العالم بإعادة النظر بشكل دراماتيكي في ميانمار وما بدا أنه قصة نجاحها الديموقراطي، فيجدر ذكر أن الأزمة يمكن أن تثير تفهما أعمق لتاريخ البلد وسياساته.
ولكن هذا التقييم النقدي لا ينبغي أن يحدث بين الصحفيين الفضوليين والأوساط الأكاديمية، وجماعات الحقوق المدنية، ومؤيدي نضال ميانمار من أجل الديمقراطية فحسب، بل يجب أن يحدث داخل البلاد كذلك.
وقد حدث، ففي عام 2013، نشرت مجلة إيراوادي مقالا بعنوان “جانبا سانغا”، يضم مقابلتين مع اثنين من الرهبان: أحدهما شخصية بارزة من ثورة الزعفران، والآخر عضو في حركة “969” القومية البوذية المنشأة منذ عامين آنذاك.
وعندما سئل راهب الزعفران في مقابلته لماذا أصبحت 969 شعبية جدا. أجاب بصراحة: “لأن السلطات المعنية لم تتخذ الإجراءات اللازمة. بالإضافة إلى أنه على الرغم من أن معظم الميانماريين متسامحون، هناك مشاعر مغطاة معادية للمسلمين. إنه أمر مشابه تماما لما حدث في الماضي، عندما أيدنا بشدة أي شخص قال شيئا سيئا عن الجيش. “
ولكن هذا النوع من التقييم الذاتي قد يقتصر على الرهبان الأكثر تقدما الذين يشكلون بقايا ثورة الزعفران، والذين لا يبدو أنهم في وضع يسمح له بتحدي الرأي السائد صراحة. أو ربما يعني أنهم لا يريدون ذلك بالقدر الكافي، وأن فكرة “الراهب الجيد” مقابل نموذج “الراهب السيئ” هو أسطورة أخرى.