بقلم: أحمد المسلماني
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
لا يعرف كثيرون أن "ناظر مدرسة" قد أصبح الأمين العام للأمم المتحدة. إنّها قصة مثيرة.
في عام 1945 انتهت الحرب العالمية الثانية وتأسَّست هيئة الأمم المتحدة، وفي عام 1946 أصبح الوزير النرويجي "تريغفه لي" أول أمين عام للأمم المتحدة.. الذي استقال على نحو مفاجئ في عام 1952. أصبح الدبلوماسي السويدي "داج همرشولد" ثاني أمين عام للأمم المتحدة، ولكنه قُتِل إِثر تحطّم طائرته في الكونغو عام 1961.. ولايزال الحادث غامضًا.
كان "همرشولد" شخصًا عادلًا ومرموقًا، وقف ضد الاستعمار، وأيّد سعى دول العالم نحو الاستقلال، ويحظى "همرشولد" في مصر باحترامٍ بالغ.. ذلك أنّه كان أول من وقف ضد العدوان الثلاثي، وهدد بالاستقالة.
بعد مقتل "همرشولد" أصبح "يوثانت" هو ثالث أمين عام للأمم المتحدة. إنّه مدرَّس من بورما (ميانمار)، أصبح لاحقًا "ناظر المدرسة". وبعد النّظارة عمل في لجنة الكتب المدرسية، ثم انتقل للإذاعة مديرًا لها. وإذْ فجأة جرى تعيين "يوثانت" مندوبًا لبلاده في الأمم المتحدة. ولمّا قُتِل "همرشولد" أصبح "حضرة الناظر يوثانت" أمينًا عامًا للأمم المتحدة لمدة عشر سنوات 1961- 1971.
أصبحت "بورما" التي استقلّت عن بريطانيا عام 1948 معروفة عالميًّا بسبب "يوثانت".. كما أصبح يوثانت معروفًا في مصر لأنه كان الأمين العام للأمم المتحدة أثناء هزيمة 1967. مضت السنوات تلو السنوات وشعب بورما يعاني من حكم ديكتاتوري في الداخل، وعقوبات دولية من الخارج.
في عام 1989 جرى تغيير اسم "بورما" إلى "ميانمار".
عانى شعب ميانمار نصف قرن من الديكتاتورية والعقوبات، حتى بدأ الانفتاح عام 2012، وبدأتْ ميانمار تتعرّف على العالم من جديد، وكأنّها قد وُلدِت للتوّ. بدأت "ميانمار الجديدة" على نحوٍ جذّاب، استثمارات ومشروعات، وزعيمةً حاصلة على جائزة نوبل للسلام. لكن المشهد لم يصمد طويلًا، إذْ سرعان ما أصبح اسم ميانمار موضع غضبٍ واسع في العالم الإسلامي، ولم تعد هناك أخبار عن ميانمار سوى أخبار معاناة مسلمي الروهنغيا.
تصف الأمم المتحدة ما جرى لـ"الروهنغيا" بأنّه أمرٌ مروع، وأنَّهُ يرقى إلى مستوى "التطهير العرقي". ورصدت التقارير الأممية قتلًا واسعًا، وحرقًا للقرى، وتهجيرًا لأكثر من نصف مليون شخص.
على أثر هذه التقارير تقدم الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية بطلبٍ لفتح تحقيق رسمي بشأن ارتكاب حكومة ميانمار جرائم ضدّ الإنسانية بحق المسلمين من قوميّة الروهنغيا. تنفي حكومة ميانمار قيامها بالقتل الجماعي أو التطهير العرقي، وتتهم جماعات متطرفة اندسّت في المنطقة للقيام بذلك.
تقول حكومة ميانمار إن الروهنغيا هم أحفاد العمال البنغاليين الذين جاءوا مع بريطانيا وهم ليسوا من أهل البلاد، كما تتهم الحكومة منظمة تحرير الروهنغيا وحلفائها من تنظيمات متطرفة قدمت من الهند وباكستان وبنغلادش بخلق الأزمة، والعمل على بقائها. لكن الأمم المتحدة ترفض هذا التفسير.
