وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
هي أزمة لا نظير لها فأقلية الروهنغيا المسلمة في ميانمار لا تتعرض فقط للاضطهاد والقتل والتشريد، لأسباب بعضها سياسي، وبعضها الآخر عرقي، وأكثرها ديني، وإنما «غير معترف بهم» من الأساس ضمن سكان ميانمار، ويتم قهرهم وتطهيرهم عرقيا لإخراجهم نهائيا عن أراضي ميانمار واللجوء إلى بنغلاديش المجاورة، مما ينذر بحرب طائفية إقليمية واسعة النطاق قد تمتد لدول آسيوية أخرى مجاورة.
ميانمار نفسها لا ترى أن ما ترتكبه في حق الروهنغيا خطأ أو جريمة، بل حق مشروع، وترى أنه شأن داخلي، والأدهى من ذلك أنها تصف الروهنغيا الآن بـ«الإرهابيين»، وتقول إن وراءهم دولا وميليشيات وأغراضا أخرى، و«صور مفبركة».
دولة صغيرة جدا في جنوب شرق آسيا سكانها حوالى 50 مليون نسمة، تعانى التعدد العرقي والطائفي والديني، شأنها شأن باقي دول القارة الصفراء، وضعت قدميها على أولى خطوات الحياة الديمقراطية بعد سنوات طويلة من الكفاح قادتها زعيمة المعارضة سابقا ومستشارة الدولة حاليا أونغ سان سوتشي، قبل أن تصبح في نظر العالم الآن غير جديرة بجائزة نوبل للسلام التي نالتها عام 1991، نظرا لموقفها المخجل والمتخاذل تجاه ما يجرى في بلادها من مذابح وتطهير عرقي لمسلمي الروهنغيا.
في هذا الملف، نحاول التعرف على ميانمار عن قرب، وحقيقة ما يجرى للمسلمين الروهنغيا فيها، وأسبابه، وخلفياته التاريخية، والحلول الدولية والإقليمية المقترحة لإنهاء الأزمة، وكيفية تعامل الدول الإسلامية مع ما يجرى هناك، وموقف المنظمات الدولية، ولماذا تتضاءل الاهتمامات العالمية بمقتل وتشريد الآلاف لحساب أخبار «صراعات الديكة» بين القوى العظمى التي تحكم العالم حاليا؟
أين أمريكا راعية الديمقراطية والحريات في العالم؟ وأين أوروبا حامية حمى حقوق الإنسان؟ وأين منظمات «العفو الدولية» و«هيومان رايتس ووتش» وغيرهما مما يحدث هناك من جرائم ضد الإنسانية، في وقت تنتفض فيه هذه المنظمات لمجرد احتجاز ناشط أو محاكمة إرهابي؟!.. من ينقذ مسلمي ميانمار؟!
«الأقلية الأكثر اضطهادا في العالم» و«أتعس أهل الأرض جميعا»، تلك أبسط الأوصاف التي نعتت بها الأمم المتحدة مسلمي «الروهنغيا» الذين عانوا ومازالوا يعانون في ولاية «أراكان» غرب ميانمار من عمليات اعتقال وقتل وتشريد على أيدى الحكومة وبالتنسيق مع الرهبان البوذيين بزعم أنها تقاتل جماعات مسلحة من أجل الحفاظ على أمنها.
ويرى بعض المؤرخين أن مسلمي «الروهنغيا» البالغ تعدادهم مليونا و٣٣٠ ألفا من إجمالي سكان ميانمار المقدر عددهم بنحو ٥٥ مليون نسمة، هم أحفاد التجار العرب الذين عاشوا في جنوب شرق آسيا منذ القرن الـ٨ الميلادي عقب تحطم سفنهم التجارية نتيجة لاصطدامها بصخور سواحل البحر الواقعة على الساحل الغربي لإقليم أركان الاسم القديم لولاية أراكان الواقعة على الحدود الغربية مع بنغلاديش، كما يرون أن مصطلح «الروهنغيا» مشتق من الكلمة العربية «الرحمة»، التي رددها هؤلاء التجار العرب ممن كانوا على وشك الغرق في تلك الرحلة وهم يصيحون «الرحمة الرحمة» لإنقاذهم، وهى رواية تنفيها سلطات ميانمار الحالية، وتعتبر أن الروهنغيا مهاجرون وفدوا من بنغلاديش المجاورة خلال سبعينيات القرن الماضي، ولذلك دأبت على وضع قوانين قمعية ضدهم منذ عام ٢٠١٥ استهدفت حرمانهم من الجنسية والملكية الفردية أو الجماعية للأراضي والمنازل والتصويت في العمليات الانتخابية والسفر للخارج، فضلا عن إذلالهم.
