• الحمد لله على سلامتك يا إمامنا.
جزاك الله عني خيرًا يا جاري عبدالشكور.
• بل جزى الله عنك ابني بشيرًا، هو الذي أنقذ روحك وأنت في الرمق الأخير، لو رأيته كيف اقتحم المسجد وسط النيران المشتعلة، وطار بك إلى بيتنا!
• بطل وأي بطل؟ أسأل الله أن يدَّخره لجهاد البوذيين وإخراجهم من "أراكان".
ولكن متى يَحِين هذا الجهاد؟ يا ألله، لشد ما أحترق غيظًا من الداخل ترقبًا لهذا الوعد المنتظر، ولكَم دعوتُ الله بالهداية لهذا الشاب، كنت أفتقده في المسجد وأرى تقصيره في الصلاة؛ ولكنَّ الله أنقذني به وأمدَّ في حياتي.
• لا أعرف كيف أشكركم يا جاري وأرد جميلكم؛ ولكن لم تخبرني: كم كان عدد المصلين في المسجد؟
• كانوا أربعة وعشرين، ماتوا كلهم، وبقيتَ وحدك حيًّا بعدهم!
• بل هم أحياء عند ربهم يرزقون!
كُلْ جيدًا، ثم نَم يا إمامنا، سأتركك الآن، وأعود إليك أوقظك لصلاة العصر.
لا أصدِّق أني نجوت، ولا أظن أني أستحق هذه الكرامة الإلهية؛ ولكنَّ الله رؤوف بالعباد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، كأن الله أحياني من بينهم؛ لأكون الشاهد الوحيد على الجريمة الآثمة، ليتني استشهدت معهم في بيت من بيوت الله، يؤدُّون فيه فريضة الله قبل أن يُحرِقه البوذيون!
ما لهم والمساجد؟
يصبُّون جامَ غضبِهم عليها دائمًا، يشعلون فيها نيران حقدهم كل مرة، الله وحده يعلم كم كان عددهم حين اقتحموا علينا المسجد، ونحن سجود سمعت هديرًا اهتزَّت له أركان المسجد، وأنا مستغرق في سجودي، ظننته السيل وليته كان؛ بل كان، ولكن ليس سيل الماء، وإنما سيل الحقد البوذي، الذي يغلي في صدور الرهبان.
من أين امتلكوا هذه الجرأة؟
أي دين هذا الذي يأمر أتباعه بقتل أتباع الديانات الأخرى دونما ذنب أو جريرة؟
لعل كبيرهم قصدني أنا من بين المصلين، عَرَف أني إمامهم، كان في يده عصا غليظة من خشب الساج، أقوى أنواع الأخشاب في العالم، أقامني الراهب من سجودي، وانهال عليَّ ضربًا متتابعًا قبل أن أدرك ما يحصل، ما كان أقسى ضرباته على أم رأسي! لو لم يُدرِكني المؤذِّن لكنت ربما انتهيت، تركني وانهال عليه هو الآخر ضربًا، لو قدرت لقمت أُنقِذه كما أنقذني، ولكن كيف؟
أصدر أمره للبقية من رجال عصابته، أن يبدؤوا في ضرب المصلِّين الذين لم يُفِيقوا بعد من صدمتهم وذهولهم.
كانوا عُزَّلاً تمامًا إلا من إيمانهم وصمودهم، لم يكن ممكنًا لهم أن يَهرُبوا، كيف وهذان راهبان منهم واقفَان على باب المسجد بعد إغلاقه بإحكام يردُّون عنه بضرباتهما الموجعة كل من يحاول الاقتراب منه.
توالت الضربات القوية على أجساد المصلين كيفما اتفقت: ظهورهم، بطونهم، جنوبهم، رؤوسهم، وجوههم، أماكن حساسة من أجسادهم، يحاولون الفرار ولا مفر، يتلقَّون الضربات القاضية مطارَدين وقاعدين وراقدين.
توالى سقوطهم واحدًا بعد آخر، تلطخ فراش المسجد بدمائهم، تنزف بغزارة هنا وهناك، تكونت بقع حمراء زاهية تشع، شاهدة على حجم الجريمة النكراء، ليتهم أطلقوا علينا الرصاص وأنهونا في لحظات، بدلاً من هذا العذاب الوحشي، والمسلسل الدموي الذي كنت أظنه لن ينتهي.
تركوني مضرَّجًا بدمائي في محراب المسجد، ينزف رأسي بغزارة، ليتهم تركوا المسجد ومضوا بعد جريمتهم الآثمة، ما كان أشد عليَّ تعرضهم لقداسة المسجد الشريف، يأبى الحقد البوذي الأسود إلا أن يكمل فصول جريمته إلى نهايتها.
خرجوا سراعًا يُضرِمون النار في كل أنحاء المسجد من الخارج تطاولت ألسنة اللهب، وامتدت إلى الداخل عبر الباب وعبر فتحات التهوية بأعلى الجدران، أحسست بلسعتها من بعيد، ما أشد حرارتَها!
حاولت أن أقوم لم أستطع، حاولت أن أقعد لم أقدر، حاولت أن أزحف لم أقوَ، صرخت بأعلى صوتي مستنجدًا توالت الصرخات، لم أفقد الأمل كلما ازدادت لسعات الحرارة على جلدي ازددت تشبثًا بالحياة.
أخيرًا رأيت ابن جاري يقتحم المسجد عبر الباب المشتعل، أجال ناظريْه في أنحاء المسجد بذهول، لا يصدق ما يرى، لن أنسى ما حييت تعبيرات وجهه في تلك اللحظات.
أطلقت صرختي الأخيرة، ورفعت له يدي بصعوبة قفز إليَّ مسرعًا ولم أدرِ ما كان بعدها.
إلامَ نتعرض لاعتداءات البوذيين، ونحن موادعون مسالمون لهم، لا ندافع عن أنفسنا، وعن بلادنا "أراكان"؟
ا/ إبراهيم حافظ
المصدر/ الألوكة