تقرير: سها الشرقاوي
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
كنت أعتقد أن ما لمسته ورأيته خلال أول يومين لي على حدود ميانمار في بنغلادش، وداخل مخيمات اللاجئين، التي نشرت تفاصيلها كاملة في الحلقة الأولى من تلك المغامرة، هي أسوأ مشاهد رأيتها في حياتي، لكن اليوم الثالث حمل المشاهد الأسوأ، عندما توجهت إلى أحد المستشفىات الحكومية التي يعالج فيها اللاجئون.
المستشفى يحمل اسم «sadar»، ويقع في مدينة «كوكس بازار»، حيث تستضيف من كتب الله له النجاة من القتل، ومن ابتلاع البحر، وافتراس وحوش الغابات ودهس الأفيال، خلال رحلة الموت والهرب من «ميانمار» إلى «بنغلادش».
بمجرد دخول المستشفى تشم رائحة كريهة جدا تفوق ما شممته في مخيمات اللاجئين، وهو أمر طبيعي إذا ما نظرت إلى غرفه وشاهدت العشرات من اللاجئين المكتظين، ممن يفترش أغلبيتهم الأرض، فالمستشفى ذو إمكانيات بسيطة جدا، وعرفت فيما بعد أنه بالطبع «حكومي».
توجهت بداية إلى المسئول عن ملف «الروهنغيا» في المستشفى، ويدعى الدكتور «شاهين عبدالرحمن»، الذي بدأ حديثه عن أوضاع المرضى قائلًا: «بعد بداية الأزمة الإنسانية الأخيرة في ميانمار جاءت مجموعة كبيرة من المصابين الروهنغيا إلى المستشفى، بأعداد تجاوزت المسموح به، فتم التعامل مع جميع الحالات، ونقل بعضها إلى مستشفى حكومي آخر قريب من هنا».
وشدد على أن الحكومة البنغالية تسعى إلى توفير الرعاية الطبية لكافة المصابين حسب الإمكانيات المتاحة، مضيفًا: «بحسب إحصائية عن عدد المرضى الذين يتلقون العلاج في المستشفى، فإن عددهم يصل إلى ٤٠٠ مريض، ما بين نساء وأطفال وشباب ومسنين، وإن كان أكثر من نصفهم وتحديدًا ٢٥٠ من الأطفال».
وتابع: «إلى جانب المرضى الموجودين في المستشفى لخطورة حالاتهم، يوجد مرضى آخرون يأتون يوميا إلى هنا، ويتراوح عددهم ما بين ١٠٠ و١٥٠ تقريبا، يأخذون العلاج ويذهبون إلى ثكناتهم في المخيمات».
وأشار إلى أنه نظرًا لزيادة الأعداد، قدم طلبًا للحكومة بإنشاء «مخيم طبي» لتغطية جميع احتياجات الحالات من فحوصات وأدوية، لافتًا إلى أنه لا يزال ينتظر الرد من المسؤولين للبدء في إقامة هذا المخيم المجهز، وهو ما يجعل إدارة المستشفى تستقبل الإعانات والإمدادات من الجمعيات والمؤسسات الخيرية في مختلف دول العالم.
ونوه بقدوم العديد من الشباب للتطوع في المستشفى، لكن نظرًا لأنه «حكومي» ومساحته محدودة فإنه لا يتم قبول هؤلاء المتطوعين، مع استقبال الإعانات الفردية فقط.
وعن أبرز الحالات المرضية الموجودة في المستشفى من مسلمي «الروهنغيا»، قال: «يوجد مصابون بطلق ناري وطعن بسكين وحروق وغرق»، مشيرًا إلى أن بعض الفتيات اللاتي تعرضن للاغتصاب يأتين المستشفى لتلقى العلاج، ويرفضن الإقامة في المستشفى بسبب حرجهن البالغ»، مضيفًا: «نرسل الحالات التي تحتاج إلى جراحة دقيقة إلى مدينة (شيتاغونغ) التي تتوافر فيها إمكانيات أكبر».
وناشد الطبيب المسؤول عن ملف مصابي «الروهنغيا»، عبر «الدستور»، جميع فاعلي الخير، بالتبرع بالأدوية والأجهزة لصالح المستشفى في منطقة «كوكس بازار»، لخدمة اللاجئين، وذلك على الحساب البنكي رقم «٠٠٦٤٣٣٠١٦٠٠٨- Nqhonal bank- Cox›s Bazar».
بطل سار على قدميه 10 أيام حاملًا أمه وسيدة: فيل دهس عائلتي أثناء الهرب
سمح لنا الطبيب بعد انتهاء الحوار معه بالصعود إلى العنابر التي يتواجد بها مرضى ومصابو «الروهنغيا»، حيث يتكون المستشفى من ٥ طوابق، في كل طابق مجموعة من العنابر، بعضها مخصص لتقديم الخدمة العلاجية لصالح الفارين من «جحيم بوذا».
