وكالة أنباء أراكان ANA | الجزيرة الوثائقية
متابعة المخرجة “توريد تونغه” لتجربة القناة التلفزيونية المستقلة “صوت الديمقراطية لبورما” في المنفى النرويجي لأكثر من عشر سنوات سهّل عليها معرفة العاملين فيها واستيعاب أهمية دورها بوصفها صوتاً شجاعاً معارضاً لحكم العسكر، وحين حانت لحظة مغادرة فريق عملها إلى وطنهم بعد وعود حكومتهم بالانفتاح والتغيير الديمقراطي قررت مشاركتهم رحلة العودة والقيام بمهمة تقصّي الحقائق على الأرض.
دون إرادتها، ولأن فيلمها عن فريق عمل تلفزيوني أقام في النرويج أكثر من عقدين، صُوِّر فيلمها بعدستين مختلفتين. واحدة تلفزيونية وأخرى خاصة بها سينمائية وكان من الطبيعي أن يحدث تداخل بينها على مستوى الصورة لكن التحدي الأقوى كان بالنسبة إليها هو أن يخرج فيلمها في النهاية سينمائياً. يؤطر كل ما يسجل ضمن كادراته بالعناصر والمفردات الفيلمية.
يتضح التداخل منذ اللقطة الأولى لفيلم “Democracy Road” حيث يظهر مدير القناة “آي تشان ناينغ” في العاصمة النرويجية أوسلو وهو يجمع معدات العمل ويحادث مباشرة المخرجة عن تجربته وقلقه من المجهول وما ينتظره من مصير في بلاده. بدورها كانت “توريد تونغه” تحمل كاميرا محمولة وتطرح عليه أسئلة بسيطة عن إحساسه وتجربته في المنفى وهل ستتوفر لهم فرصة العمل هناك بحرية؟ ولتوكيد حرصها على إبقاء فيلمها سينمائياً كانت هناك كاميرا ثانية تولت نقل مشاهد، من خامات أولية كانت تعرض على شاشة “مونيتور” صغير داخل الاستوديو، من مظاهرات واحتجاجات شعبية ضد ممارسات الجيش الميانماري القمعية صورّها مراسلو القناة وسربوها إلى أوسلو ليقوم محررو التلفزيون بدورهم بترتيبها ووضعها في إطار صحفي ليعاد إرسالها إلى البلاد، التي لم يحسم أمر توجهها فظلت تراوح بين قيادة الجنرالات لها وبين حركة أحزاب مدنية اختارت الديمقراطية طريقاً للتخلص من الإرث العسكري الطويل.
حتى عام 2013، عام عودة فريق عمل التلفزيون المستقل كانت ميانمار فعلياً تحت سلطة العسكر ولهذا السبب ترك “تشان” بلاده نحو المنفى الأوروبي مضطراً. كان وقتها طالباً شارك في مظاهرات 1988 العارمة وبعد إحباطها بالقوة وتفريق أغلبية منظميها لم يبقَ له خيار سوى الرحيل والعمل الدعائي والتحريضي من الخارج مع آخرين شاركوه نفس المصير. لعبت قناتهم التطوعية دوراً مهماً في إسماع صوت الشعب الميانماري إلى العالم ونقل ما يجري من تطورات في عموم ميانمار إلى الناس، في تحدّ صارخ لحصار الحكومة وإعلامها، فاكتسبت بذلك سمعة طيبة بين المواطنين بالرغم من بساطة إمكاناتها المادية والتقنية وبالنسبة للسلطات العسكرية مثلت كابوساً واعتبرتها محرضاً على “الفوضى والعنف” السائدين في البلاد طيلة أكثر من عشرين عاماً، بل هي من قوّى شوكة المعارضة.
بعد رسمه ملامح التلفزيون ودوره واعتماده أرضية “درامالوغية” يمكن الانطلاق منها إلى مستويات أكثر عمقاً راح الوثائقي “طريق الديقراطية” يعرفنا بشخصيات أخرى ستلعب دوراً مهماً في فصوله القادمة من بينهم مقدم البرامج؛ “نان وين توت” الذي سيقوم بتسجيل واقع ميانمار بعيداً عن دعاية الأجهزة الرسمية عبر برنامج استقصائي ريبورتاجي الطابع عنوانه؛ “أمتنا.. وطننا”. كل ذلك جاء مكثفاً في فصل “العودة” الأول من بين أربعة فصول قسمت زمن الفيلم وحددت مضامين بنيانه السردي والحكائي.
