بقلم: د. عيسي حمودة
وكالة أنباء أراكان ANA | سودانايل
هذا مقال أشبه بالمدونة الشخصية وليس تحقيقا أو بحثا في تجربة ميانمار.
رأيت نشرة على خلفية مشاركتي في التوقيع قبل أيام قلائل على نداء من شباب وأبناء وبنات جنوب كردفان/ جبال النوبة من أجل وقف الحرب وتوصيل المساعدات الإنسانية. الذي نُشر في سودانايل ووسائط أخرى والصحف داخل السودان.
لقد ساعد تواجدي في ميانمار خلال السنين الأربع الاخيرة (2012 - إلى الان ) إلى نمو قناعة لدي بقوة وفاعلية العمل المدني السلمي لاقتلاع الدكتاتوريات. رأيت كيف أن المقاومة المدنية حتى السلبية منها - كمجاهرة الناس بعدائهم لحكم الجنرالات في تجمعاتهم الاجتماعية فقط وليس من خلال مقاومة منظمة- قد أتت أكلها وأحدثت تحولا ديمقراطيا! وإن أتى ذلك التغيير بعد أكثر من نصف قرن من المعارضة.
خلفية تاريخية للحرب الأهلية و العمل المسلح في ميانمار:
في الثاني عشر من فبراير من كل عام تحتفل جمهورية اتحاد ميانمار ( تم اعتماد اسم ميانمار بواسطة العسكر في 1988 بدلا عن اسم بورما) بعيد الاتحاد. وهو عيد لإحياء ذكرى توقيع اتفاقية بانغ لونغ في 1947 Panglong Agreement بين الحكومة البورمية وثلاث حركات إثنية مسلحة، وهي السنة ذات التي تم فيها التوافق على دستور الاستقلال. قاد تلك المفاوضات رئيس الحكومة الانتقالية والزعيم الوطني الجنرال أُنغ سان - والد السيدة سو كي ( تنطق چي) زعيمة حزب الرابطة الوطنية للديمقراطية ومستشارة الدولة الآن. ونص دستور 47 على حقوق سياسية ومدنية للاثنيات في ظل دولة اتحادية وحكم ذاتي لمدة عشرة سنوات يجري بعده تقرير للمصير أو البقاء في الاتحاد، وأشير هنا إلى نقطة حساسة في الصراعات تناولها ذلك الدستور وهي مسالة الدين. نص دستور الاتحاد على أن البوذية هي الديانة التي تعتنقها الأغلبية العظمى من ميانمار وأقرت الفقرة الثانية بأن الدولة تعترف بالإسلام، المسيحية، الهندوسية و الديانات المحلية animism كديانات تُمارس في ميانمار، و ذُكر أن السيد أُونغ سان عمل على عدم إيراد الإشارة إلى أن البوذية هي ديانة الأغلبية ولكن كانت هناك مجموعات ضغط يقودها السيد نو الذي أصبح فيما بعد الاستقلال رئيسا للوزراء- قد نجحت في خلق رأي عام ونجحت في إدراجها وعلى الرغم من عدم الإيفاء بتنفيذ الاتفاقية بعد الاستقلال - إذ اغتيل راعيها الجنرال أونغ سان بعد شهور من توقيع الاتفاقية وقبيل الاستقلال - إلا أن ذلك التاريخ أصبح هو عيد الاتحاد الرسمي.
توجد في ميانمار ١٣٥ من الأعراق /الإثنية القومية التي تعترف بها الدولة بما فيهم إثنية الكامان المسلمة. والأخيرة هي الأقلية المسلمة الوحيدة التي يعترف دستور 2008 بها وسط العديد من الأقلية المسلمة الأخرى من أصول هندية أو صينية. ورسميا لا يعترف بالروهنغيا كعرقية/كاثنية ميانمارية وإنما يطلق عليهم مجتمع البنغال.
تعود جذور الصراعات الاثنية المسلحة في ميانمار إلى تاريخ بعيد في التهميش الجغرافي، السياسي والاقتصادي يسبق تاريخ استقلال ميانمار ولكن أصبحت أكثر عمقا قبيل تحقيق الاستقلال وبعده، ويهيمن شعب البامار - وهو المجموعة المركزية - هيمنة تشمل الأرض والدولة ليس في هرمها الأعلى بل جميع مؤسسات الخدمة المدنية، الدبلوماسية، الشرطة، التعليم وبالطبع الجيش والشرطة والأمن. وهو وضع لا يزال قائما.
الفترة ما بين الاستقلال في عام 1948 وحتى عام 1962, تمتعت ميانمار بحكم ديمقراطي برلماني وان سيطرت عليه الأغلبية البورمية. ظل وضع الحركات الاثنية كما هو كما تخللت هذه الفترة حروب من الحكومة المركزية ضد هذه الحركات والمجموعات الاثنية.