ونتيجة لتلك السياسيات، هرب مئات الآلاف من الروهنغيا لتايلاند وبنغلاديش التي أجبرت الناجين منهم على العودة لأراكان التي تقوم سلطاتها ليس فقط بمطاردتهم والتنكيل بهم مجددا بل بقتلهم.
ولكن ما هب حقيقة هذا الصراع، هل الأسباب عرقية أم دينية أم سياسية، أم الأسباب الثلاثة معا؟
ذهب بعض المحللين الغربيين إلى أن الأزمة عرقية وليست دينية، وأن البترول الذى تم اكتشافه عام ٢٠٠٤ في هذه الولاية هو «كلمة السر» التي تدفع دول جوار بعينها لإشعال نيران العنف العرقي، ولحمل ميانمار على التخلص منهم والاستفادة من ثروات المنطقة.
ويعضد هؤلاء المحللون وجهة نظرهم هذه بقولهم إن «كل من هربوا من أراكان إلى بنغلاديش ليسوا مسلمين، بل بعضهم بوذي ومسيحي أجبرتهم جميعا الحرب الأهلية من أجل الغاز والمواد الغنية الأخرى كالتيتانيوم على الفرار، ويؤكد هذا أن الصراع لو كان دينيا لاقتصر على المسلمين دون غيرهم.
وفي المقابل، يرى محللون آخرون أن الصراع كان سياسيا عرقيا وبامتياز في بادئ الأمر ثم تحول لاحقا لصراع ديني لم ينته بعد، وعضدوا طرحهم هذا بالقول إن نسبة من سكان أراكان كانوا بوذيين وكانوا يعيشون سابقا في سلام مع المسلمين الذين كانوا يمثلون الأغلبية في هذا الإقليم، ولكن الروهنغيا- وبأوامر وإغراءات بريطانية عقب منحها ميانمار الاستقلال عام ١٩٤٨ من الاستعمار البريطاني – حولت الأمر إلى صراع ديني وباتت تطالب باستقلال ولايتها الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة عن ميانمار ذات الأغلبية البوذية.
وهناك رأى ثالث يرى أن الصراع بدأ دينيا وما زال كذلك، وأن أول اضطهاد للمسلمين وقع في عهد الملك البوذي باينتوانج عندما استولى على باجو في ١٥٥٩ وحظر ممارسة الذبح الحلال للدجاج والمواشي بسبب التعصب الديني، وأجبر بعض المسلمين على الاستماع للخطب والمواعظ البوذية بهدف تغيير دينهم بالقوة، وتطور الصراع على مر السنين، ووصل إلى ذروته عام ١٩٨٢ مع إصدار يانغون قانونا يجرد مليونا من مسلمي هذه الأقلية من جنسيتهم التي لم يتمكنوا من استعادتها حتى الآن، وعلى الرغم مع وصول أونغ سان سوتشي صاحبة نوبل للسلام إلى السلطة التي تفاءل الجميع بديمقراطيتها، فإن الصراع تفاقم ووصل لمرحلة مميتة.
ودعمت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية فرضية أن الصراع ديني وأن الاضطهاد المنهجي للأقلية المسلمة يتزايد ولا يقتصر على ولاية أراكان الشمالية الغربية.
وذهب رأي رابع إلى أن الصراع صراع استحواذ على الثروات، وتبنت هذا التوجه صحيفة «ديلي صن» الهندية التي كشفت في تقرير لها عن الدافع وراء زعزعة الاستقرار في ولاية أراكان يتمثل في اكتشاف جديد لبعض العناصر الكيميائية في ساحل منغدو الذى جعل عشرات الآلاف من الروهنغيا يعيشون هذه «المذابح».
