تحرّجت أن أعيش !
يتابع الأخبار أولاً بأول .. يركز على أخبار بلد معين .. ينصرف قبل انتهاء النشرة .. يفتح دفتر المذكرات .. يسجل يوميات قصيرة .. يوماً بعد يوم .. يراجع أحياناً ما كتب من أول يوم :
– إن ارتويت من الماء البارد وقد يكون زمزم أحياناً تحرجت أنهم لا يجدون ماء عكراً يقتلون به ظمأهم ، أو يضطرون إلى الشرب من آبار مسمومة سممها لهم عدوهم ..
– إن أقبلت آكل بشهية تحرّجت من جوعهم وفقرهم ..
– إن شبعت من طعام تحرّجت من وفاة المئات جوعاً ومسغبة لديهم ..
– إن رأيتني بين أهلي مجتمعين تحرجت من تفرقهم في أقاصي البلدان وتشتتهم ..
– إن صليت في المسجد مزوداً بالتكييف البارد تحرجت من هدم مساجدهم وأدائهم في الأرض الفضاء صلاتهم ..
– إن تناولت كتاباً أو مجلة تحرجت من قراءتي في غير شأنهم وما يتصل بهم ..
– إن غدوت لعملي آمناً مطمئناً تحرجت من خوفهم وقلقهم واضطرابهم ..
– إن تحركت لعمل أو مهمة تحرجت أن ينصرف جهدي لغيرهم ..
– إن أقمت في مكاني ساكناً تحرجت من تنقلهم باستمرار بين قراهم ومهاجرهم ..
– إن جلست أفكر في شيء تحرجت أن يكون تفكيري في غير همهم ومصابهم ..
– إن لا عبت طفلاً أو داعبته تحرجت من بصمة البؤس على وجوه أطفالهم ..
– إن قلبت ألبوم الصور الشخصية تحرجت من عجزي عن التمعن في صور أشلائهم ملطّخة بدمائهم ..
– إن سمعت من أحدهم شكراً على خطبة خطبتها أو قصة كتبتها تحرجت من عجزي عن الجهاد بغير القلم ، ونصرتهم بغير الكلِم ..
– أولئك هم أهلي في أراكان المنكوبة منذ ما يقرب من شهر عجل الله بنصرهم ..
– إن تألمت اليوم لما ينزل بأهلي في أراكان على أيدي البوذيين "الموغ" تحرجت أني لم أتألم بنفس الدرجة أو أكثر لما حدث بالأمس ولازال لإخوتي في الشام على أيدي الشبيحة العلويين ..
– إن لم أعش متحرجاً هكذا في يومي وليلتي وفي غدوتي وروحتي خشيت أن لا أجد معنى للعيش دونهم ، ولا معنى لحركة الضمير في داخلي بعدهم ..
يأنس في نفسه شيئاً من الرضا عما كتب .. يدع الدفتر جانباً .. يفكر قليلاً .. يصعّد زفرة قوية .. يتناول الدفتر من جديد .. يسجل يوميته الأخيرة .. قبل أن يقرر التوقف عن الكتابة :
– إن رأيتم اليوم إنساناً مظلوماً هادئاً ساكناً بارداً فقد ينبغي أن لا نغتر بمظهره ، فربما كان في الأعماق قدر يغلي ، وربما كان تحت السطح بحر يموج ، ولعله الهدوء الذي يسبق العاصفة ، لا تبقي ولا تذر ، تفرق كل ما أمامها شذر مذر ..
ا/ إبراهيم حافظ
المصدر/ لجينيات