في فترة النظام الديكتاتوري العسكري الذي امتد لأكثر من خمسين عاما - من 1962 حيث الغي دستور الاستقلال المشار إليه أعلاه وإلى عام 2010 حيث جرت الانتخابات البرلمانية على ضوء الاتفاقات على إصلاحات شاملة بما فيها قيام انتخابات برلمانية ورئاسية في 2015 - واصلت هذه الحركات الاثنية المسلحة حروبها ضد المركز. وكحال جميع حركات المقاومة المسلحة تعرضت هذه المجموعات إلى هزات وهزائم قادت إلى تشظيها إلى عدة مجموعات. كما قامت حركات مسلحة جديدة من مجموعة إثنية.
الآن توجد في ميانمار عدة حركات إثنية مسلحة كجيش كاشن الذي يمثل أقلية كاشن المسيحية في الشمال الشرقي وعلى الحدود مع الصين؛ جيش وتنظيم كارن وهي أقلية مختلطة الديانات ولكن أغلبها من المسيحين وقليل من البوذيون على الحدود مع تايلند ومجموعات اخري على الحدود الشمالية مثل مجموعة الشان، ومجموعات الواا، وعلى الحدود الغربية مع الهند وبنغلاديش مثل الراخين وهي إثنية بوذية. كما كانت هناك تنظيمات مسلحة وسط أقلية مسلمي الروهنغيا مثل الجبهة الوطنية للروهنغيا، ومنظمة التضامن الروهنغي و جبهة مسلمي أراكان. ولكن اختفت أو ضمر نشاطها منذ بداية التسعينات.
وإلى يومنا هذا تقع تحت سيطرة هذه الحركات مناطق جغرافية وسكّان يمارسون حياتهم وأعمالهم الحياتية في تلك المناطق المحررة بما في ذلك التعدين والتصدير ( التهريب إلى دول الجوار). وفي فترة المقاومة ضد العهد العسكري حظيت هذه الحركات الاثنية المسلحة بتعاطف ودعم من قوي المعارضة السلمية في المركز خاصة من حزب الرابطة الوطنية للديمقراطية. وكان بينهما تنسيق وتواصل، وإن شدد حزب الرابطة على خطته في المقاومة السلمية ونبذه لأي نوع من أنواع المقاومة المسلحة أو استخدام أي نوع من أنواع العنف لأحداث التغيير السياسي.
فطن الناشطون والشعب في ميانمار إلى أن الجنرالات استغلوا العمليات العسكرية الناجحة من الحركات المسلحة لقمع الحريات وتقليص نشاط المعارضة في الداخل وإذكاء نار الجهوية والعنصرية تحت شعارات الخوف من تفكك الاتحاد، الخوف من اقتلاع امتيازات الأغلبية من شعب البامار ( الذي كانت تحمل الدولة اسم قبيلتهم - بورما) وذوبان الهوية البوذية للدولة. وبسبب ذلك الخطاب والتعبئة أصبح الضحايا ( الاثنيات المضطهدة ) هم المعتدين.
وهنا لابد من إيراد نقطتين جوهرتين فيما يتعلق بالمقاومة السلمية والمسلحة. وهما استجابة مجموعات المقاومة السلمية في ميانمار مثل حزب الرابطة للدخول في العملية الانتخابية التكميلية رغم علمه بأنها منقوصة. وهو قرار مثل نقطة انقلاب حقيقية قادت إلى التحول الكبير الذي حدث في نوفمبر 2015. في المقابل عملت على الوصول إلى اتفاق سلام مع الحكومة الانتقالية ( 2012 -2015) يضمن لهم بعض الحقوق. مما حرمهم من الاستفادة من هامش الانفتاح .
وبسبب هذا الوضع - مواصلة الخيار العسكري - إضافة إلى ظروف التهميش التاريخية كان أثر هذه الحركات المسلحة محدودا في إحداث التغيير الذي تم في ميانمار. والدليل على ذلك فشلها في انتخابات 2015 على الحصول على الفوز حتى في الدوائر الانتخابية في مناطقها الاثنية بينما فاز بها حزب الرابطة الوطنية للديمقراطية بزعامة السيدة أونغ سان سوتشي.
وعلى الرغم من قيام الانتخابات، لا زالت عملية إحلال السلام متعثرة. ولازال كثير من الحركات المؤثرة في حالة عداء مع الحكومة الديمقراطية.
أخلص من أعلاه إلى أن الحرب الأهلية في ميانمار هي الأطول في العالم. ولكن في إطار تجربة ميانمار كان للاتفاق على وجود حصة للجيش في السلطة المدنية مثلَّ ضامنا للتحول الديمقراطي. وأن يتبنى المقاومة السليمة، فيما يعد استجابة حزب الرابطة للدخول في العملية الانتخابية التكميلية في عام 2012 رغم علمه بأنها منقوصة مثلَّ نقطة انقلاب حقيقية قادت إلى التحول الكبير الذي حدث في نوفمبر 2015.
إن الوضع السياسي بما في ذلك الصراعات الاثنية مشابه إلى حد بعيد الحال في السودان خاصة أوضاع النزاعات في دارفور، جبال النوبة، الانقسنا، وحتى المناصير والنوبيين في أقصى الشمال.
إن إلغاء الخيار العسكري ووقف الحرب يحرم النظام من هذه الذرائعية والشرعية المزعومة للحفاظ على وحدة الوطن من التفتت.