[caption align="alignleft" width="300"]أبعاد ودلالات الهجمة الوحشية التي يتعرض لها المسلمون الروهنجيا في أراكان من قبل النظام الحاكم في بورما في الوقت الراهن[/caption]
بقلم : عزيز عبد المجيد الأركاني
أعلنت الحكومة البورمية في الثالث من شهر يونيو الماضي عن حادث جنائي وقع في ولاية أراكان غربي البلاد فحواه .. أن هناك فتاة بوذية وجدت مقتولة بعد تعرضها لحالة إغتصاب على أيدي مجهولين ، وذلك في طرف قرية صغيرة تسكنها الغالبية البوذية من طائفة الموغ ، وفي وقت لا حق أعلنت السلطات البورمية عن إلقاء القبض على ثلاثة أشخاص تشتبه في ضلوعهم في إرتكاب تلك الجريمة ، وينتمي هؤلاء إلى الأقلية الروهنجية المسلمة في أراكان ، ولم تمض 48 ساعة من الإعلان الحكومي ، حتى قامت مجموعة من العصابات البوذية المتطرفة بإعتراض حافلة صغيرة كانت تتجه إلى العاصمة القديمة رانجون وهي تقل مجموعة من دعاة جماعة التبليغ المسالمة وارتكبت بحقهم مجزرة وحشية على مقربة من بلدة تونغو، حيث قتلت عشرة أشخاص ومثلت بجثثهم بأسلوب بربري أمام مرأى ومسمع السلطات المحلية علناً وجهراً ،وبررت الحكومة تلك الجريمة البشعة بالقول أنها جاءت في سياق رد الفعل العنيف من قبل طائفة (رخاين) التي تنتمي إليها الفتاة إنتقاماً لمقتلها. ومن المؤسف أنها لم تتخذ أية إجراءات توحي أنها جادة في تعقب الجناة والمجرمين الذين إرتكتبوا تلك المجزرة الوحشية ، وذلك على الرغم من أن الجناة معروفون ، مما شعر أفراد الأقلية الروهنجية المسلمة بأن هناك مؤامرة تحاك ضدهم وبل أن هناك خططاً أعدت لضربهم في هذا التوقيت .
وبعد مضي قرابة أسبوع من وقوع تلك المذبحة البشعة وبسبب تجاهل الحكومة البورمية وصمتها المطلق تجاهها خرجت مجموعات من المصلين عقب أداء صلاة الجمعة في تظاهرات وإعتصامات سلمية مطالبين السلطات بالتحقيق في تلك المذبحة وذلك بتاريخ 8 /6/2012 في مدن أكياب ومنغدو وبوثيدونغ ، حيث واجهت السلطات تلك الإعتصامات والمظاهرات السلمية بإطلاق الأعيرة النارية الحية على المتظاهرين ، وقتل على أثره عشرات من أبناء الأقلية الروهنجية ، ولم تكتف بهذا بل أوعزت إلى طائفة الـ(موغ) المستوطنة في الإقليم مهمة قتل أبناء الروهنجيا وحرق بيوتهم وقراهم بصورة منهجية ، وبما أن أفراد القوات الأمنية والعسكرية المنتشرين في إقليم أراكان مثل : الجيش والإستخبارات وحرس الحدود والشرطة المحلية ، ينتمون إلى طائفة الموغ أو البورمان البوذيين فإنهم نسقوا الأدوار المتبادلة بينهم بعناية في قيادة حملات إبادة أبناء الروهنجيا ، فمن جهة تقوم عصابات الموغ بإشعال النار في قرى المسلمين الروهنجيا ، وحينما يحاول سكانها المسلمون الفرار من بيوتهم هرباً من النيران تجاه الغابات والأحراش فإنهم يتعرضون لرصاص الجيش أو لضربات سيوف وسواطير عصابات الموغ المحمية من قبلهم من جهة أخرى .
