بقلم/ د. زيد حمزة
وكالة أنباء أراكان ANA | الرأي
من منا يفكر في السفر إلى تلك البلاد الحارة التي كان اسمها بورما وأصبحت اليوم تدعى ميانمار؟ لكنها جمعية أصدقاء الآثار والتراث التي يعود لها الفضل في إتحافنا بين الحين والآخر بتنظيم رحلة مختلفة (نوعيا) إلى إحدى جهات الدنيا، وكانت هذه المرة إلى بورما وفيتنام.. وشتان ما بينهما !
لقد عرف جيلنا بورما أكثر ما عرفها في الحرب العالمية الثانية أثناء المعارك الطاحنة بين قوات الحلفاء والقوات اليابانية التي كانت قد احتلتها منذ العام 1942 وأذاقت شعبها مر العذاب وكأنه لم يكفه ما ذاق على أيدي المستعمرين البريطانيين لأكثر من مائة سنة ! وحين انهزم الجيش الياباني عام 1945 في معركة كبرى أذكر أن هوليود أخرجتها بعد ذلك في فيلم سينمائي ضخم بعنوان ( الهدف بورما ) Objective Burma.
وكان محض دعاية لبطولات الجيش الأميركي الخارقة ولم يذكر شيئا عن المقاومة الوطنية البورمية التي أبت أن تستبدل استعماراً بآخر، وتابعت نضالها حتى الاستقلال عام 1948، وفي عام 1955 شارك أونو رئيس حكومة بورما الوطنية في مؤتمر باندونغ بتأسيس حركة عدم الانحياز مع الزعماء التاريخيين لكلٍ من الهند (نهرو) ومصر (عبد الناصر) ويوغوسلافيا (تيتو) واندونيسيا (سوكارنو) فمن ذا الذي يمكن أن ينسى تلك الأيام المجيدة من تاريخ نضال الشعوب ؟
لكن كما حدث في بعض بلادنا باسم التصحيح قام العسكر منذ عام 1962 بسلسلة انقلابات دمرت اقتصاد بورما وعزلتها عن ركب التقدم واغتالت الديمقراطية واجهضت حقوق الإنسان وكان من الطبيعي أن تنشأ فيها معارضة للحكم الدكتاتوري قادتها ( الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية) برئاسة السيدة سان سوكي (ابنة أونغ سان أحد الزعماء الأوائل للحركة الوطنية) وتعرف الأجيال الحاضرة جيداً صمودها فقد اضطهدها الحكم العسكري ووضعها قيد الإقامة الجبرية لسنوات طويلة رغم فوز حزبها في الانتخابات النيابية عام 1991، وقد استغل الغرب ذلك ودعمها إعلاميا..!
في رحلتنا إلى ميانمار في منتصف أيار الماضي لاحظ بعضنا ونحن نحلق فوق عاصمتها يانغون (التي كان اسمها رانغون) والوقت قد دخل في ظلمة المساء المتأخر أن أضواء شوارعها وبيوتها وسياراتها وميادينها لم تكن متلألئة كما تعودنا أن نرى من الجو معظم مدن العالم بل كانت باهتة خافتة متفرقة وكأنها قد أطفئت بعد إنذار بغارة جوية، أو أنها فقيرة ! وصدق حدسنا الأخير بعد ان طفنا فيها وفي سواها من مدن ميانمار لستة أيام كان أبرز ما شاهدناه المعابد البوذية (البادوغا) ذات الأشكال المخروطية الجميلة ويربو عددها على ثلاثة آلاف من مختلف الأحجام وأكثرها في مدينة باغان والأراضي المحيطة بها لأنها (كما قيل لنا) تقدست ذات يوم بوجود بوذا نفسه ، وربما كان أهمها شأنا ذلك الشامخ كالهرم في قلب العاصمة يانغون وقد طلي بالكامل بماء الذهب ليضيء ساطعاً بشمس النهار ويلمع باهراً بالأنوار المسلطة عليه ليلاً، أما الأمر الطريف الذي لا ننساه ونحن نتجول في ساحات تلك المعابد تحت أشعة الشمس اللاهبة أننا كنا نتقافز فوق البلاط الساخن وهو يلسع أقدامنا حيث تقضي التعاليم بأن نكون حفاةً حتى من الجوارب !
من أسئلتنا التي لم تحرج دليلنا السياحي واحد عن الأقلية المسلمة (الروهنغيا) والعنف المسلط عليها بزعم أنها مهاجرة من بنغلادش بل طمأننا بقوله – كما تقول البيانات الحكومية عادةً – أن الأمور الآن هادئة، لكنه بالمقابل لم يحرجنا بالحديث عما نعرفه من دوْر المدارس الدينية التي أنشأتها بعض دول الخليج في منطقة الروهنغيا تابعةً لتلك التي في باكستان وبنغلادش !
ونحن نتنقل بين المدن بالطائرة سألنا عن القطارات فكان الجواب لقد ألغتها الحكومة العسكرية منذ وقت طويل ما ذكرني بقرار الدكتاتور السوداني جعفر النميري في ثمانينات القرن الماضي بأغلاق السكك الحديدية حتى يتخلص من معارضة اتحاد نقابات العمال الذي كان يعتمد في قوته على عمالها!
وبعد.. ماذا عن المرأة في ميانمار ؟ إنها ليست معلبة أو مخبأة أو محجوبة عن الأنظار كما في بعض مجتمعاتنا بل مشاركة في كل نشاطات الحياة التي شهدناها، فهي البائعة الأولى في الأسواق الشعبية للخضار والفواكه والأسماك ، وهي العاملة الأهم في المدن والقرى الفقيرة، في مغازل الحرير ونسيج التيوليب والمشاغل اليدوية لأواني اللاكر من أغصان البامبو، وهي المديرة الناجحة في أرقى المنتجعات السياحية كتلك التي على شاطئ بحيرة إنلي وهي التي تستعمل الدراجة النارية بكثرة لافتة حاملة معها أفراد عائلتها أو بضاعتها، وأخيراً لا آخراً هي المرأة السياسية الاشهر سان سوكي التي ما لانت وهي تقارع منذ عقود الدكتاتورية العسكرية حتى اجبرتها على الاعتراف بها وبحزبها فأشركتها مؤخرا في الحكومة ، لكننا من خبرات سابقة، نتوجس خيفة عليها وتساورنا الشكوك حين نراها محاطة بحفاوة الغرب !