وكالة أنباء أراكان (ANA) (الاتحاد)
بقلم:تشارلز بو
رئيس الأساقفة الكاثوليك في يانجون
تقف ميانمار (بورما سابقاً) الآن في وضع حرج حيث يحدوها الأمل وينتابها القلق في وقت واحد. فخلال الثلاث سنوات الماضية، سعت حكومة الرئيس «ثين سين» لتخفيف القيود المفروضة على الفضاء العمومي والسماح بمجتمع أكثر انفتاحاً. وفي هذا الإطار، تم الإفراج عن العديد من السجناء السياسيين، كما تم منح المجتمع المدني ووسائل الإعلام مساحة أكبر للعمل، وأصبحت زعيمة المعارضة «أون سان سوكي» عضواً في البرلمان بعد سنوات من السجن. وقد رحب العالم في الواقع بهذه التدابير واعتبرها بارقة أمل.
غير أن التحول الذي تشهده بلادي ميانمار ما زال أيضاً في مراحله الأولى. والطريق يبقى طويلاً لإنجازه. وشعاع الشمس الذي تسرب ما زال يواجه خطر أن تغشاه عاصفة من الغيوم، ولذا فنحن نصلي ألا يكون ذلك فجراً كاذباً.
ولخمسة عقود، عانت بورما من الديكتاتورية والحرب والتشرد والفقر والقهر. واليوم، تجد البلاد نفسها مهددة بمشكلات أخرى منها الفساد والظلم والصراع العرقي والكراهية الدينية والعنف. إن بورما دولة متعددة العرقيات والديانات، حيث إن أغلبية الشعب البورمي من البوذيين. فإذا ما أرادت أن تصبح فعلاً حرة وأن تنعم بالسلام والازدهار، فإنه يجب عليها حماية حقوق كافة العرقيات والعقائد الدينية. ولكن البوذية القومية المتطرفة، وهي الحركة التي نمت في الحجم والتأثير تهدد هذا الأمل.
وعلى مدار العامين الماضيين، كانت المجتمعات المسلمة في جميع أنحاء بورما تعاني من عنف مروّع، يزيد من كثافته خطاب الكراهية الذي يلقيه بعض رجال الدين من القوميين البوذيين المتطرفين. وعليه، فقد تم تشريد الآلاف من المسلمين، ونهبت وحرقت منازلهم ومتاجرهم، إلى جانب قتل مئات آخرين.
وتزداد الأزمة حدة خاصة في ولاية «راكين» بغرب بورما، حيث يقيم «الروهينجا» منذ أجيال، الذين جردوا من إنسانيتهم. وهذه كارثة إنسانية تتكشف، وظلم مستمر يتواصل بلا نهاية. وعلى المدى الطويل، يتعين معالجة تاريخ «الروهينجا» وهويتهم ووضعهم على نحو عادل وإنساني. وهم يطلبون مساعدات طارئة لتلبية احتياجاتهم الأساسية حالياً.
كما أن الأقليات الدينية في أماكن أخرى من بورما كثيراً ما تكون أيضاً عرضة للتمييز، فقد أجبر سكان «كاشين»، وهي ولاية بشمال بورما، وأغلبهم من المسيحيين، على الإقامة في معسكرات للاجئين. وتتواصل الحرب في ولاية «كاشين». وفي الأسابيع الأخيرة تم تشريد آلاف من المدنيين. أما ولاية «شان» الشمالية فتواجه هجمات متزايدة من قبل الجيش. وهكذا تظل عقود من الصراع العرقي بلا حل، على رغم أن محادثات السلام لا تزال جارية، غير أن السلام لن يتحقق إلا من خلال حوار حقيقي تتم فيه معالجة احتياجات وبحث اهتمامات جميع الأطراف السياسية، والتوصل إلى اتفاق لضمان الحكم الذاتي للجماعات العرقية، إلى جانب حقوقهما العادلة ونصيب متكافئ في مستقبل بورما.
ومن ناحية أخرى، فإن القوانين المقترحة «لحماية العرق والدين»، تهدد الحريات الدينية في الوقت الذي يبدأ فيه الناس أخيراً بالتمتع بحريات أخرى. وهذا التشريع، الذي سيقيد الزواج بين الأديان المختلفة، ويصل إلى درجة السعي إلى الحد من النمو السكاني للمسلمين، هو تشريع خطير وغير ديمقراطي. فالزواج يعد من أهم الحقوق الأساسية للإنسان، ولا ينبغي إجبار أي شخص على الانضمام لديانة بعينها، أو الزواج من إنسان لا يريده. ولحسن الحظ، فإن النساء البورميات من جميع العرقيات والديانات، قد انضممن لمنظمات مجتمع مدني حتى يتسنى لهن الإدلاء برأيهن بصورة علنية حول هذا الاقتراح.
ولكن ما زال هناك العديد من التحديات، ليس أقلها الإصلاح الدستوري. وهذا هو التحدي الأكثر إلحاحاً لأهميته في مواجهة خطاب الكراهية. فكل يوم، يقوم الرهبان البوذيون المتطرفون بإلقاء عظات تحض على الكراهية، ولكنهم لا يتعرضون لأي عقاب. وأخشى ما أخشاه أن يكون هؤلاء الواعظون في سبيلهم لغرس البذور لمزيد من العنف، وربما على نطاق أكثر اتساعاً وشدة من ذي قبل. ولكن هناك القليل من الأصوات التي تتحداهم.
ومع ذلك، فهناك بعض المبادرات الممتازة من جانب المجتمع المدني، التي تستحق الدعم، وخاصة حملة «خطاب الزهرة» التي أسسها المدون «ناي فون لات»، وهو سجين سياسي سابق. كما أن هناك بعض الرهبان البوذيين الذين يحاولون التأثير على مجتمعهم والمشاركة في الحوار بين الأديان.
غير أننا جميعاً -القيادات الدينية والمدنية والسياسية- بحاجة إلى أن نرفع أصواتنا بخطاب التسامح لمواجهة خطاب الكراهية، إلى جانب ضرورة مبادرة الحكومة بتقديم أولئك الذين يحضون على التمييز والعنف إلى العدالة. فبعد عقود من القمع، لا أحد يريد الحد من حرية التعبير التي اكتشفناها مؤخراً. ولكن هذه الحرية يجب أن يصحبها إحساس بالمسؤولية، وألا يساء استخدامها لبث الكراهية.
إن جميع الديانات على أرض بورما تبعث برسالة سلام. ويتجلى ذلك في مفاهيم «اللطف» و«المحبة» و«الرحمة» التي تحث عليها الديانة البوذية، وتحية «السلام» للديانة الإسلامية، وتعاليم «حب الجار» و«حب الأعداء» التي تنادي بها المسيحية، والتي يجب نشرها جميعاً في كل ربوع بورما الجديدة. وعلى الواعظين الدينيين الحث على الخير في عظاتهم بدلاً من مهاجمة الآخرين.
وينبغي القول إن الوحدة في التنوع هي مصير بورما، إنها الوحدة التي تعلمنا من خلالها احترام الفوارق. ومن ناحية أخرى، ينبغي على المجتمع الدولي أن يمد لنا يد العون في هذا المضمار، وفي كافة صراعاتنا الأخرى. وعلى العالم ألا يدع هذه الفرحة السابقة لأوانها تجعله يغض الطرف عما يحدث في بورما، فمستقبل بورما ما زال معلقاً حتى الآن.