ومنذ قرابة شهرين بات الجيش البورمي و بالتنسيق مع عصابات الموغ المحلية يشن حملات منسقة على بلدات وقرى المسلمين في أراكان حيث لم تبق بلدة او قرية في أرض أركان يسكنها المسلمون الروهنجيا إلا وتعرضت للحرق أوالتهجير بهدف التطهير العرقي ضد الأقلية الروهنجية المسلمة . ولا زالت تلك الحملات جارية على قدم وساق ، وبخاصة في ظل تعتيم إعلامي قسري فرض على الإقليم إذ تمنع السلطات البورمية وسائل الإعلام الأجنبية من الوصول إليه ومن ثم نقل الأحداث منه، كما لا يوجد فيه أي من المراقبين الأجانب ، وفي ظل حصار مطبق أصلاً على المسلمين الروهنجيا منذ خمسة عقود فإن القوات البورمية مازالت تمارس بحق الروهنجيا أبشع أنواع الجرائم من قتل وتشريد وخطف. وهناك خشية حقيقية لإختفاء قرابة عشرين ألف شخص بين قتيل ومفقود منذ بداية إندلاع الأزمة وبل أن هناك دلائل مؤكدة عن وجود مقابر جماعية لألاف أشخاص أعدموا في موقعين في شمال منطقة أراكان أحدهما في قرية تسمى هواربيل (زيغنغ برانغ )وبالتحديد في مكان يسمى ( خرولار زيري ) وهذا المكان يقع بالقرب من القيادة العسكرية لمنطقة منغدو (تناشوك )، والأخر في مكان يعرف بالميل 10 التابع لمنطقة بوثيدونغ ، كما أن هناك مئات الآلاف أصبحوا مهجرين أو مشردين بدون مأوى في أحراش وغابات فلا طعام ولا دواء لهم وبخاصة في ظل ما تشهده المنطقة من أمطار موسمية غزيرة في مثل هذه الأوقات من السنه ، مما بات أكثر المهجرين عرضة للموت إما جوعاً أو مرضاَ ، كما أن بورما إلى عهد قريب كانت ترفض دخول هيئات إغاثية دولية لإغاثة هؤلاء المشردين مخافة إنكشاف جرائمها وممارساتها ضد المسلمين الروهنجيا هناك ، وفي بداية الأزمة بررت الطغمة الحاكمة في بورما أن المشكلة لا تعدو كونها نزاع طائفي بين الرخاين والروهنجيا المهاجرين غير شرعين من بنجلاديش وأصبحت الأمور تحت سيطرتها تماماً كما زعمت ، وما لبث أن صرح رئيس بورما تين سين نفسه قائلاً أن بورما لا ترحب بالروهنجيا في أراضيها وعلى المجتمع الدولي تجميعهم في معسكرات مغلقة لترحيلهم إلى بلد أخر على حد تعبيره . وهكذا ظهرت النوايا الحقيقة لحكام بورما في إنهاء الوجود الإسلامي في أراكان بإخراج المسلمين الروهنجيا من أرضهم وتشريدهم من وطنهم بهدف التطهير العرقي وذلك بغض النظر عما أثير حول حادث الفتاة ـ إن كان صحيحاً أم لا ـ وذلك بتزوير حقائق التاريخ والجغرافيا وبتسويق الكذبة الكبرى في هذه المرحلة على المجتمع الدولي عن الروهنجيا مؤداها بأنهم مهاجرون غير شرعيين ، وحيث أن المجتمع الدولي ما زال صامتاً تجاه هذا التصريح العنصري الأرعن ودم الروهنجيا مازال ينزف بلا توقف فإننا نورد الحقائق التالية عن تاريخ الروهنجيا في أراكان ومن ثم عن أسباب هذه الهجمة الشرسة التي يتعرض لها المسلمون الروهنجيا في أراكان من قبل الطغمة الحاكمة في بورما في هذا التوقيت :
الحقائق التاريخية :
كانت أراكان مملكة مستقلة في جنوب شرق أسيا لقرون طويلة إلى ما قبيل العهد الاستعماري البريطاني في القرن التاسع عشر ولها تاريخ حافل بالأحداث ، قد يتصور البعض أنها محض خيال أو قصص من أساطير . ولكن هذا غير صحيح ، وتاريخ هذه المملكة أعرق وأقدم من تاريخ بورما نفسها وهي على غرار الممالك والدول التي كانت ومازالت موجودة في المنطقة مثل سيام (تايلاند) وكمبوديا ولاوس وأنام (فيتنام) والإمبراطورية الصينية والإمبراطورية المغولية في شبه القارة الهندية وحتى موسوعة غينيس للأرقام القياسية تذكر أن ملك أراكان مينهاتي يعد أول ملك في التاريخ المسجل يحكم لأطول فترة حكم على الإطلاق إّذ إمتد حكمه لـمدة 95 عاماً.
