وكالة أنباء أراكان ANA | منظمة أطباء بلا حدود
أول ما يصعق المرء لدى وصوله إلى مخيم اللاجئين المؤقت في مجمّع كوتوبالونغ في بنغلادش هو مدى اتساع المخيم الذي يؤوي ما يقارب 650 ألفاً من لاجئي الروهنغيا، أي ما يعادل سكان مدينة فرانكفورت أو مدينة ممفيس.
ولكن على عكس تلك المدن لا تتوفر للقاطنين هنا مياه نظيفة للشرب أو مراكز رعاية صحية أو بيوت للسكن. كما أن الفئات الأضعف من اللاجئين – بمن فيهم كبار السن، والأمهات والأطفال – كثيراً ما يجدون صعوبة في الوصول إلى نقاط توزيع الطعام. وحين ينجحون في الوصول يكون عليهم الانتظار عدة ساعات في الطابور إلى أن يصلوا إلى أول الدور
بعد معاناةٍ استمرت لعقود من الاضطهاد وبعد المذابح التي تعرضوا لها مؤخراً في بلادهم، يواجه الروهنغيا هنا حقيقةً صادمة: فحتى لو كانوا آمنين في بنغلادش، حالياً على الأقل، فإن ظروف الحياة الصعبة التي يعيشونها لن تتحسن في الأمد المنظور
يصعب أن يصدق المرء أن مخيماً بهذا الكبر لم يمضِ على بنائه أكثر من ثلاثة أشهر. الناس الذين يعيشون هنا الآن كانوا قد هربوا إلى بنغلادش بعد أعمال القتل التي ارتُكِبَت في 25 آب (أغسطس) في ميانمار حيث تعرَّض رجالٌ ونساءٌ وحتى أطفال للذبح بطريقة وحشية في موجةٍ من موجات العنف يقول اللاجئون أن من قاموا بها هم أفرادٌ من الجيش والشرطة والميليشيات المسلحة
– أطفالٌ لا يجدون ما يأكلونه –
في مخيم كوتوبالونغ، ما زال كثير من اللاجئين الروهنغيا في حالة صدمة بعد الأحداث التي عايشوها، ويخيم هنا جوٌ من البؤس. النساء اللواتي فقدن أزواجهنّ يجدن صعوبةً في الابتسام ولا يعلمن من أين سيأتين بالقوة لرعاية أطفالهن. والرجال الذين شاهدوا نساءهم تغتصب وتٌقتل يقولون بأنهم قد فقدوا كل أمل في هذا العالم
أينما نظرت في أرجاء المخيم فإنك لن تجد إلا البؤس والقاذورات. أطفالٌ لم يتجاوزوا السنتين أو حتى السنة من العمر يلعبون في برك الوحل الملوثة بفضلاتٍ بشرية من بولٍ وبراز. هناك مراحيض في المخيم، والناس يستخدمونها، ولكم على الرغم من الجهود المجتمعية وجهود المنظمات غير الحكومية لإنشاء بنية تحتية بشكلٍ عاجل إلا أن الماء ومرافق النظافة هي الآن مصدر للمشاكل الصحية
معظم حفر الصرف الصحي لا يزيد عمقها عن مترٍ واحد ولم يتم إيجاد آلية حتى الآن لتفريغ تلك الحفر أو ضخ الفضلات التي تتجمع فيها. ونتيجةً لذلك، يتم إغلاق بعضها ببساطة عند امتلائها ولكن الفضلات تتسرب من خلال الشقوق في الطبقة الإسمنتية التي تغلف الحفرة منتشرةً في التربة ومشكِّلةً مصدر خطرٍ كبير على الصحة
على بعد مترٍ واحدٍ أو مترين من حفر الصرف الصحي يضخ الناس الماء من آبارٍ قليلة العمق ويستخدمون هذه المياه للشرب والاستحمام. وقد تم حفر تلك الآبار للمساعدة على سد الحاجة بعد التدفق المفاجئ لأعداد كبيرة من اللاجئين، ولكن على ما يبدو فقد تم حفر تلك الآبار بعمقٍ لا يتجاوز 10 أو عشرين متراً تحت مستوى التربة.