في الفصل الثاني منه راح الوثائقي النرويجي يغوص عميقاً في الواقع الميانماري، من خلال ملاصقته الشديدة لرحلة وعمل فريق التلفزيون، الذي قابل في البدء مسؤولين ورجال دولة، رحبوا بعودتهم، ومع هذا ولأسباب تتعلق باستمرار القوانين العسكرية وعدم إقرار البرلمان لقانون الإعلام الجديد اضطروا لفتح مقر لهم في تايلاند المجاورة، فيما تكفل بعض من الصحفيين بالعمل داخل ميانمار مباشرة. يمزج الوثائقي بعض الجوانب الشخصية لـ”أبطاله” بالعام عبر اقترابه من جوانيات العائدين إلى وطنهم بعد فراق طويل ثم وجدوا أنفسهم عام 2013 في مناخ “غريب” غير الذي تركوه، الحذر عنوانه الأبرز!
وعلى المستوى العام كان الأمل في تصديق وعود “العسكر” نحو التغيير قوياً لكنهم فضلوا التحقق من حقيقة الوعود على الأرض عبر جولات صحفية سيقومون بها داخل بلادهم فيما سيقوم الوثائقي بمهمة مراجعة تاريخ ميانمار السياسي المعاصر ليمضيا التلفزيون والمراجعة التاريخية المدعومة بالوثائق والتسجيلات سوية أحدهما يدعم الآخر. يكاد الوثائقي يخلو من المقابلات لا ترفعّاً بل لأن التلفزيون وعبر برنامجه الاستقصائي كان يقوم بذلك الدور، ما ساعد على تفرغ صانعته للصورة وتسجيل المشهد العام المحيط بفريق العمل بأريحية أكبر. “رحلة طريق” عنوان الفصل الثاني صبغ الفيلم بمناخه. فهو بحق فيلم طريق واستقصائي وتحليلي في آن، ومن هنا جاءت أهميته.
في عام 2014 ذهب فريق التلفزيون لتصوير القرى الميانمارية المتاخمة للحدود التايلاندية والمسماة بـ”المنطقة الرمادية” لشدة الصراع الذي شهدته منطقة “تشيانغ ماي” خلال الحرب الأهلية بين المجاميع الإثنية المعارضة وبين الحكومة الميانمارية، التي لم تتمكن من السيطرة عليها كاملة حتى بعد توقيعها معاهدة سلام معها. فالتوتر ظل قائماً تحت سطحها الهش. قابل البرنامج عددا من الفلاحين المصابين بعاهات جسدية مزمنة بسبب انفجار الألغام الأرضية المزروعة على مساحات واسعة من مناطقهم ومزارعهم. لا يحصل هؤلاء على أي تعويض ولا رعاية صحية كافية، لأنهم بسطاء لا يعرفون مصدر الألغام ومن يزرعها؛ الجيش أم المجاميع الإثنية؟!.
الذي يعرفونه جيداً أنهم مراقبون من السلطة وأجهزتها الأمنية، تماماً مثل فريق العمل الذي وصلته معلومات تفيد باحتمال تعرضهم إلى التفتيش والمساءلة فقرروا المغادرة بعد أن سجلوا ما أرادوا تسجيله. في الطريق إلى “تشانشان” كانوا يتعرضون إلى استجوابات سريعة من قبل الحواجز العسكرية المقامة على طول الطريق المؤدي إلى مزارع “الأفيون” المشهورة والتي تعد بها من بين أكبر المناطق المصدرة له بعد أفغانستان. المتضرر الأكبر من زراعته هم زراعه. لقلة مردود الزراعات الأخرى يضطرون للعمل في مزارع الأفيون بأجر قليل، لكنه يبقى أفضل في كل الأحوال مما يحصلون عليه من زراعتهم التقليدية، التي لا تقبل الحكومة دعمها ولا شراء غلتها فيجدون أنفسهم بين سندان تجار المخدرات ومطرقة المتعاونين معهم من كبار رجال الجيش والشرطة. كل الكلام الدعائي عن دعم الفلاحين ومحاصيلهم الزراعية لا أساس له من الصحة.