مصدر الخريطة : أطلس العالم التاريخي ، الدكتورفالتر لايسرينغ ، برلين 2011
هذه الخريطة التاريخية لقارة أسيا للفترة ما قبيل العهد الإستعماري أي حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وهي خريطة دولية معتمدة في حل قضايا المنازعات الدولية في الوقت الحاضر وهي ضمن صحفات أطلس تاريخي معتمد في الدول الناطقة باللغة الألمانية للأغراض الأكاديمية والبحثية ، حيث تظهر أراكان كدولة مستقلة تماماً ضمن دول المنطقة .
والسؤال الآن أين أراكان في الخارطة الدولية ولماذا لم تقم دولة مستقلة بحدودها القديمة بعد زوال الإستعمار على غرار دول المنطقة التي حافظت على كياناتها في الوقت الحاضر ؟
الإستراتجية المخططة من قبل قومية البورمان لسرقة تاريخ أراكان:
في الحقيقة أن البورمان قاموا بإحتلال أركان عنوة وظلماً وعدواناً وعلى أثره رسموا خططاً إستراتيجية لسرقة تاريخ أراكان أرضاَ وشعباً عبر مراحل وبالتدريج ، أو ما يسمى بأسلوب الدحرجة ، وكان هدف تهجير سكانها الأصليين في المقدمة دائماً . فكل ما جرى ويجري سواءً في العهود السابقة أو اللاحقة تنصب في تحقيق شيء واحد فقط بالنسبة للبورمان ألا وهو (إخراج سكانها المسلمين الروهنجيا منها بأية وسيلة أمكن ) أو ما يعرف في العصر الحديث القيام بالتطهير العرقي عن طريق الإبادة الجماعية وهو الهدف الكلي في المحصلة ، حتى لاتكون هناك مطالبة شعبية بالإستقلال في يوم من الأيام ، إدراكاً من البورمان لمعني المثل القائل : ما ضاع حق وراءه مطالب . ولم يكتفوا بهذا بل عمدوا إلى تزوير الحقائق والتاريخ وباتوا يروجون بناءً عليه الآن الكذبة الكبرى عن سكان أراكان الأصليين بأنهم مهاجرون غير شرعيين . وذلك لشرعنة إحتلالها على المستوى الدولي .
دخول الإسلام إلى مملكة أراكان :
وصل الإسلام إلى سواحل مملكة أراكان في القرن الثامن الميلادي وذلك عن طريق التجار العرب الذين أموا سواحل جنوب شرق أسيا ، ومع مرور السنوات إزدات أواصر الصلة والإربتاط بين المسلمين وسكان المنطقة بسبب المصاهرة و دخول الكثير منهم في الإسلام حتى جاء القرن الخامس عشر وبالتحديد عام 1404م حيث هاجم البورمان على مملكة أراكان واحتلوها ومن ثم قاموا بقتل وتشريد سكانها مما حدا بملكها نرميخلا اللجوء إلى مدينة غوار وذلك تحت حماية السلطان جلال الدين شاه الذي كان حاكماً على بلاد بنغال من قبل الإمبراطور المغولي ، الذي جهز جيشاً جراراً لتمكين الملك نرمخيلا من إستعادة حكمه من أيدي البورمان ، وفي عام 1430م إستعاد الملك نرمخيلا حكمه في أراكان مجدداً وذلك بفضل الدعم العسكري الذي تلقاه من قبل حاكم بنغال (1) ، مما جعله يعتنق الإسلام فغير إسمه