دخلنا أحد عنابر مسلمي «الروهنغيا»، فظهر أمامنا مدى حجم المعاناة والكارثة التي تحيط باللاجئين، ففي كل خطوة داخل العنبر حكاية مختلفة تعكس مأساة، وعلى كل سرير يرقد طفل صغير أو سيدة مسنة أو رجل أجرى عملية، إجمالًا: «الوجع يحيط بك في كل مكان».
اقتربت من إحدى السيدات تبلغ من العمر ٤٠ عاما، لكن شكلها يوحى بأنها تخطت الستين، استمعت منها إلى حكايتها، فقالت: «قريتي تم حرقها وإبادة أهلها بالكامل.. كنا نعيش في منازلنا دون إهانة، وكان زوجي يملك أكثر من ١٠٠ بقرة و١٠٠ جاموسة، وكان يطعم الناس ويساعد المحتاج، والآن نجلس لكي ننتظر رغيف خبز من أي شخص»، مضيفة وهي تبكى ويدها موضوعة في جبيرة: «هل يجوز لي تمني الموت فأنا أشعر بمذلة كبيرة؟».
بجوارها ترقد سيدة يصل عمرها إلى ٨٠ عامًا تقريبًا، وبجانبها شاب في الثلاثينيات من عمره، الذي تحدثت إليه فقال: «سرت على قدمي لمدة ١٠ أيام حاملًا أمي على ظهري في سلة مثبتة على عامود من خشب الخيزران، وبجواري زوجتي حاملة ابني، للهروب من الجحيم، بعد أن أبادوا القرية كلها».
بجوارهم يرقد ٣ أطفال على ٣ سرائر يتشابهون في الملامح والمأساة، ويقول أحدهم: «عمري ١١ عامًا، وعندما حاولت الهرب والإمساك بيد أمي ضربني أحد الجنود على رجلي بالعصا وكسرها، فحملتني أمي وهى لا تستطيع المشي حتى وصلنا إلى هنا منذ ١٥ يومًا».
وأضاف طفل آخر يبلغ ١٢ عامًا: «أوقفني الجنود ومعي مجموعة أخرى من الأطفال وسحلونا واعتدوا علينا بالضرب، حتى فقدنا الوعي، وبعد إفاقتي عرفت أن الكثير من أصدقائي ماتوا وحرقوا، والآن أنا هنا بسبب إصابتي بكسور في القدم واليد».
انتقلت إلى غرفة أخرى فوجدت فيها طفلًا لفت نظري عيناه الحمراوان بشدة، فسألت عنه وعرفت أن عائلته جميعها دهسها فيل أثناء هروبهم من «أراكان»، ما عدا والدته التي استطاعت النجاة، وتقول عن تلك الواقعة: «أثناء هروبنا في الغابات والجبال هاجمتنا الأفيال، فمات أحد أبنائي، وأصبت أنا بكسور خطيرة في ظهري لحماية ابني الموجود في المستشفى هنا».
تركت تلك المأساة للانتقال إلى حالة أخرى على الأرض، وبجواره سيدة تحمل طفلا، اقتربت منه فكشف لي عن جسده فظهر جرحه الذي يبدو بشعا للغاية، أما قصته فيقول عنها: «أطلقوا علينا الرصاص كالمطر وأصبت في كتفي وفي رجلي».
منتقبة: اغتصبوا بناتي أمامي.. ومسن: كسروا عظامي
في عنبر آخر تستلقي سيدة منتقبة ظهرت آثار التعب على صوتها عندما تحدثت إلينا راوية مأساتها البالغة، فتقول: «اقتحم البوذيون منازلنا في منتصف الليل، وكنت أنا وبناتي لوحدنا، ففتشوا المنزل بدعوى استضافتنا أحد أفراد عائلتنا، وهو الأمر الممنوع إلا بترخيص رسمي من السلطات».
وأوضحت أن السلطات في ميانمار تحظر قدوم أي شخص من خارج القرية إلى أخرى، لزيارة أسر المسلمين، إلا بتصريح رسمي، وعليه، بحسب القانون هناك، عليه أن يغادر في نفس الليلة ولا يبيت في المنزل.
وأضافت: «حاول أحد الجنود التحرش بي وببناتي اللاتي لا تتجاوز أعمارهن ١٢ عامًا، وعندما صرخت ضربوني بوحشية وكبلوا يدي ورموني في الأرض فكسرت يدي، فانتهزوا الفرصة، واغتصبوا بناتي أمامي وهن يصرخن بأعلى أصواتهن، وكنت أتوسل إليهم بالتوقف دون أي جدوى».
وتابعت: «بعد خروجهم هربت مع بناتي وهن في حالة نفسية تدمى القلب وتحزن لها العين، وبعد وصولي دخلت المستشفى مع بناتي، وتم الكشف عليهن وعلاجهن من آثار الاعتداء، وتحسنت حالتهن الآن، لكنني ما زلت أعاني من كسر يدى وإصابتي بجروح في كتفي».