مصر .. الدور الأقوى ..وبلا مزايدات
تفاوتت ردود أفعال الدول العربية والإسلامية على ما يجرى في ميانمار من انتهاكات بحق مسلمي الروهنغيا، من ماليزيا التي استدعت سفير ميانمار لديها للاحتجاج، إلى بنغلاديش التي احتجت رسميا لدى ميانمار على «تلغيم» حدودها، وتركيا التي اتصل رئيسها رجب طيب أردوغان بقادة ميانمار للإعراب عن قلقه مما يجرى للروهنغيا، ونهاية بدول أخرى مثل باكستان وإندونيسيا شهدت مظاهرات احتجاجية للتضامن مع مسلمي ميانمار.
غير أن رد الفعل الرسمي والشعبي في مصر كان – بلا مبالغة – الأسرع والأقوى والأكثر فاعلية وتأثيرا، وجاء على مختلف المستويات، ومن مختلف الاتجاهات، وبعيدا عن أي مزايدات أو شعارات، أو ادعاء زعامة، أو بحث عن أدوار وهمية، والأهم من ذلك، أنه كان في حدود القانون الدولي ومبادئ العلاقات بين الدول.
فخلال زيارته الآسيوية، التي تزامنت مع تصاعد أعمال العنف في ميانمار، أدان الرئيس عبد الفتاح السيسي ما يشهده هذا البلد الآسيوي من انتهاكات، مشيرا خلال محادثاته مع نظيره الفتينامي تران داي كوانغ في هانوي إلى أن استمرار مثل هذه الأحداث يساعد على تغذية الإرهاب والفكر المتطرف، ومشددًا على ضرورة قيام الحكومات بالاضطلاع بمسئولياتها في حماية حقوق الأقليات وتوفير الأمن لهم بما يسهم في ترسيخ مبدأ المواطنة.
من جانبها، أدانت وزارة الخارجية في بيان لها أعمال العنف التي يتعرض لها مسلمو الروهنغيا، وطالبت السلطات في ميانمار باتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لوقف هذا العنف وتوفير الحماية اللازمة لمسلمي الروهنغيا، والحيلولة دون المزيد من تدهور الوضع الإنساني في البلاد، كما أكدت دعم مصر لجميع الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى معالجة الوضع الإنساني المتفاقم نتيجة هذه الأزمة.
أما الأزهر الشريف، المؤسسة الدينية الأكثر ثقلا في العالم الإسلامي، فقد دعا الدول والحكومات الإسلامية ومنظمة التعاون الإسلامي إلى التحرك السريع لتوفير كل أشكال الدعم لمسلمي الروهنغيا، وحذر في بيان من أن استمرار تقاعس المجتمع الدولي عن التدخل بحسم لإنهاء معاناة مسلمي الروهنغيا ووقف ما يتعرضون له من قتل وتهجير يشكل تهديدا جديا للأمن والسلم الدوليين، كما يعكس مجددا سياسة الكيل بمكيالين تجاه القضايا والأزمات الدولية، وهو ما يغذى مشاعر الحقد والكراهية والتطرف عبر العالم.
كما طالب الأزهر بضرورة قيام الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية والإنسانية بمسئولياتها تجاه تلك المأساة المستمرة منذ سنوات، نتيجة فشل السلطات هناك في توفير الحماية لمواطنيها.
يذكر أن الأزهر كان قد استبق كل ردود الفعل الإسلامية بشأن ميانمار منذ فترة طويلة، عندما عقد مؤتمره الشهير في القاهرة في شهر يناير الماضي بحضور الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر ومجموعة من الشباب البوذي والمسلم والمسيحي والهندوسي، وعدد من السفراء والوزراء في مصر وميانمار، ودعا الأزهر حينها إلى ضرورة الوقف العاجل لكل مظاهر العنف وإراقة الدماء، حتى يتسنى تحقيق السلام المنشود في البلاد، لكن الذى حدث بعد ذلك أن حكومة ميانمار التي وعدت آنذاك بتحقيق ذلك تجاهلت تلك الوعود تماما.
