وكالة أنباء أراكان | متابعات
تسلط الأضواء اعتبارًا من الثلاثاء على الحائزة جائزة نوبل للسلام أونغ سان سو تشي حين تمثل شخصيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي لتتولى بنفسها الدفاع عن ميانمار بوجه اتهامات “الإبادة” الموجهة إليها بحق أقلية الروهنغيا المسلمة.
وبعدما كانت رمزاً للديمقراطية، تجد مستشارة الدولة الميانمارية نفسها في مقدم المواجهة للدفاع عن بلادها ضد اتهامات “الإبادة” الموجهة إليها بحق أقلية الروهنغيا، وذلك بعد قرارها المفاجئ بالحضور شخصياً إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي.
وحضور مستشارة الدولة في ميانمار بنفسها أمام القضاء الدولي للدفاع عن بلادها المتهمة بارتكاب أسوأ الفظاعات، هو بحد ذاته بادرة غير اعتيادية إطلاقا.
وخلافا لما قام به قادة آخرون في الماضي، فإن أونغ سان سو تشي لا تنتقل إلى لاهاي حيث مقر أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، لمجرد الحضور، بل أعلنت أنها ستتولى بنفسها الدفاع عن “مصالح” ميانمار.
وستكون هذه المحاكمة أول محاولة قانونية لمقاضاة ميانمار في أزمة الروهنغيا، وهي مثال نادر على مقاضاة بلد لبلد آخر في قضية هو ليس طرفا فيها.
وأسفرت الجرائم المستمرة عن مقتل آلاف الروهنغيا، حسب مصادر محلية ودولية متطابقة، فضلاً عن لجوء قرابة مليون إلى بنغلادش، وفق الأمم المتحدة.
ويتهم الجيش الميانماري بارتكاب إبادات جماعية ومجازر وحملات اعتقال خارج نطاق القضاء، وعمليات خطف، فضلاً عن استخدام الاغتصاب الجماعي كأداة من أدوات الحرب.
تأييد محلي وسقوط دولي
ورفعت في جميع أنحاء ميانمار لافتات كبيرة تحمل صورا لأونغ سان سو تشي وكتب عليها “نحن إلى جانبك”، فيما تستعد الحائزة جائزة نوبل للسلام للمواجهة في محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة حول أزمة الروهنغيا.
ويقوم مناصرو سو تشي بدعمها عبر طباعة شعارات مؤيدة لها على قمصان، وتنظيم تجمعات وحجز رحلات إلى لاهاي لإظهار تأييدهم لها.
وعززت الأحزاب السياسية في البلاد وكذلك بعض المجموعات المتمردة المسلحة جهودها لإبراز الدعم للمستشارة، في بلد لا تحظى فيه أقلية الروهنغيا بالكثير من التعاطف ويعتبر أبناؤها مهاجرون غير شرعيين.
وأمام لافتة كتب عليها “نساند زعيمتنا”، هتف الكاتب البارز هتين لين أوو في مذياع يحمله “نحن فخورون بخضوعها للمساءلة، وبالذهاب إلى لاهاي لحماية صورة الدولة”.
وأضاف أمام حشد متحمس “دماؤنا ستتوحد وتوحدنا عندما يتطلب الأمر”.كما تظاهر الآلاف في ميانمار السبت دعما لها عشية مغادرتها إلى لاهاي، بالتزامن مع وصول وزير الخارجية الصيني بدعوة من سو تشي.
ويعتبر محللون أن امتلاك بكين لمقعد دائم في مجلس الأمن الدولي وحق استخدام الفيتو يجعل منها حليفا قيّما في وقت تواجه فيه ميانمار تدقيقا في تعاملها مع أزمة الروهنغيا.
لكن في الخارج وخصوصا في الغرب والعالم الإسلامي، ينظر لـ”سيدة رانغون” التي اعتبرت في يوم من الأيام رمزاً للسلام مثل الماهاتما غاندي ونلسون مانديلا، بأنها مدافعة عن منظمة عسكرية دموية تريد القضاء على المسلمين الروهنغيا في ميانمار.
