تقرير : سها الشرقاوي
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
كأي مصري تعاملت مع ما أثير بشأن حرق وقتل مسلمي «ميانمار» أو «بورما» -بمسماها القديم- باهتمام شديد تشوبه العديد من التساؤلات، أسمع الأخبار من وقت لآخر، وأشاهد بعض الصور صدفة بشكل غير مقصود على مواقع التواصل الاجتماعي، لم أكن أصدق بعضها، إلى أن جاء يوم وسألت نفسي: «ماذا لو كان كل هذه الأخبار والصور التي لا أصدقها حقيقة؟».
من هنا بدأت الاهتمام بمعرفة أصل الحكاية، ومتابعة ما يتم نشره من أخبار عن هؤلاء المسلمين المتألمين، والبحث في بعض المواقع التي تنقل أخبار ميانمار واللاجئين المضطهدين من مسلمى «الروهنغيا»، حتى تشبعت منها كونها مكررة وليس فيها جديد.
قررت أن أحمل حقائبي وأذهب إلى هناك في مهمة صحفية تستكشف ما يحدث رغم ما قد يمسني من مخاطر بسبب ما يحدث هناك، ولكوني مسلمة أيضا.. عرضت الأمر على رئيس التحرير، الذي فاجأني بموافقته، بل مساندتي بكل الإمكانيات.
ما زادني إصرارا على السفر أن كل من يعرف برحلتي هذه لم يصدق أنني سأذهب إلى ميانمار، وحذرني من أنني سأموت لا محالة، رغم أنهم لا يصدقون الكثير من الأخبار التي تنشر.. فكانت رحلتي أو إن شئت فلتقل مغامرتي إلى «ميانمار»، تحديدًا على حدودها مع دولة بنغلادش.
«البوذية» تدعو إلى المحبة والتسامح والتعامل بالحسنى وترفض العدوان
لماذا يكره البوذيون المسلمين؟.. سؤال سيطر على تفكيري طول رحلتي إلى بنغلادش وحدود ميانمار، رغم ما علمته أن مبادئ التعاليم الدينية البوذية تحث على السلام وعدم قتل النفس أو اللجوء إلى العنف.
وتكفل تعاليم البوذية القضاء على العدوانية، فمن خلال التأمل ينمو التعاطف مع جميع الكائنات، وتدعو تعاليمها أيضًا إلى المحبة والتسامح والتعامل بالحسنى والتصدق على الفقراء وترك الغنى والترف وحمل النفس على التقشف والخشونة، وفيها تحذير من النساء والمال وترغيب في البعد عن الزواج.
ومن هذا المنطلق أتساءل: لماذا يلجأ بوذيو ميانمار إلى العنف والقتل ضد مسلمي «الروهنغيا»؟، ولماذا يحملون تجاههم كل هذه الكراهية، برغم أنني لمست بعد مشاهدة هؤلاء «الروهنغيين» أنهم يتحلون بالسلمية ويمثلون أقلية صغيرة في «ميانمار» ولا يمثلون أي خطورة على البوذيين إطلاقًا؟
ومن خلال معايشة الوضع هناك توصلت إلى أن العنف ضد مسلمي ميانمار تتزعمه جماعة «٩٦٩»، بقيادة الراهب آشين ويراثو، الذى تم حبسه عام ٢٠٠٣ بتهمة التحريض على الكراهية الدينية، وتم الإفراج عنه عام ٢٠١٢، وهو يعتبر نفسه «بن لادن ميانمار».
ولمن لا يعرف فإن البوذية ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت في بدايتها متوجهة إلى العناية بالإنسان، كما أن فيها دعوة إلى التصوف والخشونة ونبذ الترف والمناداة بالمحبة والتسامح وفعل الخير، وبعد موت مؤسسها ألهه الأتباع.