.. وما زال البحث مستمرا عن حل
ما ان تندلع مجزرة جديدة للروهنغيا حتى تتصارع الوكالات الصحفية والقنوات الاعلامية للحصول على الأخبار والصور الأكثر وحشية وتخرج المنظمات الدولية لتشجب ويسارع رؤساء الدول ليدينون ويعرب الأمين العام عن قلقة وتنتشر المظاهرات الغاضبة أمام سفارات ميانمار في عدة عواصم للمطالبة بوقف المجازر .. ولكن ماذا بعد؟ لا شيء فالكل يذهب إلى حال سبيله وتستمر المذابح وتتكرر، وسواء كان المسمى اضطهادا دينيا أو تطهيرا عرقيا أو إبادة عنصرية، فهي في النهاية عبارة عن انتهاكات أو مجازر ترتكب ضد اقلية ضعيفة لا حيلة لها سوى الاستسلام للواقع المؤلم وانتظار المستقبل المجهول بكل ما يحمله من رعب وقسوة.
وتعليقا على الازمة وبحثا عن إيجاد حلول يقول د. أحمد قنديل خبير الشئون الآسيوية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية إنه «توجد عدة خطوات يجب اتخاذها بشكل سريع، أولها تشكيل لجنة لتقصى الحقائق ورصد ما يحدث من انتهاكات لتلك الأقلية، والمتسبب في تلك المأساة الإنسانية، وقد يتشكل فريق التحقيق من قبل الأمم المتحدة أو منظمة التعاون الإسلامي أو المنظمات الاقليمية، ولابد من إجبار السلطات هناك السماح للجنة بدخول البلاد، والتخلي عن رفضها الدائم استقبال أي لجان أو منظمات دولية حرصا على عدم رصد الانتهاكات التي ستدينهم بالدلائل، خاصة وأنه بالفعل لدى الأمم المتحدة رصيد كبير من التقارير التي تجمع على تعرض تلك الاقلية لاضطهاد وحشي، وتطهير عرقي».
ولابد أيضا من الاتجاه لفرض عقوبات اقتصادية وهو ما يستدعى عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لمناقشة الأزمة وما لها من آثار سلبية على الوضع الأمني والسياسي في المنطقة .. فالجماعات الإرهابية المتطرفة مثل داعش تستغل تلك المأساة لتجنيد أنصار جديدة لها، ومن بين الحلول المقترحة، طرح فكرة استضافة عدة دول لمجموعات من الروهنغيا، خاصة أن الأزمة أصبحت لا تتعلق بميانمار فقط بل امتدت لبنغلاديش التي تعتبر الملاذ الأول للفارين من الجحيم، فقد استقبلت على مدى الشهور الماضية مئات الآلاف من اللاجئين، لذلك يمكن تقديم مساعدات اقتصادية لبنغلاديش لصالح هؤلاء الضحايا, فرفضها استقبالهم وتركهم على الحدود نابع من عدم وجود دعم دولي يساعدها على رعاية هؤلاء، خاصة أن وضعها الاقتصادي ضعيف ومترد ولا يسمح بتحمل أعباء هؤلاء.
وللأزمة بعد سياسي وقانوني، بداية من كونهم أقلية وسط أكثرية بوذية تعمل لمصلحتها فقط متجردة من أي إنسانية، مرورا بالدستور التعسفي الذي لا يمنحهم أي حق من حقوقهم، وقانون الجنسية الذي يشترط منح الجنسية للذين كانوا يقيمون على الأرض قبل عام 1823 أي قبل الاحتلال البريطاني لها حيث إنهم ينظرون لأقلية الروهنغيا بوصفهم مهاجرين غير شرعيين جاؤوا مع الاحتلال، وأنهم دخلاء على الأرض ولا حق لهم في الوجود عليها لأنهم جاؤوا ليستولوا على وظائفهم وأنهم مختلفون عنهم في أصولهم وديانتهم، وبعد رحيل الاحتلال الانغليزي عن ميانمار عام 1948 تم وضع الدستور، الذى جاء معترفا بوجود 135 عرقية في ميانمار إلا أن أقلية الروهنغيا غير معترف بها. فهم عديمو الهوية.
