بقلم: رخا أحمد حسن*
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
تعد قضية المسلمين الروهنغيا من القضايا المأساوية التي تنفجر وتسفر عن سفك الدماء وحرق قرى بأكملها وقتل واغتصاب على الهوية ودفع الآلاف من المسلمين الروهنغيا إلى الفرار لجوءًا إلى الدول المجاورة تاركين بيوتهم وممتلكاتهم وأعمالهم إلى حياة بائسة ومعاناة فوق الطاقة لا تعرف لها نهاية.
وينهض العالم منددا ومستنكرا ما يتعرضون له من مذابح وجرائم إبادة جماعية ولكن سرعان ما تهدأ الأمور وتعود سلطات ميانمار إلى ممارسة مظالمها المنهجية ضد أقلية المسلمين الروهنغيا في ولاية أراكان.
وهذه القضية ترجع إلى ما قبل عام 1940 وإن تصاعدت وتيرتها منذ هذا التاريخ. وأسباب هذا العداء الشديد من أغلبية سكان ميانمار (بورما) البوذيين تجاه المسلمين الروهنغيا، أنهم يرون أن هذه الأقلية مهاجرة ودخيلة لا تنتمي إلى شعب ميانمار وأنهم جاءوا من بنغلادش أو ما كان يعرف بولاية البنغال ومن الهند واستقروا ونسبوا أنفسهم بالأمر الواقع إلى ميانمار.. فهم من أصول هندية لها حساسية شديدة لدى البوذيين في ميانمار. كما أنهم يؤمنون بالإسلام والذي يعاديه البوذيون المتشددون أشد العداء ويرون فيه خطرا عقائديا على معتقداتهم ونقطة قد تؤدي إلى تزايد انتشاره في البلاد.
وقد تزايد العداء للإسلام في العقود الأخيرة تأثرا بالإسلاموفوبيا التي انتشرت في عدة دول بعد انتهاء الحرب الباردة وعودة العصبيات القومية والدينية والقبائلية في كثير من دول العالم وتنامي ظاهرة التفكك والانقسام في عدة مناطق من العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وبعض الدول الأوروبية فى منطقة البلقان مثل يوغسلافيا التي انقسمت إلى عدة دويلات.
***
لذا فقد اتسمت العلاقات بين الأغلبية البوذية في ميانمار وأقلية المسلمين الروهنغيا على مدى سنين طويلة بالتوتر والقسوة وسوء معاملة المسلمين سواء من جانب أغلبية الشعب أو السلطات خاصة الجيش وقوات الأمن. ولكن ما حدث في 2016 و2017 والذي امتد بدرجات أقل خلال عامي 2018 و2019، قد بلغ مداه في تجاوز كل القوانين المحلية والدولية وحقوق الإنسان بل وصل إلى حد ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية على أيدي قوات الجيش والأمن في ميانمار، حيث ارتكبت عمليات قتل واغتصاب وحرق جماعي ضد المسلمين الروهنغيا وحرقت قرى بأكملها وأحرقت بيوتا وسكانها بداخلها، وقدرت أعداد من لقوا حتفهم بنحو 24 ألف شخص منهم نساء وأطفال ورجال. كما أرغم نحو مليون شخص على الفرار عبر الحدود لاجئين إلى الدول المجاورة هربا من هذه المذابح والجرائم ضد الإنسانية، وقد بلغ عدد من لجؤوا إلى بنغلادش وحدها نحو 730 ألف من المسلمين الروهنغيا.
وعلى الرغم من أن حكومة ميانمار فرضت قيودا صارمة على دخول الإعلام إلى ولاية أراكان التي يسكنها المسلمون الروهنغيا لمتابعة ما يحدث ورصده وتسجيله، فإن المفوضية الدولية لحقوق الإنسان، التابعة للأمم المتحدة، وعدة منظمات إنسانية وحقوقية أخرى استطاعت أن ترصد وتسجل عدة قرائن مادية لا تقبل الجدل أو الشك بأن قوات الجيش والأمن في ميانمار قد ارتكبت جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية في حق المسلمين الروهنغيا أدت إلى فقدانهم حياة أعزاء لهم وممتلكاتهم واضطرارهم إلى الفرار هربا إلى الدول المجاورة. كما نددت الأغلبية العظمى من دول العالم في أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا والدول الإسلامية والعربية بجرائم الإبادة الجماعية هذه وطالبت حكومة ميانمار بوقف ممارسات هذه الجرائم وتوفير الحماية القانونية والأمنية والإنسانية للمسلمين الروهنغيا باعتبارهم مواطنين لهم كل الحق في هذه الحماية وفقا للقوانين المحلية والدولية.
