بقلم: قيس قاسم
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
ما أن وصل محمد نور برفقة أولاده الصغار وزوجته إلى الضفة الثانية من نهر ناف، حتى بدأ يجهش بالبكاء ويتحدث بحرقة إلى فريق العمل التلفزيوني، الذي وقف على الجانب البنغلادشي من النهر، منتظراً الهاربين من شعب روهنغيا المسلم ليرووا لهم قصص ما جرى لهم على أيدي قوات الجيش الميانماري. بلا مقدمات أخبرهم بأنه فقد طفله وانقطعت أخبار والديه منذ بدء الهجوم على قريتهم وإبادة كل من فيها. «أحرقوا البيوت وأطلقوا النار على الرجال والشيوخ وحتى الأطفال واغتصبوا النساء. لم يتبق لنا شيء هناك، لقد أبيدت القرية بما فيها». يلازم البرنامج التلفزيوني الألماني «إبادة الروهنغيا» عائلة نور في رحلتها داخل بنغلادش، ويقطع معها الطرق الموحلة في انتظار الوصول إلى مكان آمن بعيد من النهر الذي طافت فوقه جثث الهاربين، ومن جانبه كان يمكنهم سماع دوي الرصاص ورؤية الدخان المتصاعد من قراهم المحترقة.
بعد رحلة دامت خمسة أيام في النهر من دون طعام، كان عليهم السير لمسافات طويلة في أرض سمحت لهم السلطات بدخولها موقتاً.
في المعسكر الموقت التقى نور والديه، لكنه لم يسمع شيئاً عن مصير ابنه. «إذا كان ما زال على قيد الحياة فسأسمع، وإذا مات فلن أراه ثانية».
في المكان الأجرد، تناول الواصلون إليه القليل من الأرز، ولقلته والطريقة المهينة التي يوزع بها، شعر الأب بالغضب لخسارته ما كان يملك. «كان عندي حقل أرز وبيوت في القرية، لكن الجيش أحرقها كلها».
هجوم قوات الجيش الأخير وإبادته الممنهجة لشعب روهنغيا المسلم، جاء بذريعة ملاحقة الإرهابيين الذين قاموا بمهاجمة أكثر من عشرين مركزاً للشرطة وقتلهم 12 شرطياً من حراسها.
يراجع الوثائقي عبر التسجيلات بداية ظهور مجموعة مسلحة مجهولة بالنسبة إلى السكان، أواخر آب (أغسطس) الماضي وإعلانهم في تسجيل فيديو تبنّي الكفاح المسلح والدفاع عن شعب روهنغيا ومقاومتهم بطش سلطات ميانمار!
بذريعة الدفاع عن المدنيين وحماية رجال الشرطة، دخل الجيش إلى قرى الروهنغيا وقام بعملية إبادة جماعية لسكانها، أما الناجون منها فكانوا يعانون في الجانب الثاني من الحدود من الإهمال وسوء المعاملة والاستغلال. للوصول إلى المعسكر المقام على التلال البعيدة، نُقلوا بسيارات حملتهم، وعند منتصف الطريق طالبهم السائق بدفع مبلغ من المال لم يكن بحوزتهم، فقرر إنزالهم وتركهم في العراء تحت مطر «مونسون» الموسمي المنهمر من دون توقف.
على حافة الطريق ناموا، وفي الليل دهست سيارة أحد أطفال نور وأصابته بجروح عالجها صيدلي مجاناً. يثير وجود الأعداد الكبيرة للاجئين أسئلة عند البنغاليين، تتعلق بطريقة استقبالهم وترك السلطات لهم يواجهون مصيرهم من دون تقديم مساعدة لهم في ظل غياب شبه تام للمنظمات الدولية.
يوثق البرنامج مبادرة رجل مُحسن ساعد نور وأهله على الإقامة وسط مزارعه، وعن دوافعه يقول: «هؤلاء بحاجة إلى سقف فوق روؤسهم، أحاول المساعدة في توفيره لهم. إنهم غرباء مساكين أُجبروا على ترك بلادهم ولم تقدم لهم الحكومة المساعدة المطلوبة».
إحدى المشكلات الجدية التي تواجه الهاربين إلى بنغلادش منع سلطاتها لهم من الإقامة حيثما تتوافر لهم إمكانية ذلك. وبدلاً من ترك الناس يقدمون المساعدة لهم، تحذر من إيوائهم وتجبرهم على الانتقال إلى «معسكرات» أقامتها على سفوح التلال البعيدة ولا تستوفي شروط الحياة العادية، ومع هذا تطالبهم وحدات الجيش بتركها سريعاً والعودة إلى ميانمار. تحت سقف بلاستيك لا يقيهم المطر، استمع معدّو البرنامج إلى عدد من اللاجئين عبّروا بوضوح عن مخاوفهم من العودة إلى بلادهم من دون ضمانات من سلطاتها بحماية أرواحهم ومنع إبادتهم كما يحصل اليوم. طالب بعضهم بتدخل الأمم المتحدة، فالعودة من دون رقابتها يعني الاقدام على الانتحار.
الأوضاع السيئة في بنغلادش ترفع منسوب الغضب عند الشباب، ومنهم من بدأ التفكير جدياً بالانتقام من الجيش عبر العمل المسلح. لم يتردد بعضهم في الإعلان عن رغبتهم في الذهاب إلى أي منظمة تعلن الحرب على السلطات الميانمارية، التي سكتت عن إبادتهم وعاملتهم كغرباء «بنغاليين» كما أكد أحدهم: «نحن لن نخشى خوض الحرب بعد كل ما تعرضنا له من إبادة وتهجير. السؤال الآن بالنسبة إلينا هو: كيف سنبدأها؟».
أثناء وجود فريق العمل التلفزيوني في المعسكر، وصلت إليه أعداد كبيرة من اللاجئين ومعهم وصل قادة منظمات وأحزاب بنغلادشية جاؤوا لاستثمار وجودهم لأغراض شخصية ولجني مكاسب سياسية.
منظمات دينية متشددة كانت تدفع وتشجع الشباب للعودة إلى الوطن وتغذي روح الغضب المتصاعدة عندهم، فيما أخرى استغلت وجودهم للتقرب من الدولة ومجاراتها في الدعوة إلى حصر وجودهم وإجبارهم على العودة بحجة الخوف من ارتكابهم جرائم والحاق أضرار بالبلاد وأهلها. يرصد البرنامج عمليات «تنظيف» تقوم بها وحدات من الجيش، في القرى والمدن وتوثق أساليب التحريض ضدهم، ليعودوا بعدها ويقوموا بجولة واسعة بين الخيام البلاستيكية يصورون بكاميراتهم الأوضاع المزرية، التي يعيش فيها نحو نصف مليون انسان أجبروا على الهروب من بلادهم وخارجها يعاملون معاملة لا تليق ببشر.
https://www.youtube.com/watch?v=ub7RwBXibdQ&t=1324s