وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
“إنّ ما يحدث للروهنغيا هناك هو تطهير عرقي بكل ما للكلمة من معنى”.
من على ضفة النهر المقابلة لقرية إندن، وقف رجلٌ، في منتصف العمر، يتنفس بصعوبة، ويراقب عاجزاً عملية الإبادة التي يتعرض لها أبناء قريته دون أن يتمكن من مساعدتهم. صراخ النساء والأطفال يملأ أذنيه حتى اليوم على الرغم من مرور عدة أسابيع على الحادث.
اسمه ليس محمد ولكننا سنسميه كذلك، فهو من أقلية الروهنغيا المسلمة في ولاية أراكان (ميانمار) التي نزح أكثر من نصف عدد أبنائها وباتوا لاجئين مشردين في الدول المحيطة بسبب أعمال العنف التي تصل لحد الإبادة الجماعية التي يقولون إنهم يتعرضون لها.
“جاء مسؤول القرية قبل يوم ليخبرنا بأن الجيش والسلطات الأمنية قادمة وإنه يتوجب علينا الهروب نحو النهر والانتظار قليلاً قبل أن نعود لمنازلنا. أخذنا بضعة أشياء قد نحتاجها للمبيت خارجاً، لأننا اعتقدنا أننا سنرجع”، بحسب محمد، أحد الناجين من تلك المجزرة. لكن أرتال الجيش وصلت القرية “وأكملت مسيرها نحو النهر حيث اختبأ القرويون، وفتحت النيران عليهم”، تقول تيرانا حسن، مديرة وحدة الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية.
وأضافت في حديث خاص عبر الهاتف مع نيوزويك الشرق الأوسط: “لم يكن بوسع هؤلاء المساكين سوى التجمع من الخوف، فيما من استطاع السباحة، وصل بصعوبة للضفة الأخرى من النهر. معظمهم تم قتله في تلك الواقعة وتم إحراق منازلهم”.
هرب محمد إلى بنغلاديش المجاورة وهو لا يملك شيئاً. منزله احترق والعودة إلى قريته وأرضه يبدوان حلماً بعيد المنال. فالأعمال العسكرية لم تتوقف بعد منذ انطلاقها في أواخر شهر أغسطس/آب الماضي، والجيش في ميانمار يعتمد سياسة الأرض المحروقة حيث يتم تطهير القرى من الأهالي الذين هم من الروهنغيا قبل حرقها.
ومحمد ليس الناجي الوحيد الذي يبحث عمن يوصل معاناته للعالم بأسره. فهناك العجوز السبعيني الذي أُجبِرَ على مشاهدة ابنته التي تعاني من إعاقة في الحركة على الاحتراق حتى الموت في كوخهما في ميانمار.
“لقد اجتاح الجنود قريته. في السبعين من عمره ماذا يستطيع أن يفعل؟ وقف هذا الأب العجوز على هضبة مشرفة يراقب بغصة القرية تحترق. كان عاجزاً عن فعل أي شيء لإنقاذ ابنته. شاهدها تموت حرقا مع المنزل. هي ليست أول قصة أسمعها. لا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي سمعت فيها نفس هذه الشهادات المؤلمة من ناجين من عدة قرى”، يقول ماثيو ويلز، كبير المستشارين في وحدة الاستجابة للأزمات بمنظمة العفو الدولية.
أكثر من نصف سكان إقليم أراكان المسلمين البالغ عددهم نحو 1,2 مليون نسمة قد بات لاجئاً في دول الجوار وخاصة في بنغلاديش.
وحدهم اللاجئون الناجون، وعمال الإغاثة على الأرض وبضعة منظمات دولية كمنظمة العفو الدولية التي تعمل معها تيرانا وماثيو وغيرهم ممن كانوا متواجدين على الأرض منذ الأسبوع الأول لتفجر أحداث العنف في أراكان في ميانمار، يقفون شهوداً على أعمال يصفونها بأنها “تطهير عرقي بكل ما للكلمة من معنى”.
وعلى ضفة أخرى، يقف المجتمع الدولي مشاهداً صامتاً على الأحداث، ما خلا استنكار خفيف اللهجة من هنا وبضعة مساعدات مشكورة لكنها لا تكفي نصف مليون لاجئ بلا مأوى.