من نرمخيلا إلى سليمان شاه ، وتبعه مواطنوه ولم تمض سنوات حتى أصبح غالبية سكان أراكان مسلمين ، وبالتالي أصبحت أراكان مملكة إسلامية كما أن علاقاتها وروابطها السياسية والإقتصادية والإجتماعية إنحصرت بالامبراطورية المغولية غرباً دون غيرها من دول الجوار مما أصبح هناك تمازج سكاني كبير فيها تبعاً لمكونات شعب الإمبراطورية المغولية ، لذلك نجد أن سكان الروهنجيا فيهم التنوع الكبير من حيث الأصول والأعراق فمنهم من يحمل سحنات قوقازية و منهم من يحمل سحنات مغولية وبتفاوت في ألوان البشرة من أسمر إلى أبيض ومنهم بين وبين فضلاً عن الجذور العربية لكثير من سكانها ، ولقد ودامت هذه المملكة الإسلامية لمدة تقارب أربعة قرون (1430ـ1784) وتعاقب على حكمها 48 ملكاً مسلماً ، حتى غزاها الملك البورمي بودابيا عام 1784م فإحتلها من جديد، كان ذلك قبيل الإستعمار البريطاني بقليل ، مستغلاً الظروف التي كانت تواجهها الإمبراطورية المغولية أنذاك حينما كانت إنشغلت بحروب مع المد الإستعماري البريطاني في المنطقة( 2).
مراحل تشريد سكان المسلمين الروهنجيا من أراكان :
مرحلة بداية الإحتلال البورمي :
عندما إحتل بودابيا أراكان قد أرتكب بحق المسلمين الروهنجيا أبشع الجرائم والإنتهاكات من قتل وإبادة وتشريد وقد كان هذا الملك الظالم أول من خطط لعملية التطهير العرقي الشامل للمسلمين في أراكان حتى لايكون لهم أية قائمة مجدداً ، كما قام بتدمير العاصمة التاريخية لمملكة أراكان مير كيو (فاتري كلا) وبخاصة المعالم الإسلامية في المدينة ، وعلى إثره هاجر أكثر سكان أراكان إلى منطقة شيتاغونغ في بلاد بنغال ،ووقائع وأحداث هذه الفترة التاريخية مرصودة من قبل كثير من الباحثين والأكاديميين مثل مايكل شارني ، الباحث في جامعة ميتشغن بالولايات المتحدة الأمريكية وغيره من المهتمين بتاريخ المنطقة إلا أن شعب الروهنجيا رغم معاناته دائماً كان إلى عهد قريب يتذكر مأسي تلك الأيام الصعبة عبر ملحمة شعرية طويلة تسمى في لغة الروهنجيا بـ ( فوتي ).
مرحلة الإستعمار البريطاني :
لم يستمر الوضع هكذا طويلاً بل وسرعان ما سيطر الإستعمار البريطاني على المنطقة برمتها بما فيها بورما وأراكان ، وفي هذه المرحلة تنفس المسلمون الصعداء بتغير واقع الحال الذي كان يعيشونه ، فرجع على أثره أكثر سكانه المهجرين إلى بيوتهم ودورهم من شيتاغونغ ، وتسمى فترة الحكم الإستعماري في مورثات شعب الروهنجيا بـ ( شانتير زمانة ) أي زمن السلم ، لأن المسلمين الروهنجيا نعموا فيه بشيء من السلم والأمان بعد أن تعرضوا لحملات القتل والإبادة الواسعة النطاق من قبل ، وذلك نظراً لإنحساردور البورمان فيها بصورة أقل نسبياً.