وبعد تجاهل مطالبهم على مدى عقود وتعرضهم لكل أشكال التعذيب فقد بدؤوا في تكوين فصائل مسلحة هدفها الانتقام من المعاملة الوحشية التي يلاقونها والمطالبة باحترام حقوق الروهنغيا، ومن بين تلك الفصائل يأتي «جيش خلاص مسلمي الروهنغيا في أراكان»، الذي شن هجمات ضد مراكز الشرطة والجيش الشهر الماضي وهو ما تسبب في اندلاع موجة العنف الجديدة، وقد استغلت الحكومة الميانمارية تلك الفصائل لتبرر عمليات القتل متهمة اياهم بالإرهابيين، ولكنها صورة مضللة، هدفها خلط الاوراق وتبرير القتل ليس أكثر. وفيما يتعلق بالمطالبات الخاصة بسحب جائزة نوبل من زعيمة ميانمار أونغ سان سوتشي، يقول د. قنديل إنها أقل خطوة يجب اتخاذها نحو تلك السيدة، فسحب الجائزة منها يعد نوعا من التعبير عن الغضب العالمي تجاهها، فتجاهلها للازمة يعنى مشاركتها في تلك المجازر، بل ان سحب الجائزة وحدة ليس كافيا بل يجب تقديمها للمحكمة الجنائية الدولية لكونها المسئول الاول عن أرواح أبناء تلك الأقلية والدفاع عنها إلا انها تشترك معهم في الاضطهاد العرقي ويجب تحميلها المسؤولية.
سان سوتشى … فقاعة كشفها الواقع
سليلة أسرة سياسية عريقة ..قصة كفاح ونضال طويلة ذاقت خلالها ألوانا من الظلم والاضطهاد وحتى الحبس قيد الإقامة الجبرية لمدة 15 عاما.. عبارات بليغة ومؤثرة عن الحرية والديمقراطية والمساواة ..مكونات حولت أونغ سان سوتشي إلى بطلة وأيقونة دفعت العالم إلى تشبيهها بزعماء كبار مثل غاندي ومانديلا ثم منحها جائزة نوبل للسلام في عام 1991. ولكن عندما امتحنت في اختبار الواقع بعد وصولها للسلطة وجاء الوقت لتحقيق «حلم الخلاص» الذى وعدت به مواطني بلدها ميانمار رسبت سان سوتشي رسوبا فاضحا شأنها شأن الكثير من «الفقاعات السياسية» الذين يتوهج حماسهم وتعلو أصواتهم طالما كانوا في صفوف المعارضة وما أن يصلوا إلى السلطة حتى يصابوا بـ «الخرس» و«العمى» تجاه الانتهاكات والقمع والوحشية التي طالما حاربوها.
سان سوتشي التي قالت يوما «أحمي حقوق الإنسان وأتمنى أن أظل دائما نصيرة حقوق الإنسان» لم تكتف بالصمت ازاء المجزرة الوحشية الأخيرة للقوات الحكومية ضد مسلمي الروهنغيا منذ أكثر من شهر وإنما حرصت في أول تعليق لها «7 سبتمبر» أن تتنصل من المسؤولية بوصفها مستشارة الرئيس بالقول إن حكومتها تواجه تحديا كبيرا وأنه من غير المنطقي توقع التوصل لتسوية لوضع موجود منذ فترة الاستعمار!
ثم زادت الطين بلة بقولها «يتوجب على الحكومة رعاية كل شخص في الدولة سواء كانوا مواطنين أم لا» وذلك في تأكيد جديد على أنها، شأنها شأن الغالبية البوذية في البلاد، تعتبر أن مسلمي الروهنغيا دخلاء ومجرد مهاجرين غير شرعيين يجب أن يعودوا إلى بنغلاديش ولذا يطلقون عليهم «البنغاليين» وحرموا من حقوق المواطنة منذ عام 1982 .كما اتهمت صفحة سان سوتشي على الفيس بوك «الإرهابيين «بخلق «جبل جليدي» من المعلومات المغلوطة حول حجم العنف ضد الروهنغيا. وكان مكتبها قد أصدر بيانا في أوائل سبتمبر اتهم فيه موظفي الإغاثة بمساعدة الإرهابيين في ميانمار لتصفه منظمات حقوق الإنسان بأنه بيان غير مسؤول.
وهذه ليست المرة الأولى التي تدير فيها سان سوتشي ظهرها لمعاناة الروهنغيا – الذين وصفته الأمم المتحدة بـ «أكثر أقلية مضطهدة في العالم» بل وللمبادئ والقيم التي حصلت من أجلها على نوبل بل ولصورتها كنصيرة للضعفاء حاملة لواء الأخلاق». ومع ذلك ظل الكثيرون في الداخل والخارج يرفضون تصديق أن سوتشي ليست بالشجاعة والمثالية التي تصوروها، بل وتبرعوا بتقديم التبريرات كلما خذلت توقعاتهم.