بحسب المنظمات الإنسانية التي تواصلنا مع ناشطيها على الأرض، فإن معظم الضحايا كانوا من الفئات الأكثر ضعفاَ، كالعاجزين عن الحركة من المسنين والأطفال وممن يعانون من إعاقات تمنعهم من الهرب أو الاختباء.
“مازالت جموع الهاربين من أعمال العنف تتدفق”، يقول ماثيو، الذي بقي في بنغلاديش لمساعدة اللاجئين المتدفقين عبر الحدود.
مئات الآلاف من النازحين مشوا أياماً وأسابيع للوصول للأمان، لكن حتى في عبورهم للحدود كانت هناك مخاطرة. فالجيش في ميانمار قد زرع ألغاماً على طول الحدود بحسب ما أكده لنا ناشطون.
كان من الصعب الوصول إليهم في ظل الأحداث وبطء الإنترنت في بنغلاديش. وخلال حديثنا مع ماثيو في وقت متأخر من يوم الجمعة 29 سبتمبر/ أيلول، قال إنه يشعر بالصدمة. “إنها واحدة من أسوأ الأزمات التي شهدتها منذ أكثر من عقد من الزمن”.
ويؤكد بصوت منفعل، وهو كان ما يزال على الشاطئ في استقبال اللاجئين الروهنغيا عندما تحدثنا معه هاتفياً، “أن الأمواج تجرف معها جثث الضحايا الذين غرقوا مع العبّارة يوم الخميس. ما زالت أجسادهم تصل للشاطئ “.
بحسب جميلة ضياء، إحدى المتطوعات في بنغلاديش،” من لم يمت في الحرائق أو القنص، مات من الجوع أو الغرق. الحالة مأساوية”.
وتضيف “هناك من لم يحصل على طعام من أيام. ونحن بحاجة للمساعدة وبكميات كبيرة لأن وصول أكثر من نصف مليون لاجئ في أقل من شهر إلى مكان محصور نسبياً يؤسس لكارثة إنسانية أكبر”.
ويتخوف الناشطون أنه في حال عدم معالجة الوضع، فقد تتكرر مآسي ماضية من الإتجار بالبشر وخاصة خطف الأطفال والنساء.
الروهنغيا في ميانمار: تاريخ من الاضطهاد والعنف
يبلغ تعداد الأقلية المسلمة في بورما (ميانمار) نحو 10% من سكان هذه الدولة التي تجاور الهند والصين ولاوس وتايلاند وبنغلاديش، يعيش معظمهم في إقليم أراكان.
وتمتد جذور المشاكل بين الأغلبية البوذية، والأقلية المسلمة لثلاثة قرون خلت. وكان من نتيجة الاستعمار البريطاني للبلد أن زادت حدة الانقسامات العرقية والدينية لتنتهي في العام 1942 بمجزرة كبيرة راح ضحيتها نحو 100 ألف مسلم من الروهنغيا في أراكان.
في العام 1948 تعهدت ميانمار لبريطانيا بإعطاء الأقاليم ذات الأقليات العرقية والدينية استقلالها بعد عشر سنوات مقابل استقلال ميانمار عن بريطانيا في ذلك العام، لكن الأمر لم يحدث وبقيت أعمال العنف ومحاولة تهجير الروهنغيا من أرضهم مستمرة، فشهد إقليم أراكان مشاكل عنيفة بين البوذيين والمسلمين في السبعينات والتسعينات من القرن الماضي.
وكانت النتيجة ملايين النازحين الروهنغيا الذين يعيشون على الهامش في دول الجوار ولا يستطيعون العودة لأراضيهم حتى هذه اللحظة.
ومما زاد الطين بلة أن الحكومة البورمية قامت بإصدار قانون الجنسية في العام 1982 الذي أسقط صفة المواطنة عن الروهنغيا فباتوا محرومين من حقهم بدخول المدارس والتعليم.
لقد تم تجريدهم، بحسب ذلك القانون، من حقوقهم المدنية ولا يحق لهم الاستشفاء أو السفر. وبالتالي، بات الروهنغيا بلا هوية بين ليلة وضحاها.
