وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
مفارقتهم أصعب من الوصول إليهم، ومهما سمعت عن حكاياتهم فليس من سمع كمن رأي وسماع قصصهم البطولية علي ألسنتهم يجعلك تشعر رغم المرارة بالفخر بهؤلاء البشر الذين يتحملون مالا يطيقه بشر في سبيل الدفاع عن هويتهم ووجودهم بعد أن نجحوا في الفرار بأنفسهم وعائلاتهم وأطفالهم من المحارق التي نصبها لهم الأغلبية البوذية في ميانمار أو ميانمار (80%من عدد السكان) والتي ترفض الاعتراف بالأقلية المسلمة كمواطنين أصليين للبلاد وتقوم بعمليات تطهير عرقي واسعة النطاق في تحد واضح للمجتمع الدولي. وهو ما جعل منظمات الإغاثة الدولية تطلق صيحات التحذير الواحدة تلو الأخرى لإنقاذ سكان هذه المخيمات من تفشي الأوبئة والأمراض الناتجة عن تكدسهم في تلك البقعة التي وصلوا إليها عبر موجات متتالية من الهجرة خلال عقود طويلة من الزمن.
أكثر من 15 ساعة ما بين الطيران والطرق البرية استغرقتها رحلة الوصول إلى معسكرات الروهنغيا بدأت من مطار القاهرة إلي الكويت حوالي ثلاث ساعات ثم من مطار الكويت لمطار العاصمة البنغالية دكا ما يقرب من سبع ساعات ثم ساعة أخرى من مطار دكا إلى مطار المدينة الحدودية »كوكس بازار» التي تستضيف هؤلاء المسلمين في 17 معسكرا اقامتها سلطات بنغلادش لإيوائهم.
أما الطريق من مطار كوكس بازار إلي الحدود مع ميانمار فقد استغرق بالسيارة حوالي ثلاث ساعات متواصلة كلها علي ساحل البحر في أطول شاطئ رملي والذي يعتبر أحد عجائب الدنيا السبع الجديدة.
ورغم إرهاق السفر إلا أنني لم أرغب أبدا في الحصول علي أي قسط من الراحة قبل أن أتعرف على هؤلاء الناس الذين لا يعرفون طعما للراحة ولولا إنسانية بنغلادش لكان مصيرهم الهلاك ما بين الصحراء القاسية أو غرقى في بحر وعلى الرغم من ظروف بنغلادش الاقتصادية القاسية إلا أنها رفضت أن تتخلى عن دورها الذي يحتمه عليها الدين والجيرة، وأنشأت هذه المعسكرات التي تحتاج إلى كثير من النفقات حتي تتحول لأماكن صالحة لاستضافة كل هذا العدد من الهاربين من عمليات التطهير العرقي حيث إن المعسكرات بوضعها الحالي تفتقر للعديد من مقومات الحياة الآدمية وهو ما يتطلب وجود دعم دولي أكبر لبنغلادش لإعانتها على توفير ذلك، ناهيك عن الدور الدولي الأهم المطلوب ألا وهو الضغط على ميانمار لإعادة هؤلاء الناس إلى ديارهم التي تم تشريدهم عنها وهو المطلب الذي لمسته من غالبية سكان المعسكرات في كوكس بازار الذين يقدرون تماما الدور الذي تلعبه بنغلادش لكنهم في نفس الوقت يعيشون على أمل أن يعودوا من جديد لديارهم وأعمالهم في ميانمار التي يحملون جنسيتها ووثائق هويتها ولكن النظام لا يريد أن يعترف بهم لا لشيء إلا لأنهم مسلمون. أما الحجة المعلنة التي يتذرع بها النظام في ميانمار هي أن مسلمي الروهنغيا جذورهم تعود إلي الهند وبنغلادش وأنهم كانوا مجرد ضيوف في ميانمار وحان موعد رحيلهم عن البلد فبدأت في عامي 2016-2017 الحملة العسكرية المستمرة من قبل جيش وشرطة ميانمار علي المسلمين في ولاية أراكان في المنطقة الشمالية الغربية للبلاد بحجة قيام بعض المتمردين من الروهنغيا بمهاجمة الجيش الميانماري.
