بقلم: حسن أوريد
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
في زيارة لوفد مغربي لمعهد الدراسات حول الحرب والهولوكوست والإبادة بأمستردام في نونبر المنصرم (2017)، استمعت لشروحات مدير المعهد عن صور البشاعة التي اعتورت التجربة الإنسانية في القرن العشرين، ودفعتْ جماعة قوية إلى أن تقضيَ على أخرى وتَعْمدَ إلى إبادتها بناء على تصور إيديولوجي.
سلمني كتابا عن أشكال الإبادة التي تفتق عنها العقل البشري، من تقتيل وتحريق وتجويع وترهيب وتطهير عرقي، وعن الجماعات التي كانت ضحية له من الأرمن واليهود وما تعرضوا له من هولوكوست، والكمبودج مما اقترفه الخمير الحُمْر، إلى الحرب الأهلية برواندا فيوغسلافيا (وهو المصطلح المستعمل في أدبيات المعهد). سألت مسؤول المعهد بعد إذ فرغنا من الجولة، وماذا عن الروهنغيا، أليس هناك تطهير عرقي يجري أمام أنظارنا؟ توقف هنيهة، وأجاب ببيروقراطية باردة: ممكن أن نجري لهم فصلا في المستقبل حينما يدخلون التاريخ.
استغربت لهذه النظرة التي تجعل بوابة التاريخ أن يتعرض شعب ما إلى حد ما من التقتيل والترويع، أي ألا يُعترف بجماعة مهضومة حتى تُمحقَ وتتعرضَ للإبادة، وتصيب الفأس الرأس. وما هو حد البشاعة الذي يتيح الاعتراف؟ ومن يحدده؟ أدبيات المعهد مثلا لا تتحدث عن الكولاك، ولا التطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون منذ النكبة. وما يفيد التاريخ في نهاية المطاف إن لم يصلح عبرة؟ ما معنى أن نقف على العمل الأكاديمي لمعهد علمي يريد أن يحفظ الذاكرة ويزعم التربية من أجل صد النزوعات الممكنة للإبادة وشروحات مسؤوليه، إن لم يُفد في تجنيب مظالم وبشاعات محتملة أو ممكنة أو جارية فعلا، ويلتزم الصمت عما يتعرضه الروهنغيا بميانمار؟ أليس يقال إن الجريمة والتستر عليها شيء واحد؟ وأشكال التستر عدة، ومنها التجاهل.
لا يمكن لأي شخص إلا أن يشجب بشاعة محاكم التفتيش، ولا يمكنه إلا أن يأسى للضحايا، ولكن لِم التكتم عن مأساة أخرى جرت بالأندلس، تلك التي حقّت بالمسلمين من ساكنة الأندلس المعروفين اصطلاحا بالموريسكيين؟
ما يجري في ميانمار تطهير عرقي، ولكن "الضمير الإنساني" يلتزم الصمت حياله، كما لو أن شأن المسلمين حينما يتعرضون للإبادة لا يدخل ضمن المأساة الإنسانية ولا يحرك الضمير الإنساني، وكأنما لا تحق فيهم تلك الحكمة المأثورة لشكسبير في تاجر البندقية؛ "أليس تجري في اليهودي نفس الدماء التي تجري في الإنسان، ألا يألم كما يألم باقي الإنسان؟".
أليس الروهنغيا أُناسا كباقي الإنسان، أم ذنبهم أنهم مسلمون؟ الوحيدون الذين يشجبون ما يتعرضون له من الدول هي الحكومات الإسلامية. نعم، زار البابا ميانمار ديسمبر المنصرم، وانتقل إلى إقليم أراكان، وظل في دائرة المقبول سياسيا، وعبّر عن تضامنه مع الضحايا، ولم يذهب إلى إدانة من هم مسؤولون عن جرائم التطهير العرقي. صحيح أن تم التطرق إلى الموضوع في الأمم المتحدة، وتم شجب ما يتعرض له المسلمون في إقليم أراكان، ليس فقط من تقتيل بل من تعتيم إعلامي وتضييق في إيصال المساعدات الإنسانية، ولم تشفع الأمم المتحدة بإجراءات عملية موازية للإدانة. مؤلم أن نُذكّر بواقع الحال، وهو الكيل بمكيالين، وهو الشعور الذي يثير الغضب، وقد يغذي العنف. فَهْمُ الأسباب الدافعة للعنف لا يعني طبعا تبريره.
بغرناطة الأسبوع المنصرم، زرت متحف محاكم التفتيش ووقفت على أساليب التعذيب التي تفتق عنها عقل الشر للتنكيل بمن اعتبرتهم الكنيسة مهرطقين أو جانحين أو ما اقترفته في حق اليهود. لا يمكن لأي شخص إلا أن يشجب بشاعة محاكم التفتيش، ولا يمكنه إلا أن يأسى للضحايا، ولكن لِم التكتم عن مأساة أخرى جرت بالأندلس، تلك التي حقّت بالمسلمين من ساكنة الأندلس المعروفين اصطلاحا بالموريسكيين؟ وهو مصطلح قدحي نحته المسيحيون للتدليل على "الآخر" أي المسلمين من أهل الأندلس، وهي كلمة مركبة من كلمتين "Moro Chico" أي العربي الصغير أو الحقير. بذات الوقت الذي صاغ المسيحيون الإسبان مصطلح "مارانوس" (Marranos) القدحي للتعبير عن اليهود، وتعني بالإسبانية الخنازير.
يظل هذا الفصل من مأساة الموريسكيين، الذي يطاله النسيان أو التناسي، من الفصول المؤلمة في علاقة العالمين الإسلامي والغربي. سبق لملك إسبانيا السابق خوان كارلوس أن عبر عن اعتذاره لما حاق باليهود، وأقرت إسبانيا قبل سنتين بحق اليهود من أصول إسبانية المعروفين بالسِّفَرْاديم (وهي كلمة عبرية تعني أهل الكتاب، من السّفر، وهو المخطوط بالعبرية) في التمتع بالجنسية الإسبانية. كل ذلك يشرّف إسبانيا ومسؤوليها بالاعتراف بحقوق مواطنيها اليهود، والتعبير عن الاعتذار عما حاق بهم. لكن الوقوف في منتصف الطريق هو أسلك الطرق للإجهاز على الحق، فالحق لا يُجتزأ، ولا يمكن أن يطبق لفائدة جماعة وتُحرم منه أخرى.
مأساة الموريسكيين ليست حدثا ينصرف للتاريخ، ويحيل إلى سابقة انتهت وانقضت، قد تهم المؤرخين، ولربما بعض الأسر والجمعيات ذات الأصول الأندلسية، بل هي التعبير عن "باراديغم" مثلما استعمل المعهد الهولندي للدراسات حول الحروب والإبادة والهولوكوست، لأنهم أدوا باعتبارهم سليلي حضارة أريد لها أن تُطمس بل أن تباد، من خلال حرق المخطوطات، وتحويل المعالم الإسلامية إلى كنائس أو هدمها.
يحيل باراديغم الموريسكيين إلى مأساة سوف تتكرر في مواضع مختلفة لشعوب مسلمة تعرضت لمحولات الإبادة والتطهير العرقي، مثلما يحيل إلى سوء فهم تاريخي وحضاري بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. إنه تعبير عن سلسلة إجراءات عدائية ضد الآخر، منها ما يسميه الإسبان بحروب الاستعادة (Reconquista) وما رافقها من فظائع، وما تناسل عن تلك الفترة من استعمار، وقد أخذ أشكالا عدة، منها شعوب تعرضت للإبادة، باسم هيمنة حضارة وغطرستها، كما حصل مع الجزائريين وما تعرضوا له من أعمال إبادة عقب احتلال الجزائر، مثلما دعا لذلك المفكر الليبرالي أليكسيس دوتوكفيل، في كتاب له عن الجزائر في زيارة لها سنة1841، بالنداء صراحة للقضاء على العنصر العربي، أو ما تعرض له الفلسطينيون من تطهير عرقي يُقر به من يسمون بإسرائيل بالمؤرخين الجدد، أو مسلمو البوسنة، أو ما يتعرض له الروهنغيا، أو ما تتعرض له الجاليات المسلمة في بلدان الغرب من تحقير وتوجس وتمييز.
كل ذلك يذكر بذلك البراديغم الذي انتسج مع مأساة الموريسكيين وما تعرضوا له من تحقير، وما أجبروا عليه من تغيير أسمائهم وعقيدتهم وعوائدهم، ولم يمنعهم ذلك من التنكيل والتقتيل فالطرد من ديارهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم، والأدهى، الإجهاز على ذاكرتهم.
ماذا يفيد أن نعرض لأعراض الداء عوض أصل الداء؟ إن المسؤولية مشتركة بين "نحن" و"الآخر" لتجاوز حالة الاحتقان؛ على "الآخر" النأي عن عدالة انتقائية، لأن العدالة الانتقائية ليست عدالة، وعلى المسلمين، ومن يتحدث باسم الشعوب المقهورة منها، العملَ السلمي، والمعرفة الموضوعية، والمجادلة بالتي هي أحسن، عوض الغضب وما قد يتناسل عنه من تصرفات رعناء لا تفيد، وقد تنطوي على نتائج غير مُجدية تكون عاقبتها وخيمة.