مرحلة الحرب العالمية الثانية :
في أربعينات القرن الماضي وأثناء الحرب العالمية الثانية تحالف البورمان مع اليابانيين لطرد البريطانيين من بورما مما ذهب عدد منهم إلى اليابان للتدرب على السلاح ومقاومة الحكم البريطاني وعددهم ثلاثون شخصاً ، والبورمان يعتبرونهم أبطالاً وطنيين في تاريخهم ، وعندما عاد هؤلاء الأشخاص الثلاثين إلى بورما ، زودت اليابان البورمان بالأسلحة والعتاد العسكري لمحاربة البريطانيين ، وأمام الزحف الياباني السريع و المتواصل بإتجاه الغرب إبان ذروة الحرب العالمية الثانية وقبيل تعرضها للقصف النووي إنسحبت القوات البريطانية من بورما وأراكان إلى الهند ، وقد إستغل البورمان هذا الإنسحاب وقاموا بتسليح خلفاءهم من طائفة الموغ المستوطنة في إراكان بالأسلحة التي حصلوا عليها من اليابان وقد إرتكب هؤلاء مذبحة مروعة عام 1942 بحق المسلمين الروهنجيا مستغلين فراغ السلطة وحالة الفوضى التي سادت أراكان بإنسحاب القوات البريطانية منها وذلك لإحداث الرعب والصدمة في أوساط المسلمين الروهنجيا من جديد ، وراح ضحيتها أكثر من 100 ألف قتيل من المسلمين ،بالإضافة إلى تشريد مئات الألاف الأخرين في تلك الفترة ، وكان ذلك في واقع الأمر إنتقاماً لعودتهم مجدداً إلى حوضي نهر لميروا وكلادان وعاصمة اراكان القديمة ـ ميركيو .
مرحلة ما بعد إستقلال بورما عن بريطانيا وضم أراكان إليها :
عندما إستقلت بورما عام 1948 ألحقت أراكان ضمن أقاليمها، فلجأت من جراء ذلك السلطات البورميةمهادنة المسلمين كتكتيك مرحلي ، لأن وثيقة الإستقلال كانت تتضمن ضرورة ضمان حقوق الاقليات ومنحهم حق التقرير المصير ، وعليه عومل المسلمون بشيء من السواسية لدرجة كان هناك أربعة من الوزراء الأساسيين في أول تشكيل وزاري للحكومة البورمية بعد الإستقلال ، كما كانت هنالك برامج إذاعية تذاع باللغة الروهنجية من خلال الإذاعة الوطنية ، وعندما تمإعتماد بطاقة المواطنة لمواطني بورما عام 1952 منحت تلك البطاقة لكافة المسلمين الروهنجيا بدون إستثناء ، ولكن سرعان ما بدأت مظاهر التمييز والمضايقات ضد المسلمين الروهنجيا في أراكان تظهر في أوجه الحياة العامة بصورة ملفته ، مما ألجأ بعض الجماعات إلى حمل السلاح في وجه الحكومة وذلك في الخمسينات القرن الماضي ، وكان مطالبهم تنحصرفي تحقيق المساواة وضمان الحقوق الأساسية لأبناء الروهنجيا دون تمييز ، وحيث أن المسلمين الروهنجيا مسالمين في الأساسوبمجرد أن قبلت الحكومة البورمية تحقيق مطالبهم فإن تلك الجماعات وافقت على إلقاء السلاح ، وتوضح الصفحات المصورة من جريدة رسمية خبر إلقاء الأسلحة من قبل المجاهدين الروهنجيا ـ وفق تعبير الحكومة البورمية آنذاك ـ في حفل رسمي أقيم بتاريخ 4/7/1961م ، أي قبل أكثر من خمسين سنة ، حيث ألقى نائب رئيس هيئة الأركان للجيش البورمي أنذاك الجنرال أونغ جي كلمة أمام حشد من الجمهور أوضح فيها أن الروهنجيا عرق أصيل من أعراق بورما وهم جزء لا يتجزأ من الشعب البورمي ولهم كافة الحقوق الأساسية أسوة بغيرهم من المواطنين البورميين ، وفق ما تم تظهير كلامه داخل الإطار المستطيل بأسفله .