أسسها سدهارتا جوتاما الملقب ببوذا (٥٦٠-٤٨٠ ق. م) وبوذا تعنى (العالم) ويلقب أيضًا بـ«سكيا موني» ومعناه المعتكف، ونشأ بوذا في بلدة على حدود نيبال، وكان أميرًا فشب مترفًا في النعيم وتزوج في التاسعة عشرة من عمره وعندما بلغ السادسة والعشرين هجر زوجته منصرفًا إلى الزهد والتقشف والخشونة في المعيشة والتأمل في الكون ورياضة النفس، وعزم على أن يعمل على تخليص الإنسان من آلامه التي منبعها الشهوات، ثم دعا إلى تبنى وجهة نظره، حيث تبعه أناس كثيرون.
ويعتقد البوذيون أن بوذا هو ابن الله، وهو المخلص للبشرية من مآسيها وآلامها، وأنه يتحمل عنهم جميع خطاياهم، ويعتقدون أن تجسيد بوذا كان بواسطة حلول روح القدس على العذراء «مايا».
وكتبهم ليست منزلة ولا هم يدَّعون ذلك، بل هي عبارات منسوبة إلى بوذا أو حكاية لأفعاله سجلها بعض أتباعه، ونصوص تلك الكتب تختلف بسبب انقسام البوذيين، فبوذيو الشمال اشتملت كتبهم على أوهام كثيرة تتعلق ببوذا، أما كتب الجنوب فهي أبعد قليلًا عن الخرافات.
وأخيرًا تتمحور العقيدة البوذية حول ٣ أمور (الجواهر الثلاثة): أولها، الإيمان ببوذا كمعلّم مستنير للعقيدة البوذية، ثانيها، الإيمان بـ«دارما» وهى تعاليم بوذا وتسمّى هذه التعاليم بـ«الحقيقة» وثالثها «المجتمع البوذي».
وتعنى كلمة بوذا، بلغة بالى الهندية القديمة، «الرجل المتيقّظ» (وتترجم أحيانا بكلمة المستنير) وتجدر الإشارة إلى أن اللفظ الأصلي لمؤسس الديانة البوذية هو «بودا» بالدّال وليس بالذال.
مسئول معبد أورجامدة: جرائم ميانمار تخالف «تعاليم بوذا» بشكل كامل
بعد رحلتي مع اللاجئين بدأت البحث عن أحد الرهبان البوذيين لكى يجيب عن أسئلة عديدة تدور في ذهني بعد سماع روايات «الروهنغيا» عن عنف واضطهاد البوذيين لهم، ولم يكن الأمر سهلًا، نظرًا لأن البوذية تمثل أقل من ١٪ في بنغلادش وحديثهم في وسائل الإعلام قليل للغاية، خوفًا من محاسبتهم على أخطاء نظرائهم في ميانمار.
كما حدثت واقعة عام ٢٠١٢ جعلتهم أكثر حذرًا، فبعد نشر صورة تسيء للإسلام على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل أحد البوذيين أضرم على إثرها ٢٥ ألف مسلم النار في ١٥ قرية بمدينة «رامووقري» بجنوب بنغلادش، وحرقوا ٥ معابد وعشرات المنازل.
ومن الواضح أن الحكومة سيطرت على الوضع وإلا كان الأمر أخذ مجريات مشابهة لما يحدث في ميانمار، للرد على ممارسة العنف ضد المسلمين هناك.
معبد «أورجامدة» يقع بمنطقة «بويليا بارا» بجانب مستشفي الصدر بمنطقه «كوكس بازار» الساحلية.
وصلت المعبد في الصباح، وعلى الباب طلب مني الحارس خلع الحذاء، صوت الغربان في كل مكان، بل تعلو أصوات الناس، هيئته كالحديقة على مساحة أرض كبيرة، يكسوه الشجر، والمباني في الداخل تبدو قديمة.
اصطحبنا الحارس إلى الداخل، وصادف هذا اليوم احتفالية لهم، والمعبد مكون من مجموعة من المعابد.