ففي عام 2012 بعد عامين من إطلاق سراحها من الإقامة الجبرية بمنزلها وعندما تفجرت أعمال عنف ضد مسلمي الروهنغيا اسفرت عن مقتل المئات ابتلعت سوتشي لسانها ولم تحرك ساكنا فهب المدافعون عنها للتأكيد أن وضعها دقيق للغاية وأنها يجب ألا تستعدي النظام العسكري حينذاك حتى لا يمنعوها وحزبها من خوض الانتخابات، كما أن عليها أيضا استقطاب الناخبين البوذيين للتصويت لهم وبالتالي تحقيق حلم الفوز.
وفي سبيل هذا الاستقطاب أيضا رفض حزبها ضم أي مسلم لقائمته في الانتخابات العامة في عام 2015.
موقفها المخزي الذي حاول البعض تبريره بأنه مجرد «دهاء وحنكة سياسية من أجل تحقيق هدف أكبر» لم يتغير كثيرا بعد تشكيل حزبها للحكومة واستحداث منصب لها «مستشارة الدولة» ما يوازي القائم بأعمال الرئيس حيث انتهجت نفس اسلوب «الصمت ومحاولة التقليل من المأساة وتوزيع الاتهامات عل الآخرين» في المجزرة ضد الروهنغيا في 2016 .
مرة أخرى حاول أنصارها الدفاع عنها بأن صلاحياتها محدودة في ظل استمرار سيطرة الجنرالات على مفاصل الدولة. ولكن حتى وأن كان من المستحيل أن تفرض سوتشي سيطرتها على ممارسات الحكومة أو إصدار أوامر رئاسية بوقف المذابح فما الذى يمنع أيقونة مثل سان سوتشي وبعد أن بلغت «71 عاما» من التعبير عن رفضها لما يجرى ولو بمجرد الكلام الذى كان يوما سلاحها الوحيد في وجه نفس الجنرالات؟ ما الذي منعها من زيارة أراكان ولو لمرة واحدة منذ توليها السلطة في 2015؟
ما الذي دفعها لإنكار قصص الممارسات الوحشية من قتل واغتصاب وتعذيب التي رواها مسلمو الروهنغيا الفارون من الجحيم؟ من دفعها لعرقلة المساعدات الانسانية ورفض اجراء تحقيق أممي فيما يجرى؟
الواقع كشف أن سان سوتشي فضلت النفوذ السياسي على النضال من أجل السلام والديمقراطية واستسلمت لتحيزاتها الشخصية وعنصريتها ضد من لا ينتمى لطائفتها بدلا من تطبيق مبادئ المساواة والانتصار لحقوق الأقليات التي طالما تشدقت بها.
هستيريا الفبركة .. من وراءها .. وما وراءها؟
نعم، في ميانمار يتعرض مسلمو الروهنغيا للقتل والتشريد والاضطهاد والجوع، ولكن لوحظ في الفترة الأخيرة، انتشار كميات هائلة من الصور والفيديوهات «المفبركة» عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن المذابح والفظائع والمآسي التي يواجهها مسلمو ميانمار، الأمر الذي أثار كثيرا من اللغط حول حقيقة ما يتعرض له المسلمون هناك، وأساء إلى القضية كلها، لدرجة أن سلطات ميانمار نفسها تحاول الآن استغلال الترويج لصور مفبركة عما يجري على أراضيها لكي تقلل من أهمية ما يحدث للمسلمين لديها.
وكانت المرة الأولى التي تخرج فيها أونغ سان سوتشي مستشارة الدولة في ميانمار، وصاحبة نوبل للسلام، عن صمتها إزاء هذه القضية، يوم الأربعاء الماضي، عندما تحدثت للصحفيين عما يجرى للمسلمين في ميانمار، فقالت إن معظم الصور والفيديوهات المنتشرة في عدد من دول العالم عما يجري للروهنغيا، مفبركة، أو قديمة، أو تم تصويرها في دول أخرى، وذلك في محاولة منها لاستغلال هذه الفجوة في إظهار أنه يوجد «شيء ما غريب» وراء الاتهامات الموجهة لبلادها!