مرحلة ما بعد الإنقلاب العسكري عام 1962م :
عندما قام الدكتاتور البورمي السابق ني وين بالإنقلاب العسكري عام 1962م ، دشن مرحلة جديدة تماماً لإضطهاد المسلمين ليس فقط في أراكان بل في عموم بورما كلها ، إذ بدأ هذا الديكتاتور بطرد التجار ورجال الأعمال المسلمين الذين قدموا من شبه القارة الهندية إبان فترة الإستعمارالبريطاني وذلك بعد مصادرة أموالهم وأملاكهم ، كما نظم حملة شعواء ضد المسلمين الروهنجيا في أراكان طالت كل مفاصل الحياة ، تستهدف إجبارهم على الرحيل من أراكان ، وكان من ضمن الإجراءات التعسفية التي إتخذت ضدهم تأميم ومصادرة الأموال والأراضي والأوقاف الإسلامية ، كما تم تسريح جميع من كانوا على رأس الوظائف العامة بما فيها الجيش والشرطة ، وليس هذا فحسب بل تم التختيم في بطاقات الهوية للمسلمين الروهنجيا بملاحظة تفيد أن حاملها مشكوك في أصوله ، مما ضاق المسلمون الروهنجيا ذرعاً فبدؤا يهاجرون إلى مختلف البلدان تاركين وطنهم ، إلا أنه يلاحظ أن الدكتاتور ني وين لم يقم بأي إجراء مباشر ضد الروهنجيا يفضى إلى إستفزاز باكستان (حينما كانت بنجلاديش باكستان الشرقية ) ، لأنه كان يخشى رد فعلها القوي في حالة أن هناك توتراً في حدودها الشرقية مع بورما على نحو ما يحصل الآن .
مرحلة إنفصال باكستان الشرقية وقيام دولة بنجلاديش عام 1971 :
وعلى أثر إنفصال باكستان الشرقية عن الوطن الأم وظهور دولة بنجلاديش الحديثة على حدود أراكان الغربية عام 1971م تزايدت مضايقة المسلمين وتمييزهم في كافة مناحي الحياة بصورة أسوأ من ذي قبل في أراكان لمعرفة الحكومة البورمية أن هذه الدولة الوليدة على حدودها غرباً لا حول لها ولا قوة في مواجهة بورما ، ولذلك بدأ المسلمون يتعرضون لكافة أنواع الظلم والإضطهاد من قتل وتشريد وتنكيل على أيدي عصابات الحكومة البورمية المنتشرة في أراكان ، مما خرجت عدة مئات من أبناء الروهنجيا إلى دولة بنجلاديش المجاورة لأول مرة ومن ثم أعلنوا عن تأسيس جبهة للمعارضة تطالب بحقوق المسلمين الروهنجيا عام 1973م ، وكان هؤلاء في الأساس من طبقة المثقفين و المتعلمين في الجامعات والمعاهد البورمية ، ولم تمض خمس سنوات من إعلان وتأسيس هذه الجبهة حتى شنت الحكومة البورمية حملة عسكرية ضد المسلمين الروهنجيا في أراكان تحت إسم نجامين (ملك التنين) بدعوى التدقيق والفحص في هويات المسلمين الروهنجيا وذلك عام 1978م ، حيث زج بالألاف منهم في غياهب السجون ، مما لجآ أكثر من ربع مليون مسلم روهنجي إلى دولة بنجلاديش ، وبعد تفاهمات ثنائية بين كل من بورما وبنجلاديش عاد أكثر اللاجئين إلى أراكان في حينه إلا أن معاناة المسلمين الروهنجيا لم تنته بعد بل إتخذت طابعاً أكثر عنفاً وقساوةً من ذي قبل ، وفي هذا الصدد كان الإجراء الذي إتخذته الحكومة البورمية بإعلانها قانون الجنسية البورمية عام1982م وذلك بعد مرور أربعين عاماً من إستقلال بورما ، يستهدف هذا الإجراء في الأساس المسلمين الروهنجيا لتجريدهم من كافة الحقوق الإعبتارية، لذلك تم تصنيفهم على ضوء هذا القانون دخلاء غيرشرعيين ، ومن هنا بدأ وصم المسلمين الروهنجيا بالمهاجرين غيرشرعيين