وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
دخلت موفدة فرانس24 إلى بنغلادش مايسة عواد إلى مخيم كوتوبالونغ للاجئين الروهنغيا، ونقلت شهاداتهم على الأحداث والانتهاكات التي تعرضوا لها في ميانمار والتي دفعتهم للنزوح من بلادهم. وتحدثت إلى “الأطفال المنفصلين” عن أهلهم لترصد مآسيهم ومعاناتهم اليومية.
تغرس أقدامنا بوحل تفوح منه رائحة براز، لكن جاهانغير لا يشتكي، يتجنب بخبرة من اعتاد أزقة المخيم برك الماء الصغيرة. هو يقطن هنا منذ سبعة عشر عاما، أي عمره كاملا، يقودنا باتجاه واحد من خيم كثيرة مكسوة بقماش ومدعَّمة بالقصب تغطي أرضيتها قطع بلاستيك لاصق، هو المكان الذي يسميه “بيتي”.
يمشي جاهانغير ونحاول نحن ألا نضيعه في سراديب بؤس متشابهة. يلحق بنا أطفال يغزون الممرات الموحلة بأقدامهم الصغيرة الحافية. كل شيء فينا يضحكهم: كلامنا، مشينا الحذر، عدسات كاميرتنا المتنقلة بين الخيم المتلاصقة وألواح الصفيح وأوراق الموز وخيبات أمل راكمتها سنين لجوء أقلية الروهنغيا إلى هذا المكان.
نصل إلى بيت دليلنا، أمامه زحمة صغار، الكل يضحك سوى طفل واحد. هذا الأخير ينظر إلى الأطفال بدل أن يحدثهم، الصغير يدعى محمد وهو ليس من “هنا” بل من “هناك”. و”هناك” تعني ميانمار. وصل إلى هنا منذ أسبوعين فقط بلا أهل ولا أقارب، جاهانغير كان أول من تحدث إلى ابن السابعة، يخبرنا عن لقائه الأول بمحمد: “كانت ملابسه مبللة لأنه اجتاز النهر.. عندما رأيته كان ضائعا ويبكي.. كان يبدو يتيماً”.
لم يكن الشاب مخطئا، فوالدا محمد قتلا في ميانمار أمام عينيه: “رأيتهم يطلقون النار فهربت”. يجيب الصغير بكلمة واحدة على سؤالنا حول من أطلق النار: “الجيش”. تتدخل عائشة شقيقة جاهانغير، تخبرنا كم تعلقت بمحمد، كيف وصل رافضا الكلام مع أي كان لمدة يومين، وكيف سارعت لشراء ملابس له والاعتناء به. يطلق محمد العنان مع عائشة فقط لكلام محمل بذكريات مؤلمة: “قُتلت جدتي ووالدة صديقي شامشو وماما وأشخاص آخرين”. ينهي الجملة ويترك عائشة تعانقه. تريد عائشة إبقاء محمد عندها. هذا المخيم الذي يضم عائلات تسكن فيه منذ ستة وعشرين عاما يغرق بقصص اللاجئين الجدد.
تبدو سلطات بنغلاديش ومعها عشرات الجمعيات غير قادرة على الاعتناء بحاجات أكثر من 400 ألف لاجئ تدفقوا منذ الخامس والعشرين من آب/أغسطس، وبين هؤلاء أكثر من 1300 طفل أتوا بلا أهلهم أو ذويهم، تسميهم الأمم المتحدة “الأطفال المنفصلين” عن أهلهم.
جاهانغير وأخته عائشة ليسا استثناء، تحاول بعض العائلات من “قدامى لاجئي الروهنغيا في كوتوبالونغ” مساندة اللاجئين الجدد، الأطفال منهم تحديدا، رغم تواضع الإمكانيات.
في مكان آخر في قلب المخيم، تمسك سيدة بيد طفلة ترتدي فستانا أحمر وتحضرها إلى مركز خاص بالأطفال ترعاه منظمة “اليونسيف”. تدعى الطفلة ذات الفستان الأحمر أسماء، وعمرها أحد عشر عاما، تدخل إلى الغرفة المزدحمة بالأطفال والألعاب وأدوات الرسم، لا شيء من هذا يفرحها، تسند ظهرها إلى الحائط، جسدها متصلب في مكانه وعيناها تسرحان إلى البعيد، لا تزال تحت الصدمة، تبكي بحرقة كلما أتى ذكر عائلتها: “أحرقوا المنزل وذبحوا ثلاثة من أخوالي وأخواتي الثلاثة وأمي أيضا”، هلعت أسماء من هول ما رأت وأخذت تهيم على وجهها، عثرت عليها مجموعة من قريتها وساعدتها على الهروب على متن قارب. تتابع أسماء: “أتيت بالقارب مع أناس من قريتنا، لكن أطلق الجيش علينا النار فمات رجل كان معنا”.
لا كلمات كافية لمواساة أسماء، هناك فقط محاولة مني للابتعاد عن سؤال كان ثقيلا على خاطر الصغيرة المكسور، أقول لها “جميلة الرسومات على ذراعك”، تترجم لها المرشدة الاجتماعية، عندها فقط تظهر أسماء ابتسامة خجولة: “عندما كنت هنا المرة الماضية كنت أبكي، فقام أصدقائي برسم الزهور على يدي وأعجبتني”.
لا تطول ابتسامة أسماء كثيرا: “كنت لأخبر أمي عن الرسوم، لكنها لم تعد هنا”.