ولذلك، حرمت سو تشي من العديد من الامتيازات التي منحت لها، كما سحبت منها جنسيتها الكندية.
وإن كان مشهد دفاع سو تشي عن بلادها أمام محكمة دولية سيلقى أصداء إيجابية محلياً، فقد يشكل ضربة قاضية لما تبقى من سمعتها الدولية.
القضاة يستعدون
وتعقد محكمة العدل الدولية التي أنشئت عام 1946 لتسوية الخلافات بين الدول الأعضاء، أولى جلساتها الثلاثاء والخميس للنظر في التجاوزات المرتكبة بحق الأقلية المسلمة في ميانمار، فاتحة بذلك ملفا بالغ الحساسية.
وفرّ نحو 740 ألف من الروهنغيا إلى مخيمات آخذة بالتوسع في بنغلادش، حاملين معهم شهادات عن عمليات القتل والاغتصاب والحرائق المفتعلة التي طالتهم، وهي انتهاكات اعتبر محققون في الأمم المتحدة أنها ترقى لمستوى “إباد”ة.
وباسم 57 دولة مسلمةً، تدعو غامبيا محكمة العدل الدولية في 10 ديسمبر إلى الإعلان عن تدابير مؤقتة بهدف منع حصول أية إبادة جديدة في ميانمار.
وتؤكد غامبيا، البلد الصغير ذو الغالبية المسلمة في غرب إفريقيا، أن ميانمار انتهكت اتفاقية الأمم المتحدة حول الإبادات بقمعها الدموي لأقلية الروهنغيا قبل عامين.
ففي 13 نوفمبر المنصرم، رفعت منظمة «روهنغيا ميانمار» الحقوقية، المعنية بالدفاع عن مسلمي الروهنغيا، دعوى قضائية في الأرجنتين، تطالب بمحاكمة زعيمة ميانمار، أون سان سو تشي؛ بتهمة «الإبادة الجماعية».
وتقدمت غامبيا بالدعوى نيابة عن منظمة التعاون الإسلامي، وطالبت فيها المحكمة الدولية بـ”اتخاذ إجراءات لوقف الإبادة التي ترتكبها ميانمار فوراً”.
ولم تخلص محكمة العدل الدولية سوى مرة واحدة حتى الآن إلى وقوع إبادة، حين دانت قتل ثمانية آلاف رجل وفتى من مسلمي البوسنة بأيدي قوات صرب البوسنة في سريبرينيتسا في يوليو 1995.
وقالت المحكمة، في بيان، «هناك أساس معقول للاعتقاد بأن أعمال عنف ممنهجة ربما ارتكبت وقد تصل لحد جرائم ضد الإنسانية على الحدود الميانمارية البنغالية».
وأضافت: «نحن بالتالي سمحنا بإجراء تحقيق في الوضع».
وأشارت المحكمة، أنها تتمتع بالولاية القضائية على الجرائم المرتكبة جزئياً في بنغلادش، وهي دولة عضو في المحكمة، إلا أن ميانمار ليست عضواً فيها.
اعتراف خجول
وتؤكد ميانمار أن تلك العمليات كانت تستهدف مقاتلين وتصرّ على أن الادعاءات بوقوع انتهاكات هي موضوع تحقيق في البلاد لدى لجان معنية. لكن المجموعات المدافعة عن حقوق الإنسان تؤكد أن تلك اللجان لا تقوم سوى بتلميع صورة الانتهاكات.
واتهم فريق الأمم المتحدة كذلك سو تشي وحكومتها بالتواطؤ في العنف، ما يمثل سقوطاً مدوياً لشخصية اعتبرت يوماً أيقونة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وقضت 15 عاماً قيد الإقامة الجبرية في ظل الحكم العسكري السابق في البلاد.