وشرح الحارس طبيعة المعبد، قائلًا: إن المعبد يضم مجموعة من الأماكن الأثرية القديمة، كما توجد به مجموعة من الغرف داخل مبنى صغير، وكل غرفة مستقلة بذاتها، حيث يوجد مكان للاستخارة، ويجلس البوذيون في هذه الغرفة لإعادة الروح إلى من يحبونه وتركهم.
وأضاف أن المعبد يضم مدرسة داخلية لتعليم الأطفال، كما توجد مجموعة من التماثيل، وكل تمثال يرمز إلى حكاية ما، أبرزها تمثال بوذا، مؤسس الديانة، بجانب تماثيل أخرى لأئمة البوذية، كما توجد تماثيل أخرى ترمز إلى التسامح وغيرها من التعاليم الخاصة بهم.
وأشار الحارس إلى أن هناك تمثالا تم بناؤه لاعتقادهم أن جزءًا من جسد «بوذا» مازال متواجدا فيه، كما يوجد مثله في جميع معابد البوذيين في العالم.
وتابع «بداخل غرفة الصلاة يوجد بخور وشمع تحت أرجل التماثيل، ويتم استخدامها أثناء الصلاة والدعاة».
دخلت غرفة بها مجموعة من التماثيل وطلب منى الحارس عدم التصوير والتبرع في الصندوق، وتمتد إلى جوار الغرفة ساحة لتناول الطعام في الاحتفالات.
تحدثت مع رجال الأمن وهم ٣ رجال، وسألتهم مازحة هل أحد منكم بوذي؟ فرد أحدهم قائلًا أنا هندوسي من الهند والآخران مسلمان.
مع خطواتي الأولى سألت الحارس عن رأيه فيما يحدث في ميانمار، قال: «نظمنا مظاهرة للتنديد بأعمال العنف التي يقوم بها بوذيو ميانمار وقدمنا المساعدات إلى اللاجئين»، مضيفًا «علاقتنا بالمسلمين قوية ويشاركوننا أعيادنا ونشاركهم مناسباتهم».
وتابع الحارس: «قلنا للروهنغيا ليست لنا علاقة ببوذيي ميانمار وديننا يحثنا على السلام والتسامح وليس القتل».
وكشف أن عائلته تضم منتمين إلى العديد من الأديان منها الإسلام، موضحًا أن أخته متزوجة من مسلم في الهند، وأخاه متزوج من مسيحية.
بعد التجول في المعبد، قابلت المسئول الثاني الذي تحدث عن العنف في ميانمار قائلًا: «قدمنا تقريرًا للحكومة البنغالية مضمونه أننا ضد ما يحدث في ميانمار، وأوقفوا القتل فورًا».
وأضاف: «لا نعتبر أن هؤلاء بوذيين لأنهم خارجون عن تعاليم البوذية، ونحن كبوذيين نعيش في بنغلادش ليست لنا علاقة بهم ولا نحاول الاتصال بهم، وما يفعلونه من قتل أطفال ورجال واغتصاب سيدات، خارج إطار الإنسانية، والبوذية تنفي كل ذلك».
وأوضح أن هناك قواعد أساسية تشكل أساس الممارسات الأخلاقية للبوذية ولابد أن ينفذها كل بوذي، وأهمها الكف عن القتل والتسامح والتعامل بالحسنى والتصدق على الفقراء وترك الغنى والترف والمال وحمل النفس على التقشف والخشونة والكف عن السوء ورفض الجنس غير المنضبط، والبعد عن الزواج والكف عن السلوكيات الحسية المشينة.
وشدد المسؤول على أنه لابد من التقيد ببعض الأمور حتى يتمكن البوذي من الانتصار على نفسه وشهواته، أولها الاتجاه الصحيح المستقيم الخالي من سلطان الشهوة واللذة وذلك عند الإقدام على أي عمل، ثانيها التفكير الصحيح المستقيم الذى لا يتأثر بالأهواء، وثالثها الإشراق، ورابعها الاعتقاد المستقيم الذي يصحبه ارتياح واطمئنان إلى ما يقوم به المرء، وخامسها مطابقة السلوك للقلب واللسان.