“ما يريدونه هو أن تعترف الدولة بحقوقهم. يريدون العودة لقراهم ومنازلهم… لقد تم قمعهم لوقت طويل، والحكومة في ميانمار هي مسؤولة عن الحالة التي وصلت إليها الأحداث اليوم. كان على الحكومة معالجة جذر المشكلة بدلاً من إرسال الجيش” بحسب تيرانا، التي كانت متواجدة مع اللاجئين منذ الأسبوع الأول لأحداث العنف التي تجددت في 25 أغسطس/آب/ آب الماضي.
الناشطون واللاجئون وصور حية حصلنا عليها عبر الأقمار الاصطناعية تؤكد أن طبيعة أعمال الجيش هي بعيدة كل البعد عن أعمال محاربة الإرهاب وتتعداها إلى حملة ممنهجة لطرد الروهنغيا عبر قتل وتهجير المسلمين في ذلك الإقليم.
فالقرى البوذية لا تعاني من أية حرائق، والقرى المختلطة تبدو عبر الصور من الفضاء كقطع الموزاييك، حيث الأحياء التي تقطنها أقلية الروهنغيا هي التي عانت من الحرائق والتدمير الشامل.
الحكومة في ميانمار: أي عنف؟
بحسب زعيمة ميانمار، أونغ سان سوتشي، في خطاب أمام الدبلوماسيين والإعلاميين في العاصمة نايبيداو في 18 أغسطس/آب، فإن “أغلبية قرى المسلمين في إقليم أراكان لم تتضرر جراء أعمال العنف الأخيرة، وأن أغلبية المسلمين لم ينضموا لمد النزوح الجماعي. فأكثر من 50% من القرى لم تُمّس”.
إلا أن كلام سو تشي، التي كانت قد حصلت على جائزة نوبل للسلام منذ بضع سنوات، يناقض نفسه. فقولها أن أكثر من نصف القرى لم يُمس، لا يبرر تضرر النصف الآخر. وعلى الرغم من إدانتها العامة لأي عمل عنف وأنها تقف مع محاسبة أي تجاوز وأنها لا تخشى أي تحقيق دولي، إلا أن بلادها مازالت تمنع عمال الإغاثة والمنظمات الإنسانية من الوصول للجزء الشمالي من أراكان، حيث تحدث المجازر بحسب الناشطين.
في المقابل، طالبت بنغلاديش يوم الاثنين 2 أكتوبر ميانمار بإعادة اللاجئين إلى قراهم, وذلك بعد أسبوع من قيام سو كيي بالقول إن حكومتها مستعدة لبدء عملية التحقق بهدف إعادة اي لاجئين يرغبون في العودة إلى ميانمار من بنغلاديش.
تقول تيرانا إن الجيش هو من يسيطر على مفاصل العملية في أراكان وأن الحكومة المدنية لا تستطيع أن تأمر قائد الجيش بإيقاف عملياته العسكرية. وبالتالي، المطلوب الضغط على الجيش والحكومة لتحقيق وقف أعمال التطهير العرقي الحاصلة هناك.
المجتمع الدولي: قلق، تصريحات خجولة، ولا تحرّك جدّي
من الإعراب عن القلق إلى مطالبة ميانمار بوقف العنف ضد المسلمين الروهنغيا، فشلت الذراع السياسية للأمم المتحدة في تحقيق أي نتيجة تُذكر. وتبقى الذراع الإنسانية لهذه المنظمة الدولية أقصر من أن تمتد لجميع اللاجئين والنازحين حيث أنها تُعاني من شح الموارد وهي تقوم بطلب المساعدة من الجميع حتى عبر حملات إعلانية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وكانت الأمم المتحدة قد اتهمت في فبراير الماضي قوات الأمن في ميانمار بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من ضمنها ارتكاب المجازر والاغتصاب، وذلك في تقرير بنته لجنة أممية على مقابلات مع أكثر من 200 لاجئ من الروهنغيا في بنغلاديش.
وندد المفوض السامي لحقوق الإنسان، زيد رعد الحسين، “بالقسوة” التي تعرض لها الروهنغيا، قائلاً إنها “لا تطاق”، وطالب المجتمع الدولي “بكل ما أوتي من قوة” للانضمام إليه في “حث قيادة ميانمار على وضع حد للعمليات التي يقوم بها الجيش”.
أما معظم قادة دول العالم، فقد تناسوا أزمة الروهنغيا في خطاباتهم خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، ما خلا بضعة تلميحات خجولة دون إلحاقها بأفعال تضغط على الحكومة في ميانمار لإيقاف العنف.