لكنها رفضت بشكل قاطع الانتقادات الموجهة ضد الجيش البورمي، ومن بينها التقرير الدامغ الصادر عن الأمم المتحدة، بحجة أن العالم الخارجي لا يفهم مدى تعقيد الوضع الداخلي.
والتنازل الوحيد الذي قدمته سو تشي هو اعترافها الخجول خلال المنتدى الاقتصادي الدولي العام الماضي بأنه “كان يمكن إدارة الوضع بشكل أفضل”، غير أن ذلك لم يضع حدا للانتقادات.
ولم تجرؤ سوى ثلاث جماعات مسلحة متمردة هي “جيش التحالف الديموقراطي في ميانمار” و”جيش التحرير الوطني في تانغ” و”جيش أراكان”، على الإعراب عن تأييدها للاتهامات بوقوع إبادة.
لكن هذه الجماعات لم تستخدم تعبير “الروهنغيا”، بل وصفتهم في بيان باسم “البنغاليين”، وهو تعبير يعد مسيئاً، لأنه يوحي بأن هؤلاء المسلمين متحدرون من بنغلادش.
مناورة أم مبادئ؟
وأثار الإعلان عن حضور الزعيمة الفعلية للحكومة الميانمارية التي ستخاطب القضاة الأربعاء، صدمة بين المراقبين الدوليين الشديدي الانتقاد لها بالأساس، وبعضهم يتهمها حتى بعدم الدفاع عن الروهنغيا.
وقال الأستاذ المساعد في القانون الدولي في كلية ترينيتي في دبلن مايك بيكر “ما قد يبدو غير اعتيادي في حضور أونغ سان سو تشي على رأس وفد ميانمار، هو أنها تُعتبر مسئولة شخصيا إلى حد ما عن الوقائع المنسوبة” لميانمار.
وينقسم المراقبون إزاء الأسباب التي دفعت سو تشي لتضع نفسها تحت الأضواء.
ويرى البعض أن حماية الجيش في هذه القضية قد يسمح للزعيمة الميانمارية بالحصول على تنازلات متعلقة بالدستور الذي وضعه الحكام العسكريون للبلاد.
وبحسب المحلل السياسي مونغ مونغ سو “سيكون هناك مفاوضات وتنازلات أكثر بين الحكومة والجيش”.
لكن يرى آخرون أن هذه الخطوة ليست سوى مناورة لاستقطاب الناخبين قبل الانتخابات الرئاسية العام المقبل، والتي يتوقع أن يفوز بها حزب سو تشي “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية”.
وأعلن خين يي من حزب “الاتحاد للتضامن والتنمية” المعارض والمرتبط بالجيش لوكالة فرانس برس “غالبية الأحزاب السياسية تعتقد أن (حزب سو تشي) سوف يستفيد من الانتخابات”.
لكن المؤرخ والكاتب البورمي ثانت ميينت أو رأى أن الأمر ليس متعلقاً فقط بالحسابات السياسية. وأعلن خلال مناسبة في بانكوك “أعتقد أنها تكبت في داخلها غضباً كبيراً إزاء ما تعتبره موقفاً غير عادل من العالم الخارجي. وأعتقد أنها في الواقع تريد أن تطرح هذه الحجة أمام المحكمة”.
وأضاف “هي تؤمن بصدق أنها الأفضل للقيام بهذا الدور”.
وأوضح ديفيد ماتيسون المتخصص في حقوق الإنسان والمستقر في رانغون لوكالة فرانس برس “إن لم تستغل هذه الزيارة سوى لتحدي العالم ومواصلة الدفاع عما لا يمكن تبريره، فسيزداد المأزق تعقيداً”.
ورأى من جهته آي لوين من المركز الإسلامي في رانغون أن سو تشي تقوم بما يجب القيام به عبر تحملها شخصياً المسؤولية والذهاب إلى لاهاي، حيث سيكشف تماماً عن حجم الانتهاكات المرتكبة. وأضاف “الأمر لا يتعلق بالربح والخسارة بل بكشف الحقيقة ورفع الظلم”.