كما ناشد أغلبية الدول زعيمة ميانمار السيدة/ سوتشي الحاصلة على جائزة نوبل عام 1991 لنضالها من أجل الحرية والديمقراطية، أن تتدخل وتخرج عن صمتها وتعلن رفضها واستنكارها لهذه الجرائم وتعمل على وقفها وحماية المسلمين الروهنغيا والمساعدة على عودة المهجرين منهم قسرا إلى الدول المجاورة خاصة بنغلادش. ولكن السيدة/ سوتشي عندما خرجت عن صمتها بررت هذه الجرائم وتبنت مقولة قوات الجيش والأمن بأنه قد يكون حدث إفراط في استخدام القوة أو بعض التجاوزات ولكنها كانت في إطار الرد على أعمال العنف، وأنكرت أن تكون قوات الجيش والأمن قد ارتكبت جرائم إبادة جماعية ضد الروهنغيا.
وإزاء هذه الأوضاع المتردية والمعاناة الإنسانية التي تفوق كل احتمال والتي يتعرض لها المسلمون الروهنغيا، وتمادى الحكومة والسلطات في ميانمار في الإنكار والتقاعس عن توفير الحماية الواجبة لجماعة من شعب دولتهم، فقد كلفت منظمة التعاون الإسلامي والتي تضم في عضويتها 57 دولة، دولة جامبيا الإفريقية لترفع قضية أمام محكمة العدل الدولية ضد حكومة ميانمار لمعاقبة المسؤولين في الجيش وقوات الأمن والحكومة على ارتكاب جرائم إبادة جماعية في حق الروهنغيا وجرائم ضد الإنسانية تجاههم،
وإلزام الحكومة بتوفير الحماية والرعاية الواجبة لهم وإعادة المهجرين إلى بيوتهم وممتلكاتهم.
وقدمت جامبيا الدعوى إلى محكمة العدل الدولية في نوفمبر 2019 طالبة سرعة اتخاذ إجراءات نظر هذه القضية الإنسانية العاجلة. وقد بدأت المحكمة المكونة من 17 قاضيا عقد جلسات استماع لأطراف القضية على مدى ثلاثة أيام في الفترة من 10 إلى 12 ديسمبر 2019 في مقر المحكمة في لاهاي.
واللافت للانتباه أن زعيمة ميانمار ــ أون سان سوتشي ــ هي التي رأست وفد بلدها للدفاع أمام المحكمة وذلك يوم 11 ديسمبر حيث كررت مواقفها السابقة بأن رفضت الاتهامات الموجهة لجيش بلادها بارتكاب أعمال إبادة جماعية في حق أقلية الروهنغيا، ووصفتها بأنها اتهامات غير مكتملة ومضللة، وأن الجيش ربما يكون قد لجأ إلى استخدام غير مناسب للقوة ولكن ذلك لا يثبت وجود نية بالقضاء على أقلية المسلمين الروهنغيا. وقد صاحب حضور سوتشي أمام المحكمة مظاهرات نظمها أنصارها من نحو 260 شخصا أمام مقر المحكمة في لاهاي، كما نظمت مظاهرات في عدة مدن في ميانمار تأييدا لموقف الحكومة والجيش ورفض الاتهامات الموجهة لهم والأعراب عن تأييدهم والوقوف معهم.
وتولى وزير العدل في جامبيا رئاسة وفد المحامين المدافعين عن حقوق المسلمين الروهنغيا أمام المحكمة موضحا أن ميانمار متهمة سلطاتها بارتكاب جرائم إبادة جماعية هدفها القضاء على جماعه الروهنغيا المسلمة بصفتها، سواء كان قضاء عليها بشكل كامل أو جزئي عن طريق القتل الجماعي والاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي، والتدمير الممنهج بحرق قراهم غالبا أثناء وجود السكان داخل منازلهم. وطالب الوزير المحكمة بضرورة سرعة العمل على وقف الإبادة الجماعية الجارية في ميانمار ضد أقلية المسلمين الروهنغيا، وأن تكف السلطات فيها عن تلك الجرائم الهمجية والوحشية التي أفزعت ومازالت تفزع الضمير الجماعي.
ولكن محكمة العدل الدولية ليست لها صلاحيات تنفيذية، وإن كانت أحكامها نهائية ولها وزن كبير من الناحية القانونية الدولية. وقد يستغرق نظر القضية عدة سنوات دون استجابة من السلطات في ميانمار لحسن معاملة المسلمين الروهنغيا.
وإذا كانت منظمة التعاون الإسلامي قد اختارت جامبيا ذات أغلبية السكان من المسلمين لترفع قضية ضد ميانمار أمام محكمة العدل الدولية، فإنه يتعين على الدول الإسلامية الأعضاء في المنظمة أن تتخذ من الإجراءات العملية لمعاقبة سلطات ميانمار على ارتكاب هذه الجرائم وفرض مقاطعة شاملة ضدها إلى أن تكف عن ارتكاب جرائم الإبادة ضد المسلمين الروهنغيا وتسمح لمن لجؤوا منهم إلى الدول المجاورة وخاصة بنغلادش بالعودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم حيث أنها لم تقبل إلا أعدادا قليلة قد تزيد قليلا على ألفي لاجئ. وبدون إنزال أشد العقوبات الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية عليها فقد لا تتوقف عن ممارسة هذه الجرائم حتى وإن كان على فترات متقطعة.
*مساعد وزير الخارجية الأسبق وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية.