بقلم: سيد قاسم المصري
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
أثارت جامبيا ــ وهي من أصغر الدول الإفريقية مساحة وسكانا وأقلها مواردا ــ دهشة الكثيرين بتقدمها بطلب للمحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق في المذابح والفظائع التي ارتكبتها ميانمار ضد الأقلية المسلمة هناك والتي تعرف باسم الروهنغيا، استنادا إلى ما ارتكبته ميانمار والذي يعد جريمة من جرائم إبادة الجنس التي تختص بها المحكمة.
هذه الخطوة التي تمت هذا الأسبوع ستعيد القضية إلى الأضواء ولسنوات قادمة بعد أن اطمأنت ميانمار إلى أن القضية قد دخلت في ثنايا النسيان وأن العالم قد انشغل بقضايا أخرى..
وقد أعربت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية ذائعة الصيت ــ وهي التي أوردت الخبر ــ عن دهشتها لتصدي أصغر الدول الإسلامية والإفريقية حجما ومواردَا لهذه القضية التي تتعلق بأحداث وقعت في منطقة تبعد عنها سبعة آلاف ميل ولا توجد أي صلات من أي نوع بين الدولتين، وكان المنطق ــ في رأي الواشنطن بوست ــ يقضي بأن تقوم بهذه المبادرة إحدى الدول الإسلامية الكبرى التي تملك الموارد المادية والإمكانات والتي لها احتكاك مباشر بالمنطقة لأن مثل هذه القضايا تتطلب أموالا كثيرة تصل إلى ملايين الدولارات كما تتطلب الاستعانة بمكاتب قانونية دولية ومثابرة طويلة..
وقد قامت الصحيفة بطرح هذه التساؤلات على النائب العام في جامبيا وهو وزير العدل في نفس الوقت ويدعى أبو بكر تامبادو فقال إنه قرأ تقرير الأمم المتحدة الذي وصف المجازر بأنها تطهير عرقي يرقى إلى كونه جريمة إبادة جنس والتي نتج عنها قتل عشرات الآلاف بعضهم أحرق حيا داخل منازلهم وإجبار 700 ألف على الفرار إلى بنغلادش، وأضاف أن ذلك أعاد إلى الأذهان المجازر التي حدثت في رواندا حيث كان ــ أي السيد تامبادو ــ أحد المحامين في محكمة رواندا الدولية وشاهد كيف فشل العالم وتأخر في المساعدة عام 1994 وها هو يفشل الآن في حماية شعب مهدد بالإبادة..
أبو بكر تامبادو أخذ المبادرة وقرر الذهاب بمفرده لزيارة معسكرات اللاجئين الفارين واستمع إلى قصص القتل والاغتصاب والتعذيب وحرق المزارع وحرق الأسر أحياء داخل البيوت وهدم القرى وإزالتها من الوجود، ثم عاد إلى بلاده وأقنع حكومته برفع دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية التي تختص بثلاثة أنواع من الجرائم فقط هي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بالإضافة إلى جريمة إبادة الجنس.
***
أنا أتفهم الدهشة التي أبدتها جريدة واشنطن بوست؛ فقد كان من المنطقي أن تتصدى لهذه المهمة إما منظمة التعاون الإسلامي أو إحدى الدول الكبيرة الأعضاء بالمنظمة، وأتفهم دهشة الجريدة من أن الذي انبرى للقضية هي أصغر الدول الإسلامية وأكثرها فقرا وأبعدها مكانا عن المنطقة..
ولكنى لا أشارك الجريدة في دهشتها حيث أرى أن القرب المكاني أي الانتماء إلى المنطقة وتشابك الروابط والعلاقات الاقتصادية والسياسية والمالية والاستثمارات هي التي حالت دون إقدام الدول الفاعلة بالمنظمة على اتخاذ هذه الخطوة..
فالدول القريبة من ميانمار جغرافيا مثل أندونيسيا وماليزيا وبروناي تربطها علاقات جمة بميانمار تكبلها وتحد من حركتها حتى بنغلادش تتحسب في اتخاذ مثل هذه الخطوة خشية آثارها على أبعاد كثيرة من العلاقات المتشابكة..
وقد شاهدت بنفسي عندما كنت أباشر شؤون الأقليات الإسلامية كمستشار لمنظمة التعاون الإسلامي ولاحظت كيف يلعب المال والأعمال والاستثمارات الدور الأكبر في تشكيل مواقف الدول..
أخلص من هذا.. أن عدم وجود علاقات لغامبيا مع ميانمار يخلصها من كل هذه القيود.. ولكن يبقى السؤال ما الذي يجعل جامبيا تقدم على هذه الخطوة التي ستكلفها الملايين وهى الدولة التي لا يزيد حجم الناتج المحلى الإجمالي لديها عن مليار دولار واحد والتي يبلغ متوسط دخل الفرد فيها 400 دولار في السنة.. أتمنى أن تكون منظمة التعاون الإسلامي وراء هذا التحرك.. لأن ما قامت به غامبيا يستحق الإشادة والدعم حيث سيعيد تسليط الضوء على معاناة الروهنغيا التي وصفها أحد تقارير الأمم المتحدة بأنها «أبشع ما تعرض له بشر فى العصور الحديثة، وإن لم تكن المنظمة وراء هذا التحرك فإنني أطالبها والدول القادرة ماليا بدعم هذا التحرك وعدم ترك غامبيا لتحمل هذا العبء وحدها.
***
هناك عائق إجرائي يتمثل في أن ميانمار لم تنضم إلى المحكمة الدولية ولم تكن طرفا في مؤتمر روما الذي أنشأ المحكمة، ولكنى قرأت أن هناك مخرجا قانونيا يتمثل في كون ميانمار منضمة إلى الاتفاقية الخاصة بتجريم إبادة الجنس.
تحية لجامبيا ونائبها العام.