من بنجلاديش لأول مرة ، مما أصبحوا مجردين من كافة الحقوق الإنسانية في وطنهم ، والحال كذلك ولم تمض سنوات معدودة حتى أعلنت بورما بقيادة ني وين إفلاسها السياسي والإقتصادي عام 1988م ، الأمر الذي جعل الشعب البورمي يثور على وجهه بإنتفاضته المشهورة التي تم قمعها بأسلوب وحشى وما تلى ذلك من تطورات سياسية في البلاد ، ثم إجراء الإنتخابات التشريعية عام 1990م حيث فازت المعارضة ، الأمر الذي لم يكن مقبولاً من قبل العسكر لذا تم إلغاء نتائجها في حينه ، وحيث أنهم كانوا في حاجة إلى إفتعال أزمة على المستوى الوطني للإستمرارعلى الحكم ، فإن المسلمين الروهنجيا أصبحوا مرة أخرى كبش فداء بإعتبار أنهم الحلقة الأضعف في تركيبة القوميات ، لذلك شنت الحكومة العسكرية البورمية ضد أبناء الروهنجيا حملات عنف وقتل وتشريد على نطاق واسع من جديد ، مما لجأت قرابة ثلاثمائة ألف منهم إلى بنجلاديش عام 1991م مجدداً ، ومرة أخرى شهد العالم أزمة إنسانية بالغة السوء يعاني منها المسلمون الروهنجيا ، لذلك تدخلت الأمم المتحدة لدى الحكومة البورمية ، وبتفاهمات ثنائية بين بنجلاديش وبورما عاد مرة أخرى أكثر اللاجئين إلى أراكان ولكن هذه المرة بإشراف المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ، إلا أن تصميم الحكومة البورمية على تشريد وتهجير المسلمين الروهنجيا من أراكان لم ينته بل أزداد إصراراً أكثر من أي وقت مضى ، لذلك تم على الأرض إتخاذ المزيد من الإجراءات القمعية بحقهم منها : سحب هويات المسلمين الروهنجيا وإعطاهم هويات مؤقته وتجريدهم عن أملاكهم و أراضيهم ، وتسنين قوانين قاسية تقيد من حرياتهم في التنقل و العمل والكسب و الزواج ، وإستخدامهم في أعمال السخرة لبناء وخدمة مراكز الجيش ، وإطلاق يد طائفة الموغ بزرع بور إستيطانية لها حول قري المسلمين في أراكان ، وممارسة مزيد من أساليب القمع والخنق مما يجعل المواطن الروهنجي يفر من أرضه ، وبينما الحكومة البورمية تواصل تلك السياسات القمعية بحق المسلمين الروهنجيا بصورة يومية تفاجأ العالم بحدوث الإضطرابات الأخيرة في أراكان ، وقيل أن سببها مقتل فتاة بوذية ويا للعجب كم من فتاة مسلمة تغتصب وتقتل يومياً في بورما دون أن يحرك أحد ساكناً إنها لمن المفارقة !
الحادث الأخير قصة مفبركة من أعداد وتنفيذ المخابرات البورمية بإمتياز
تعتبر بورما دولة بوليسية قمعية والطغمة الحاكمة تعتمد على جهازها الإستخباراتي في إدارة شؤون الدولة بصورة أساسية ، كما أن أجهزتها الأمنية قوية جداً ، فلو أن هناك حادثاً جنائياً من قبيل ما أعلنتها الحكومة البورمية بشأن الفتاة البوذية المقتولة ، فإن جهازها الأمني قادر على الوصول إلى الجناة في أقصروقت ومن ثم معاقبتهم وفقاً للقانون ، أما أن تتطور الأمور لدرجة تظاهرت الدولة البورمية أمام المجتمع الدولي بأنها عاجزة عن إحتوائها فإن ذلك غير متصور في دولة مثل بورما ، بالإضافة إلى ذلك فإن التصريح الأخير لرئيس بورما تين سين فضح نواياه الحقيقية تجاه المسلمين الروهنجيا ، لذلك فإن هذا الحادث من إعداد وتنفيذ المخابرات البورمية بإمتياز، أختيرتوقيت إفتعاله بعناية .
