بقلم: عبد العزيز بن مرضاح
وكالة أنباء أراكان ANA | خاص
قيل سابقاً : “لولا البلاء في الدنيا .. لما اشتهينا الذهاب إلى الجنة”!
ففي كثير من الأحيان ..
يـرى الناس الجرح الـذي في رأسـك ولكـنهم لايشعـرون بالألـم الـذي تعانـيه…
وحينما أكتب لكم هذه عن المرحلة من حياتي فليست لتخليد ذكرى لا تهم أحداثها إلا من عاشها؛ بل لأنقل ما تعلمته منها ..
وسأسردها لكم في طياتها .. وأتحدث بما أنعمه الله علينا .. “وأما بنعمة ربك فحدث “
فقط ضع يدك على قلبك وتخيل معي أن يعيش أبناؤك بعض ما يعيشه أطفال بورما أو سوريا أو فلسطين من حرب وحصار وقصف ودمار وجوع وخوف وتشرد ولجوء.. ونوم بالعراء وانقطاع لأشهر بلا تواصل أو اتصال وأنت لا تملك لهم إلا الدعاء.. وتردد مراراً وتكراراً:
– ودعتكم ربي الذي لا تضيع ودائعه..
تسعة أشهر أو تزيد منذ اندلاع الحرب وبدء الحصار لمدينة (تعز) وأبنائي داخلها .. تسابقت الأحداث وكنت حينها بعيد جدا عنهم في رحلة إغاثية لمخيمات لاجئي أراكان .. ولسان الحال : ” باب النجار مخلوع ” ..
وحسبي أني كنت في ميادين الخير .. أصبر نفسي بقول الحبيب عليه الصلاة والسلام: ” والله وفي عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”..
ومردداً :
“ومن جعل الدين همه كفاه الله ما أهمه”..
نبذل ونقدم حينها للاجئي المسلمين مالم أستطع أن أقدمه لأبنائي … وقد حالت بيني وبينهم الأسباب.. لأصبح كل يوم… أفتح جهاز الهاتف ثم أحمد الله أنه لم تصلني رسالة بفقدانهم أو حصول مكروه لهم .. متأملا أنهم مازالوا على قيد الحياة..
بينما تتخطف يد المنون من هم حولهم من أقارب وجيران …
فسبحانه عجيب لطفه ومعيته.. وكيف تتجلى عطيته في أحضان بليته… بل تتيقن أن يد الله تعمل في الخفاء .. فكم من سوء دفعته عنك وأنت لا تعلم …
الأهم .. أن تحرك أنت يدك في صنائع المعروف موقناً ب ” هل جزاء الإحسان إلا الإحسان “؟
وأن ” صنائع المعروف تقي من مصارع السوء ” .
وكما قال بن القيم: ربما تنام وعشرات الدعوات تُرفع لك عند الله من فقير أعَنْتَهُ..! أو جائع أطعمته..! أو حزين أسعدته..! أومكروب نفست عنه..! فلا تستهن بفعل الخير أبداً..!
أعود بكم إلى وسط الحصار..
فبعد مشقة وعناء وجهد وبلاء وشق الأنفس يكتب الله لهم النجاة بالخروج من رحم الموت.. وليس هناك ولادة بلا آلام .. فقد قطعوا ما يقارب 20 كيلو مشيا على الأقدام في خط اشتباك بين الخصوم وتحت ازيز الرصاص.. وعند الوصول للمعبر وهو المتنفس الوحيد للمدينة البائسة.. بدأت مرحلة أخرى من الصدمة والفاجعة التي رسخت في ذاكرة الأطفال وظلت الكوابيس تلاحقهم منها.. فلا يهنئون بمنام، فقد كان جنود الحوثي في تلك النقطة.
لا يفرقون بين شيخ كبير أو طفل صغير .. وبين رجل جريح أو امرأة تجر أطفالها من خلفها .. فقد تألفت أرواحهم بأرواح الشياطين.. وفقدوا إنسانيتهم وعميت أبصارهم ..
أهانوهم بالشتم وأطلقوا الذخيرة حول أرجلهم ليرعبوهم .. ثم صرخ كبيرهم: ” عودوا من حيث جئتم.. وليأت التحالف ليخرجكم ” …
اقتربت مجموعة من الأمهات بأطفالهن الرضع .. من كبيرهم .. وتوسلن إليه أن يخلوا لهن السبيل.. وبعد تقبيل الركب وبكاء وصراخ وعويل الأطفال قد هز الأرجاء من هول ما رأوا .. صرخ قائد المعبر “أبوعبدالله الحوثي ” بجنوده وأمر بفتح الطريق لهم.. فاخذ الناس يركضون نحو الحياة من جديد قبل أن يتراجع في قراره…
وحمدا لله كانوا أبنائي من بينهم..
ثم بدأت صفحة أخرى من صفحات الشتات..
تعلمون أن “السفر قطعة من العذاب” فكيف بالتشرد واللجوء؟
وصلوا إلى الحدود حيث كنت بانتظارهم، لم استوعب تلك اللحظات حينما التقيت بهم..
إلا بعد رؤيتهم نياما من حولي.. أأفرح لنجاتهم أم أخنق العبرة بما ذاقوه؟
ومما زاد الوضع سوءا أننا وجدنا أنفسنا عالقين على الحدود السعودية اليمنية لتبدأ معاناة أخرى … كان جُل همي إخراجهم أحياء من بين الحصار .. ولم أفكر ماذا بعدها؟!
والخيرة فيما اختاره الله لنا ..
اذكر أنها مرت علينا ليال نفترش فيها أحيانا الصحراء ونتلحف بالسماء …. بين لهيب شمسها وريحها نهارا.. وبرودة جوها ليلاً … لا نعلم أين نتجه ومتى وكيف..
منتظرين الفرج من عند الله .. حتى اختار الله لنا المسير إلى أرض الأجداد (حضرموت) .
ومن أعظم ما تعلمته حينها أن عظمتك هي إحساسك بآلام الآخرين.
عاش النبي ﷺ يتيما إلا أنه مات عظيما..
” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ”
فقد تبتلى وتمتحن لتستشعر ما تدعوا إليه وتسعى من أجله.. فليست النائحة الثكلى كالمستأجرة..
ولتهون مصائبك وتحتقرها أمام مصائب من تلاقيهم في تلك الملاجئ والمخيمات ممن قتل آباؤهم أمام أعينهم أو فقدوا أطفالهم أثناء نزوحهم ولا يعلمون أين هم …
ولاتسألني هل تطيب الحياة لأم بعد ذلك.. وغيرها الكثير من صور الأسى التي وقفت عليها في عالم البلاء …
فالحمدلله ، ثم الحمدلله ، ثم الحمدلله حتى يبلغ الحمد منتهاه .
نحنُ بخير :
مَا دُمنا نستطيع النوم –
بدُون أرق و مُسكّنات.
ولا نَستيقظ عَلى صَوت –
القذائف والمتفجرات .
(من بات آمناً في سربه، معافاً في بدنه، يملك قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها)
يقال: كل دمعة لها نهاية .. ولكل بسمة نهاية .. !
و سيناريوا الحياة .. بداية ونهاية ،، بين بسمة ودمعة ،، فلا تفرح كثيرا ،، ولا تحزن كثيرا ،، فإذا أصابك أحدهما فنصيبك من الآخر آت مع صفحات القدر لا محالة …..
” الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ”
دمتم في رعاية الله …