لم نجد مفراً أمام إصرارها العنيد .. ما كنا نرغب في العودة مطلقاً .. خصوصاً أنا بالذات .. كانت عندي خطة مغايرة .. ما عهدناها يوماً بهذا العناد ؛ لكنها قالت :
– أريد أن أموت في حجرتي .. بين جدران بيتي !
لا تعلم أنه لم يعد لنا بيت .. أحرقوه وتركوه رماداً .. تناوبت أنا وإخوتي في حملها مغمى عليها طوال الطريق إلى القرية المجاورة .. لم تفق إلا هناك .. بين أفواج المشرّدين الجياع .. هائمين على وجوههم في العراء .. يهمي عليهم المطر من السماء .. لا مأكل ولا مشرب ولا مأوى .. في برد الشتاء القارس ..
سألتنا بحرقة أول ما فتحت عينيها :
– لماذا أتيتم بي إلى هنا؟ أريد أن أعود إلى بيتي !
من حين ضربها الجندي البوذي الفظّ بطرف بندقيته على صدغها سقطت مغشياً عليها ، ولم تعد تعلم شيئاً عن كل ما يجري حولها .. لم يرحم الجندي شيخوختها .. خرجت دوننا تفتح له الباب بشجاعة .. لم يمهلها الجندي لحظة .. ضربها واقتحم علينا البيت ، وتبعه زملاؤه .. أخذوا يفتشونه شبراً شبراً ؛ ولكنا كنا مختبئين في القبو .. نسمع دويَّ نبضات قلوبنا .. كأنها طرقاتهم العنيفة على باب بيتنا .. لم يجدوا على أثر لنا .. غادروا البيت وتركوا الباب مفتوحاً .. لم نصدق أننا نجونا .. وجدناها على عتبة البيت ساقطة .. تنزف من صدغها بغزارة ..
بادرنا بحملها نفرّ مع الفارّين من الحرائق العظيمة التي أشعلها العدو .. تأكل الأخضر واليابس .. في كل اتجاه .. لا أريد أن أتذكر منظر القرية وهي تحترق .. بكل ما فيها ومن عليها من البشر .. إلا من بادر وفرّ .. من المحرقة البوذية المشتعلة .. بكل شراهة ووحشية طالت ألسنة اللهب .. منازل الأشجار وبيوت القصب .. تخيّلت أننا في الجحيم ..
لطف الله بها حين سلب منها وعيها .. لم نقو على إخبارها بالحقيقة .. وأي حقيقة؟ أخذت تسألنا وتلح .. يغفر الله لنا .. لم نجبها إلا بالسكوت المطبق .. كادت تلعننا وتدعو علينا ؛ ولكنّ بعض المشرّدين تطوّعوا .. أخبروها بأن العدو أحرق جميع البيوت في القرية .. ردّت عليهم بذهول غريب :
– إلا بيتي !!
أشفقوا عليها ولم يردوا عليها بشيء ..
تناوبنا في حملها من جديد .. عائدين بها إلى البيت بعد يومين .. حين هدأت الأوضاع قليلاً في القرية المحروقة ؛ ولكنها يقظى هذه المرة ..
ما كدنا نقترب من القرية حتى صرخت بأعلى صوتها تتأوّه .. رأت بأم العين ما لم تصدّقه أول مرة .. أيقنتْ أخيراً أنه لم يعد لنا بيت .. لم يعد لنا وطن .. فقدنا كل شيء .. عدنا إلى الصفر الذي لا شيء قبله ..
ظلت تئنّ إلى أن وصلنا موضع بيتنا .. أنيناً شجياً يقطّع القلب حسرات .. يمزّق الكبد فلذات ؛ ولكنها فقدت قدرتها على الأنين بعد قليل .. فقدت قدرتها على الصمود في الحياة بالكلية .. بعدما رأت الجحيم عياناً .. ماتت في حجرتها .. بين جدران بيتها .. كما كانت تحلم ؛ ولكن بعد أن صار رماداً تذروه الرياح ..
وجدنا آخرين مثلنا .. رجعوا إلى بيوتهم .. عزّ عليهم أن يفقدوها ، أو يفارقوها ، أو يموتوا بعيداً عنها .. عفواً .. لم تعد هناك بيوت .. مجرد كتل متناثرة من الرماد هنا وهناك .. تسفيها الرياح بين حين وحين ..
عاث العدو فساداً في بيوت القرية كلها .. نهبوا خير ما فيها .. قبل أن يضرموا فيها النيران الحاقدة .. بقروا بطون الحوامل ! لعبوا بالأجنّة كالكرة ! بقين ولم يهربن .. كيف والحمل يثقل عليهن؟ نزعوا الثياب عنهن .. مثّلوا بأجسادهن .. قطّعوا أثداءهن .. عبثوا بفروجهن .. شوّهوا أجسامهن .. في ساحة القرية المفتوحة ألقوا بجثثهن .. أي وحشية فتكت بهن؟
لم تطق أمي رؤيتهن .. لعنة الله عليكم أيها "الموغ" .. سحقاً لكم يا عبّاد "بوذا" .. أبشروا أيها المتوحشون البرابرة : أراكان الجريحة لن تموت .. مهما بقيت نازفة الجراح .. هذه دماء طاهرة .. تروي بها الحرائر أرض الوطن .. ولن تذهب يوماً سدى ؛ ولكن أمي سقطت من لحظتها مشلولة!
بالأمس كن جاراتها وصويحباتها .. تحكي لهن .. تعظهن .. تمشّط لهن .. تباشر ولادة الحامل منهن .. يصغرنها في أعمارهن .. بمثابة أمّ أو حتى جدّة لهن .. واليوم سفك العدو دماءهن ، وولغ في أعراضهن ، ونال من شرفهن .. كيف تقوى على الحياة بعدهن؟ كأنما أرادت أن تلحق بهن ، وأن لا تتخلّف طويلاً بعدهن ..
تعاونت مع إخوتي في حملها مشلولة .. إلى حيث كانت تصلي في حجرتها المحروقة .. من الموضع الذي كان بيتنا .. فرشت لها ردائي على الأرض .. أرقدناها على جنبها الأيمن .. وجّهناها إلى القبلة .. رفعت سبّابتها الواهنة المعروقة لأعلى .. تمتمت بشيء غير مفهوم .. خمدت أنفاسها .. أسلمت روحها .. تعالى في الفضاء نواحنا .. تجمّع العائدون حولنا .. يلقون عليها نظرة الوداع .. هادئين صامتين مستسلمين ..لا عزاء لا سلوى .. لا حديث إلا حديث الدموع ..
تسلّلت من بينهم بخفة وهدوء .. لم يحسوا بي .. ودّعتهم في نفسي .. بصوت غير مسموع : وداعاً أمي .. وداعاً إخوتي .. نور الحق .. نور عالم .. نور البشر .. لا تبحثوا عني .. لا تسألوا عن أخيكم نور محمد بعد اليوم .. وداعاً جيرتي .. وداعاً قريتي "منغدو" .. وانطلقت أعدو بكل همتي .. لا ألوي على شيء ، ولكن .. لا أدري إلى أين؟!!
***
إبراهيم حافظ
لجينيات