أما هذه الفتاة المصابة بمرض السرطان فلم يرحموا مرضها اللعين، وتقول: «أصبت بالسرطان منذ عام، وبعد طردنا من منازلنا جئت إلى هنا ولدى أمل في أن يساعدني أي شخص في علاجي من مرض سرطان الثدي.. حالتي صعبة، نظرا لضعف الإمكانيات».
توقفت لألتقط أنفاسي وأهدأ قليلا من صعوبة تلك المآسي، ولم أجد سوى الأرض للجلوس عليها وسط المرضى، الذين بدأوا في الالتفاف حولي ومناداتي كي يقصوا حكاياتهم علي، بعد أن عرفوا أنني صحفية قادمة من بلد إسلامي.
من بعيد شاهدت سيدة حامل تتوجع بشدة، اقتربت منها لأعرف قصتها، فتحدث لي زوجها قائلًا: «اقترب موعد الولادة وهي هنا لأنها تعاني من آلام حادة في ظهرها ومعدتها لمشقة رحلة الهروب من (أراكان) إلى هنا، فضلًا عن المعاناة من سوء التغذية».
مآس أخرى عاشها المسنون المتواجدون في المستشفى، كثيرة وتعكس مدى البشاعة التي تعرضوا لها رغم أعمارهم التي تتجاوز الستين والسبعين. يقول أحدهم: «أصبت بطلق ناري وأنا أحاول الهروب من بطش الجنود، وذلك قبل عيد الأضحى الماضي».. سألته: «لماذا يفعلون كل ذلك؟»، فرد: «لا نعرف.. كل يوم يحرقون بيوتنا خلال الفترة ما بين العصر والمغرب، ويصرخون في وجوهنا: هذا البلد ليس بلدكم.. ارحلوا.. مكانكم ليس هنا».
وأضاف مسن ثان: «عمري ٧٥ عامًا، ولا أستطيع الحركة، ورغم ذلك ضربوني وكسروا رجلي.. الآن أرقد مكاني ولا أستطيع الحركة، وأتمنى الموت في كل لحظة».
شباب يروون قصة نجاتهم في المركب المتهالك
الشباب في المستشفى ليسوا بشباب، فقد فقدوا شبابهم من قلة حيلتهم، خاصة أنه يوجد منهم من اغتصبت زوجته أو ضربت، بخلاف ما تعرض هو له من تعذيب وإطلاق نيران وطعن بالآلات الحادة. شاب منهم يبلغ من العمر ٢٢ عامًا تحدث عن مأساته قائلًا: «خرجنا بعد حرق بيوتنا، وأطلقوا على جميع الفارين النار، وأصبت برصاصة.. والكارثة أنها لا تزال في ركبتي وتحتاج لعملية جراحية دقيقة، كما أن كل عائلتي تفرقت في الجبال، ولا أعرف عنهم أي شيء».
ويقول آخر: «البحر كان خيارنا الوحيد بعد حرق منازلنا بالنار، فهربنا مجموعة تضم ٧ أشخاص، وصعدنا على متن قارب متهالك، وكان الجنود البوذيون يلحقون بنا، وأطلقوا علينا النيران بالفعل، حتى انقلب القارب وفقدنا شابًا من المجموعة، واستطاع بقيتنا النجاة بأعجوبة، والآن أنا في المستشفى لتلقي العلاج جراء الإصابة بطلقات نارية»، وتساءل: «ألسنا بشرًا قبل أن نكون مسلمين؟.. لماذا يصمت العالم بكل أطيافه؟». ويلتقط الحوار شاب من الـ٦ الناجين: «كنا نكافح ضد الغرق، ولم يكن معنا ما يكفينا من شراب وطعام، وكنا نشرب من مياه البحر»، وقال آخر باكيًا: «أصبحنا نرمي بأنفسنا داخل البحر.. هناك من يموت في البحر، ومن يمرض ويجوع ولا يمكن أن نتركه حتى يموت». أعود إلى الأطفال من جديد، فعددهم داخل المستشفى كبير، لكن وجعهم أكبر، فهذا طفل لم أصدق ما روى عنه، لكن لفت نظري أن رجليه محروقتان إلى جانب أنه مصاب بطلق ناري، وبحسب رواية أمه فإنه: «أثناء اقتحام الجنود البوذيين منازلنا لحرقها، هربنا، وأثناء هروبنا أطلقوا أعيرة نارية علينا، فأصابت إحداها طفلي». طفل آخر وضعت قدماه داخل جبيرة من الجبس يقول: «أثناء هروب والدي حاولت اللحاق به، لكن أمسك بي أحد الجنود وقام بضربي على رجلي بالعصا، فكُسرت قدماي الاثنتان، وحملني أحد الأشخاص ووضعني في قارب متوجه إلى بنغلادش، ووجدت أبي على الحدود». وظهرت طفلة شابت ملامحها قبل الأوان، فلفت اهتمامي بها والدها الذي قال لي راويًا ما حدث لها: «بعد حرق منازلنا، حاولت الهرب فطعنها أحد الجنود في قدميها بساطور، وهي الآن تعاني من حالة نفسية سيئة، ولا تتحدث»..