قصص الفلاحين الفقراء تعزز قلق فريق العمل من شكلانية ادعاء الحكومة وتغييراتها الاجتماعية والاقتصادية المهددة. حسب زعمها ـ لتغيير سياسي في البلاد. يمر البرنامج على منطقة “كاياه” المُزَوِدة محطاتها البلاد كلها بالطاقة الكهربائية عدا سكانها، فهم محرومون منها، في حين يظل مشردو منطقة “أكياب” يعيشون في البراري دون سقف يحميهم، بعد أن أبعدهم الجيش عنوة من مناطق سكناهم وهجرهم بالقوة من منازلهم بحجة إيوائهم المعارضين له. وعدهم بتأمين مساكن لهم لكنه لم يفِ بوعوده. مقابلات التلفزيون لهم كشفت عن تغيير مهم أصر على تثبيته: لقد بدأ الناس بالإعلان صراحة عن عذاباتهم وآلامهم والإشارة إلى مصدرها؛ الحكومة والجيش. تغيير لا يمكن تجاهله بل يمكن البناء عليه سياسياً وهذا ما اشتغلت عليه الأحزاب السياسية وبشكل خاص الشخصية المعروفة “أونغ سان سو تشي” التي ستدخل الانتخابات الأخيرة وتفوز بها.
يتفرغ في فصله الثالث لتغطية انتخابات عام 2015 بوصفها مفصلاً مهماً في تاريخ البلاد السياسي ومحكاً لمصداقية الجيش وتعهده بالالتزام بنتائجها مهما كانت. لأول مرة يصدق وعده فخلال خمسين عاماً قطع خلالها الجيش الكثير من الوعود ثم قام بنكثها. لكن وراء ذلك الالتزام أسباب راح الوثائقي يبحث عنها ويقدمها بالصورة المعبرة؛ لقد ضمن الجيش وجنرالاته “دستوريا” حصة 25 بالمائة من مقاعد البرلمان دون الدخول في الانتخابات وأَمّن لنفسه ثلاث وزارات سيادية وحافظ على قدرته على إدارة البلاد من خلف الكواليس. بدت ديمقراطيتهم شكلية رحب بها الغرب ودعمها مع علمه بكل تفاصيلها وتعارضها مع الديمقراطية الحقيقية. لم يمنع النصر الذي حققته الزعيمة السياسية “سو تشي” من الفرح بالنتائج وقد انعكس ذلك على القناة التلفزيونية وعامليها الذين طالما حلموا بتلك اللحظة التي يصعد فيها شخص إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع لكنهم وعبر تجربتهم وجولاتهم في طول البلاد وعرضها أدركوا أن ميانمار ينتظرها الكثير وأن بقاء مكتبهم في المنفى كما كان قبل عقدين له دلالات قوية لهذا عنون الوثائقي فصله الثالث بـ”تصادم” محتمل وموضوعي بين إرادات متناقضة.
فالجيش لا يريد التخلي عن السلطة وامتيازاتها ولا تريد المعارضة الاكتفاء بنصر محدود فيما الإعلاميون يطمحون بحرية حقيقية يمارسون عبرها عملهم، منتظرين إصدار قوانين تزيل الأحكام الجائرة ضدهم. لتأكيد “التصادم” يعلن الوثائقي عن اعتقال عدد من العاملين في القناة وتعرضهم لاستجوابات مطولة فيما يصر المسؤولون الرسميون على نكران ذلك ما يطرح أسئلة يتوقف عندها الفصل الرابع والأخير “المستقبل”: هل ستمضي ميانمار في “طريق الديمقراطية”؟ الجواب على لسان الوثائقي جاء بـ”لا” ما دام الجيش ما زال متحكماً بالدولة ومؤسساتها! لكن كل ذلك لا يلغي حقيقة توفر ظروف جديدة للقوى السياسية المدنية تتيح لها العمل على تحقيق أهدافها فيما يبقى على القناة التلفزيونية المستقلة المضي في عملها كمراقب واع للأحداث وقادر على لعب دور مهم في المجتمع يستحق أن يُكرَّس له فيلم وثائقي. فيلم حكى بحب تجربتها في مكانين ـ المنفى والوطن وقدم بعضا من سيرة صحافيين ميانماريين شجعان ظلوا على الرغم من عسف الجيش وجنرالاته على عهدهم؛ حماة للحقيقة.