لا يمكن فهم قضية الروهنغيا بمعزل عن الجغرافيا السياسية لميانمار، ذلك أنها باتتْ جزءًا من الصراع الدولي بين القوى العظمى. فإنها إذا كانت جغرافيًّا "دولة محشورة" بين الصين والهند، فهي سياسيًا "دولة محشورة" بين الصين والولايات المتحدة.
إن ميانمار دولة غنية بالموارد الطبيعية، لكن السياسة قد أوقفت الاقتصاد لمدة نصف قرن. ولقد بدأ القرن الحادي والعشرون بينما تتوالى اكتشافات كبرى للغاز والنفط في البلاد. وفي عام 2004 تم اكتشاف حقل غاز عملاق عند سواحل ميانمار. راحت الصين إلى هناك، وفي عام 2008 حصلت على امتياز الحقل. ثم بدأت الصين تبني خط أنابيب للنفط والغاز يصل الصين بالمحيط الهندي عبْر ميانمار.
يصل طول خط الغاز (الصين - ميانمار) إلى نحو (1,420) كم، ويمّر الخط من جنوب غرب الصين عبْر ولاية راخين.. حيث يتواجد الروهنغيا إلى المحيط الهندي. كانت الصين جادّة للغاية في ذلك الأمر، ففي عام 2013 بدأ تشغيل خط الصين - ميانمار.
سوف ينقل خط أنابيب الصين - ميانمار النفط من الخليج العربي إلى الصين عبر "قناة سويس بريّة" هى ميانمار. ومن ثمّ لن تحتاج الصين إلى نقله عبْر مضيق ملقا بين ماليزيا وإندونيسيا، وهذا إنجاز صيني كبير.. على صعيد السياسة وعلى صعيد الاقتصاد. وهكذا توجد الصين في ميانمار بأكثر من ثلاثين مليار دولار.. أنابيب طاقة، وموانئ عميقة، ومناطق اقتصادية، ومشروعات حيوية. إن الموانئ العميقة سيمكنها استقبال الناقلات العملاقة، كما أنّ خط الأنابيب الذي يعبر أكثر من (20) مدينة، و(50) نهرًا، و(70) جبلًا.. بين الصين وميانمار سوف ينقل أكثر من (20) مليون طن نفط سنويًّا.
يرى البعض في دوائر العلوم الاستراتيجية أن الولايات المتحدة تحاول مواجهة الصين في ميانمار، ويذهب البعض إلى أبعد.. ويزعم أن قضية الروهنغيا بأكملها هى جزء من محاولات الغرب إفساد طريق الصين إلى المحيط الهندي عبْر ميانمار.
في دراسة رصينة بعنوان "بورما ومفترق طرق جديد لآسيا" للمفكر الميانماري "ثانت مينت يو".. وهو حفيد "يوثانت" أمين عام الأمم المتحدة الأسبق.. يصف ميانمار بأنها رئة آسيا، وأنها تمثل للقارة الآسيوية ما تمثله قناة السويس لمصر. المياه هى خط المرور بين المتوسط والأحمر، وأرض ميانمار هى خط المرور الصين إلى المحيط الهندي. وقد خلق المرور عبْر بورما منطقة اقتصادية جديدة.
يرى "الحفيد" أن ميانمار سيئة الحظ لوقوعها وسط المنافسة الصينية - الهندية، وأن المنافسة الأمريكية - الصينية تفاقم من أزمة الجغرافيا السياسية لميانمار. وسط ذلك الصراع العالمي في ذلك البلد الفقير للغاية، يعاني عشرات الملايين الفقر الشديد. ولقد انتشرت عبر سنوات طويلة ظاهرة ذهاب الفقراء إلى مناطق نائية لاستخراج النفط عبْر الحفر بآلات بدائية، وبعض الفقراء يحفرون آبار النفط بأيديهم!
إن الجغرافيا السياسية لميانمار يمكن أن تكون فرصةً لو نجحت السلطة في حل مشكلة الروهنغيا، وأحسنت إدارة التنافس بين الصين والهند والولايات المتحدة.. غير أنها إذا سقطتْ في خضم الصراع بينهم.. فإنها لن تفيق قبل مائة عام أخرى.
يا له من عالم صعب للغاية.. لا يمكن إدارة كل هذا الحجم من التناقضات إلّا إذا كان القرار في أيدي الأقلية الذكية. حين يصعب القرار الاستراتيجي صعبًا.. الأغبياء يمتنع.