أسباب شن حملة إبادة وتصفية شاملة بحق المسلمين الروهنجيا، وإختيار توقيت لها في هذا الظرف :
1ـ الطغمة الحاكمة في بورما لا يمكنها الإستمرار في الحكم إلا بإفتعال الأزمات ، وذلك من خلال اللعب بالتناقضات العرقية ، وبعد إجراء مسرحية الإنتخابات الصورية عام 2010 ومن ثم خلع بعض جنرالات الجيش بزاتهم العسكريةوعلى رأسهم تين سين نفسه ، تحقيقاً للديموقراطية الموعودة من قبلهم ، فقد البعض مراكز القوة داخل النظام ، فبات من الضروري إفتعال الأزمة ، وكالعادة أصبح المسلمون الروهنجيا هم الضحية .
2ـ إرتياح الطغمة الحاكمة من الموقف الدولي معها ، فبعد أن كان بعض أعضاءها على وشك الملاحقة من قبل محكمة الجنايات الدولية بتهمة إرتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية ، أصبحوا في عشية وضحاها أبطالاً للإصلاح داخل النظام البورمي وذلك في نظر كثير من الدول ، ولا أدل على ذلك من تقاطر العديد من زعماء العالم لزيارة بورما خلال فترة وجيزة ، إذ زارها كل من وزيرة الخارجية الأميركية السيدة / هيلاري كلنتون ، ورئيس وزراء بريطانيا ديفيد كامرون ، ووزير خارجية فرنسا برناركوشنار ، ورئيس باكستان أصف زرداري ، ورئيسة وزراء بنجلاديش حسنية واجد ، ورئيس وزراء الهند مانموهان سينغ ، وآخرون من عديد من الدول.
3ـ مد خطوط أنابيب نقل الغاز والبترول من منطقة أراكان إلى كل من الهند والصين مما يتوقع أن تشهد المنطقة طفرة إقتصادية في الأجل القريب وبخاصة في مجال تطوير البنية التحتية وقد يستفيد منها المسلمون الروهنجيا في المستقبل وبالتالي يتغير الواقع الذي يعيشونه الآن معزولين عن العالم .
4ـ صدور الحكم من المحكمة الدولية لقوانين البحار في هامبورغ لصالح بنجلاديش ضد بورما في شهر مارس الماضي في نزاعها على المياه المشتركة بين الدولتين بغالبية 21 ضد 1 ، حيث أخذ في حيثيات القرار العمق الجغرافي والتاريخي وطبيعة السكان المحليين ، الأمر الذي كان محل تذمر الحكومة البورمية . وللمعلومية أن الحكومة البورمية حاولت عام 2008م التنقيب عن البترول والغاز من خلال التعاقد مع شركة دايو الكورية في مياه سواحل أراكان من طرف واحد ، ولكن بنجلاديش عارضت بقوة ومن ثم تم رفع النزاع إلى المحكمة الدولية حتى صدر الحكم ضدها ، لذلك تقوم الآن بمسح كل ما هو متصل بهذه القضية من قرائن وبخاصة على الصعيد السكاني .
5ـ إستغلال وتوظيف حدث الزيارة الإحتفالية التي قامت بها المعارضة السابقة أونغ سان سوكي لبعض الدول الأوربية مصحوبة بتغطية إعلامية واسعة النطاق وتزامنت هذه الزيارة مع بداية إفتعال الأزمة ، وهي أيقونة الديمقراطية في بورما وقديسة سياسية في نظر الأوربيين .
6ـ معرفة الحكومة البورمية مسبقاً للمواقف السلبية للحزب الحاكم في بنجلاديش تجاه أبناء الروهنجيا المسلمين لإعتبارات الحسابات السياسية الداخلية .
7ـ أخيراً وهو الأهم .. الإعلان عن تشكيل تنظيم جديد لأبناء الروهنجيا على المستوى الدولي في العام الماضي وذلك برعاية منظمة التعاون الإسلامي ، الأمر الذي أقلق بورما جدياً من تدويل قضية المسلمين الروهنجيا في المستقبل المنظور لذلك بادرت بإفتعال هذه الأزمة .
(1) الأزمات والإصلاحات في مملكة أراكان ، بحث مايكل شارني ، جامعة ميتشغن ، صفحة 1 .
(2) العلاقات بين أراكان وبنغال ، محمد علي شودري ، صفحة 1، نيودلهي ، الهند.