ولم يكن من الصعب الكشف عن مدى صحة أو كذب الصور والفيديوهات «البشعة» المنتشرة عن اضطهاد مسلمي ميانمار عبر السوشيال ميديا، فهناك أدلة دامغة على عدم صحة معظم هذه المواد، ومن بينها تلك الصورة الشهيرة لمواطن مسلم يجرى بعد أن أشعل فيه الرهبان البوذيون في ميانمار النار حيا، إذ تبين أن هذه الصورة تحديدا هي لمواطن من إقليم التبت الصيني أثناء حرق نفسه احتجاجا على ما يجرى في إقليم التبت، وقد نشرت صحيفة «تليجراف» البريطانية هذه الصورة بالفعل من التبت قبل عدة سنوات!
ومن بين الصور أيضا صورة شهيرة أيضا وشديدة البشاعة لجثث محترقة، وأسفلها تعليقات تدعو لإنقاذ مسلمي ميانمار الذين يتم حرقهم أحياء، في حين أن حقيقة هذه الصورة أنها ليست لمسلمي ميانمار، وإنما لضحايا حادثة انفجار شاحنة وقود في الكونغو قبل سنوات!
وصورة أخرى لموتوسيكل يسير على أيادي أطفال صغار، وتحتها تعليق يقول إنه هكذا يتم تعذيب أطفال المسلمين في ميانمار، بينما يتبين من الفحص والتحري أن الصورة ليست من ميانمار أصلا، وإنما لتدريب يتلقاه الأطفال على قوة التحمل في مهرجان ترفيهي بالهند!
وهناك عشرات الأمثلة على هذه الصور والفيديوهات المفبركة التي تم الترويج لها على أنها من ميانمار، وإن كانت هذه الفبركة لا تنفي أبدا حقيقة تعرض المسلمين للقتل والاضطهاد في ميانمار، بدليل أن هناك روايات أخرى تؤكد ارتكاب فظائع بالفعل ضد المسلمين هناك، وليس هناك أقوى مما قاله أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة في هذا الصدد قبل أيام، إذ أكد أنه توجد جرائم تحدث في ميانمار، ليس هذا فحسب، بل وحذر أيضا من امتداد الأزمة إلى دول مجاورة في المنطقة.
ولكن قضية «فبركة» الصور تفتح نيران الأسئلة اللانهائية، فمن وراء هذه الصور المفبركة، ومن الذي أنتجها، ومن يروج لها؟
هل الهدف هو إضعاف القضية كلها، وإيجاد مبرر لأونغ سان سوتشي للدفاع عن موقف بلادها؟ وحدث بالفعل أن وكالة أسوشييتدبرس ذكرت أن سان سوتشي أبلغت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هاتفيا بأن نائب رئيس وزرائه محمد سيمسك الذي تحدث معها عن هذه الصور اضطر لسحبها من على حسابه على تويتر بعد أن أقنعته بأنها صور «مزيفة» لا علاقة لها بميانمار!
هل الهدف هو جمع حفنة من التبرعات لجماعات ومنظمات انقطع عنها حبل التمويل السرى بعد تحالف دول العالم لقطع شرايين تمويل الإرهاب؟
هل الهدف هو «لملمة» «الجهاديين» من أنحاء شرق آسيا وآسيا الوسطى، وربما بقايا داعش من سوريا والعراق وليبيا ودول عربية وإسلامية أخرى، للبحث عن «سبوبة» وحرب أخرى باسم الإسلام؟ ولكن هذه المرة في ميانمار؟ لتهديد قوى عظمى مثل الصين بداعش؟
أم أن الهدف هو إشعال حرب طائفية واسعة النطاق في آسيا، حيث الطوائف والأعراق والأديان بالملايين في الهند والصين وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وغيرها، لتصبح بذرة لفوضى خلاقة وربيع آسيوي في بقعة من العالم لا تحتمل أي مزاح؟
أما ربما يكون الهدف عودة مسلسل تأليب الشعوب العربية والإسلامية على أنظمتها وحكامها لحساب أطراف إقليمية معينة «مضغوطة»؟
أم أن الفبركة والتصعيد تخدم أغراض أطراف بعينها تبحث عن أدوار لها في العالم الإسلامي، وتتحدث كما لو كانت هي الناطقة باسم دولة الخلافة؟
.. أسئلة كثيرة و»مرعبة» لا توجد لها إجابات حتى يومنا هذا!