ولفت إلى أنه من وصايا البوذا ألا تقضي على حياة حي ولا تسرق ولا تغتصب ولا تكذب ولا تتناول مسكرًا ولا ترقص ولا تحضر مرقصًا ولا حفلًا غنائيًا، مضيفًا: «لذا ما يفعله بوذيو ميانمار يخالف كليًا تعاليم البوذا».
عالم إسلامي لـ«الكاهن»: موقفكم غامض وتحركتم لتجنب غضب مسلمي بنغلادش
أما محمد إلياس، المحاضر بقسم الحديث والدراسات الإسلامية بنغلادش، الذى رافقني إلى رحلة المعبد البوذي، فقد علّق على ما قاله المسؤول بالمعبد قائلًا: «الفئة البوذية في بنغلادش تتمتع بحرية شديدة، ولا تواجه أي عراقيل أمامها، لكن موقفهم تجاه هذه الأزمة الإنسانية الدامية لمسلمي (أراكان المحتلة) به غموض كبير جدًا». وأضاف إلياس: «في البداية كانوا صامتين، ولم نلاحظ منهم أي رد فعل تجاه ما يحدث في ميانمار، سوى عقد مؤتمر صحفي للتنديد بما يحدث لمسلمي الروهنغيا». وتابع المحاضر الإسلامي: «لكن عندما رفع مسلمو بنغلادش أصواتهم وطلبوا منهم توضيح موقفهم، حينئذ المجلس الأعلى لرعاية حقوق الأقليات في بنغلادش أصدر تقريرًا بإنكار هذه الحملة الدموية، وبعدها شاركوا في إغاثة المسلمين الروهنغيين في المخيمات». وعلق إلياس على المظاهرة والإعانات التي شارك فيها بوذيو بنغلادش من أجل لاجئي الروهنغيا، قائلًا: «هذه المظاهرة وتلك الإغاثة قاموا بها بعد مطالبة المسلمين بتوضيح موقفهم، ولو كانوا جادين لقاموا بها بعد بدء الأزمة مباشرة، وهم بوذيون، وأهالي ميانمار أيضا بوذيون».
وتساءل الشيخ: «لماذا لم يكونوا لجنة ائتلافية للتفاوض مع أبناء ديانتهم؟، ولماذا لم يبعثوا حتى الآن وفدًا إلى ميانمار للتهدئة؟ نحن نسمع عن سفرهم ورحلتهم إلى هذه الدولة البوذية في المناسبات الدينية، كما أن هنود بنغلادش يسافرون إلى الهند كذلك».
ووجه إلياس كلامه إلى الكاهن البوذي قائلًا: «إن كنتم متألمين حقًا لمعاناة مسلمي أراكان المحتلة فعليكم أن تكوّنوا لجنة من رهبانكم وتسافروا إلى ميانمار لكى تتفاوضوا معهم وتوقفوا المذبحة».
بوذيات: يجب وقف القتل.. ونتألم لأوجاع لاجئي المخيمات
خلال التجول في أروقة المعبد التقينا مجموعة من السيدات البوذيات، وقالت قيادية من بينهن: «نحن ضد ما يحدث في ميانمار، ونطالب بوقف القتل».
وقالت إحداهن: «نتألم كثيرًا لما يحدث هناك، ونطالبهم بالرجوع إلى تعاليم ديننا، ونحن نعيش مع المسلمين ببنغلادش منذ زمن بعيد، لكن لا نعرف بشكل واضح لماذا يحدث ذلك هناك».
وتدخلت أخرى في الحديث قائلة: «كيف يقومون بذلك؟ وماذا لو تبادلنا الوضع هنا فأصبحنا نحن ضحايا عنف المسلمين؟».
وأضافت: «أناشد العقلاء منهم أن يتراجعوا عما يفعلون بالنساء والشيوخ والشباب والأطفال، فقد زرت المخيمات وتألمت كثيرًا».