ويغمز البعض من الشق الاقتصادي لتبرير هذا التقاعس الدولي ملمحين إلى وجود مصالح اقتصادية تهم ألمانيا وغيرها مثلاً، أو يشيرون إلى موضوع أنبوب النفط الذي يمر بولاية أراكان نحو آسيا، وهو ما يعني استثمارات بمليارات الدولارات للدول المشاركة فيه.
وفي ظل التطورات التي أصبحت بمثابة وصمة عار على جبين الإنسانية، تظل المساعدات التي تقدمها منظمة الدول الإسلامية OIC هي الأكثر فعالية في دفع بعض البلاء عن اللاجئين الروهنغيا، بحسب المنظمات الإنسانية التي تحدثنا معها.
وفي 1 أكتوبر، أصدر العاهل السعودي الملك سلمان عبدالعزيز، قرارًا بتخصيص 15 مليون دولار، للاجئين الروهنغيا لتلبية احتياجاتهم الأساسية، بحسب بيان سفارة المملكة في القاهرة.
وكانت دبي قد أمرت بإرسال مئات الأطنان من المساعدات الإنسانية الشهر الماضي للاجئي الروهنغيا وذلك للتخفيف من معاناتهم وتشمل مواد أساسية للإغاثة والإعاشة.
ومن المتوقع أن تصل الشحنات إلى عاصمة بنغلاديش دكا بين 2 و11 أكتوبر.
في المقابل، وجّهت الشيخة حسينة زعيمة بنغلاديش صفعة مدوية للرئيس الأميركي دونالد ترامب على خلفية موضوع اللاجئين الروهنغيا، إذ نفت قوله أنه سألها عن هذا الموضوع خلال مروره بها في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، كما ونفت أنه عرض أي مساعدة، قبل أن تضيف أن بنغلاديش التي تُطعم 160 مليوناً من سكانها لن تفشل في مساعدة نصف مليون إضافي من أقلية الروهنغيا ومقاسمتهم الطعام.
إلى متى الصمت؟
تقول تيرانا إن “صمت المجتمع الدولي وعدم اتخاذه لتدابير حازمة هو ما أوصل الأمور إلى هذا الحد المتدهور. وفكرة أن الأمور انتهت الآن هي غير صحيحة. لقد فر مئات الآلاف من الأشخاص من هناك حتى اليوم ولا نستطيع كمنظمات دولية أن نصل للأجزاء التي تُعاني من الاضطهاد.”
حتى اليوم لا تستطيع الأقمار الاصطناعية التقاط مشاهد وافية لما يحدث في أراكان بسبب سوء الأحوال الجوية والغيوم. وكما أسلفنا فإن المشاهد التي حصلنا عليها تُظهر فداحة الدمار اللاحق بقرى الروهنغيا. ولغاية أن يصحو الطقس، فنحن لا نعلم كم قرية تم حرقها لغاية ذلك الوقت.
وإلى حين جلاء الأمور، تنتظر امرأة من الروهنغيا وصول أي خبر ينبئها عن مصير ثلاثة من أطفالها.
“لقد كنا نطبخ. هزتنا أصوات الانفجارات والرصاص. هربت إلى الغابة حيث وجدت والدي ووالد زوجي. كان معي طفلي، لكن لا أعلم مصير أطفالي الثلاثة الذين كانوا في مكان ما من القرية”.
تلك هي شهادتها التي بللت كلماتها الدموع.
“لقد رأيت إصابات بالرصاص وحروقاً بالغة….الفظائع المرتكبة مِن قِبَل الجيش في ميانمار على الأرض تتخطى التصور. يجب أن يقوم المجتمع الدولي بفرض ضغوط على ميانمار لإيصال الرسالة أن العالم لن يتحمل هذه الأفعال غير المقبولة”، يقول ماثيو.
ومن جملة الضغوط التي يقترحها الناشطون منع بيع الأسلحة لميانمار وعقوبات دولية ومحاكمة المسؤولين.
كما ويطالبون حكومة ميانمار بالسماح للجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة وللمنظمات الإنسانية بالوصول إلى إقليم أراكان بكافة أجزائه.
والسؤال يبقى: كم من الأشخاص عليهم أن يموتوا لكي يقول العالم كفى؟