لغة الإشارة
بقليل من كلمات اللغة الانجليزية وكثير من لغة الإشارة نجحت في التواصل مع بعض سكان تلك المعسكرات حيث لا يتقنون سوي اللغة الروهنغية، التقيت بعدد من كبار السن من الذين قدموا إلى بنغلادش في الموجات الأولى من الهجرات المتتالية مثل العم عمران أركاني مثلما ينادونه وهو صاحب بطولة كبيرة حيث نجح في إنقاذ جميع أفراد أسرته وسبح بهم في المياه العميقة التي تفصل بين ميانمار وبنغلادش وهو يتذكر تلك الأيام بنظرة وابتسامة رضا رغم قسوة الأحداث.
يقول عم محمد عمران أركاني إنه لم يفكر في الخطر المحدق به وهو يحمل على ظهره أفراد أسرته واحدا تلو الآخر ليسبح بهم لمدة خمس ساعات هربا من المحارق التي نصبها البوذيون للمسلمين .
في ميانمار غالبية شعب ميانمار من البوذيين (88٪ -90٪ من السكان)، مع بعض الأقليات الصغيرة من الديانات الأخرى، بما في ذلك أقلية صغيرة من المسلمين (4٪)، ومعظمهم تم منعهم من التصويت وحرمانهم من الجنسية.
حرمان من الجنسية
أما الشاب محمد ساجرون فيقول:” إن الروهنغيا واحدة من أكثر الأقليات المسلمة اضطهادا في العالم فتم حرماننا الحق في حرية الحركة والتعليم العالي وحرمونا من الجنسية الميانمارية منذ صدور قانون الجنسية الميانمارية ولم يكن يسمح لنا بالسفر دون إذن رسمي، كانوا يطلبون منا الالتزام بعدم وجود أكثر من طفلين، علي الرغم من أن القانون لم ينفذ بدقة. وكنا نتعرض للعمل الجبري الروتيني حيث عادة مطلوب من رجل الروهنغيا يوماً في الأسبوع للعمل في المشاريع العسكرية أو الحكومية وليلة لواجب الحراسة. كما فقد الروهنغيا الكثير من الاراضي الصالحة للزراعة التي صادرها الجيش لمنحها للمستوطنين البوذيين.”
جدير بالذكر أن اضطهاد الروهنغيا في ميانمار قد بدأ من العصور القديمة بينما يعود في العصر الحديث إلى سبعينات القرن الماضي ومنذ ذلك الحين، يتعرض شعب الروهنغيا بانتظام للاضطهاد من قبل الحكومة والبوذيين وقد فر الكثيرون إلى بنغلادش المجاورة.
»
لن أنسي».. هكذا بدأ جمال خارجون كلامه وهو يشير إلى أهله أولئك الذين فروا من الاضطهاد في ميانمار حيث تعرض النساء للاغتصاب الجماعي، وتم قتل الرجال، وأحرقت المنازل، وألقي الأطفال الصغار في منازل محترقة. حتى القوارب التي تحمل اللاجئين من الروهنغيا علي نهر ناف تم إطلاق النار عليهم من قبل جيش ميانمار الذي قام بعد ذلك بذرع الألغام على المنطقة الحدودية لضمان عدم عودة الفارين من المسلمين مرة أخرى..
نهاية الرحلة
وبعد يوم كامل في معسكرات الروهنغيا انتهت زيارتي لهؤلاء البشر الذين يضربون أروع المثل في الصبر والتحمل ولكن لم تنته حكاياتهم التي تستحق أن تروى للبشرية كلها لعل أحدا يتحرك لإنقاذهم من مصيرهم المجهول وفي طريق العودة من مدينة »كوكس بازار» كان شغلي الشاغل هو التفكير في مصير هؤلاء الناس كيف سيقضون شهر رمضان الذي أصبح على الأبواب في ظل طقس شديد الحرارة وإمكانيات حياة بسيطة رغم جهود حكومة بنغلادش الكبيرة؛ والتي استمعت إليها خلال اللقاء مع د. عبدالمؤمن وزير الخارجية ود. حسن محمود وزير الإعلام في حكومة بنغلادش، من أين لهم بالمياه النظيفة ووسائل الحياة الآدمية التي تضمن لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة وإلى متي سيراهن المجتمع الدولي علي شهامة وإنسانية بنغلادش التي تتحمل فوق طاقتها لحفظ ما تبقى من ماء وجه النظام العالمي الذي يصمت أمام هذا الجبروت من حكومة ميانمار التي نكلت بأصحاب البلد وشردتهم من أوطانهم؟.