ووفق بيانات صدرت عن منظمة الصحة العالمية في نشرتها الأسبوعية بتاريخ 19 نوفمبر (تشرين الثاني) فإن 58 في المئة من عيِّنات الماء التي جمعت من المساكن والآبار ملوثة بشكل كبير أو كبير جداً بالبراز. ويشكل هذا الوضع مشكلةً كبيرة بالنسبة لكل القاطنين هنا، وخاصةً للنساء الحوامل والأطفال الصغار كونهم أكثر عرضةً للإصابة بالإسهال أو بعدوى التهاب الكبد من الفئة
ومن جهةٍ ثانية، ومع اقتراب فصل الجفاف، هناك خطر أن تجف تلك الآبار
يحاول العاملون في منظمة أطباء بلا حدود منع التواصل بين المراحيض والآبار من خلال الحفر إلى مستوياتٍ أعمق داخل التربة في محاولةٍ لتأمين مياهٍ أنظف للمرافق الصحية ولقاطني المخيم
مشاهد الفقر والحرمان صادمة هنا وسيحتاج الأمر إلى جهودٍ جبارة لجعل ظروف الحياة في المخيم مُحتَمَلة
قبل أن تصل أل ماسكاتا ذات الخمسة وعشرين عاماً إلى المخيم في أيلول (سبتمبر) الماضي كانت قادرةً على إرضاع ابنتها نورشه التي تبلغ من العمر سبعة أشهر رضاعةً طبيعية “لكن الحليب قد جف في صدري، ولم أعد قادرةً على إرضاع طفلتي” تقول ماسكاتا.
ليست المشكلة في صعوبة الحصول على حليب البودرة لإرضاع الأطفال فحسب، إذ أنه حتى حين الحصول عليه فسيحتاج المرء إلى مياهٍ نظيفةٍ لإعداد الحليب والمياه هنا ملوثة
ذراعا طفلتها ورجلاها نحيلة جداً وبطنها منتفخة بسبب سوء التغذية الذي تعانيه. بالكاد تستطيع الابتسام كما يفعل الأطفال عادةً في هذا العمر وهي تعاني من الإسهال وارتفاع درجة الحرارة وبالكاد تستطيع التحرك.
أعطى أحد اللاجئين خضاراً لماسكاتا لتطبخ لطفلتها ولكنها بالطبع لا تستطيع هضم الطعام وكانت تتقيؤ في كل مرةٍ تحاول أمها أن تطعمها.
تقول ماسكاتا التي قتل زوجها في ميانمار “المنظمات غير الحكومية توزع الطعام (للكبار) ولكنني لم أستطع العثور على حليبٍ لطفلتي. أسكن هناك فوق التلة ويصعب عليّ أن أذهب برفقة أطفالي الثلاثة إلى نقاط توزيع الطعام”
كبديلٍ عن الحليب، تحاول ماسكاتا إطعام طفلتها أرزاً مطحوناً بعد أن تطبخه في الماء المغلي. ولكن هذا لا يكفي وطفلتها تظل جائعة على الدوام
“أطفالي هم مصدر القلق الأساسي بالنسبة إليّ. الحياة لم تكن جيدةً في ولاية أراكان (في ميانمار). لقد كانت حياتنا غير آمنة وغير مستقرة ولكن على الأقل كان لدينا مزرعة صغيرة وبعض المال” تقول ماسكاتا
“على مدى شهرين ظل المرض ملازماً لأطفالي. هذا طبيعي، انظر فقط إلى مدى قذارة المخيم الذي نعيش فيه”
وكانعكاسٍ لمدى سوء الظروف بالنسبة للأطفال في المخيم فإن معظم المرضى الذين يراجعون عيادة أطباء بلا حدود هم دون الخامسة من العمر. المشاكل الرئيسية التي يعالجها أطباء المنظمة هي الإسهال والأمراض التنفسية ومؤخراً حالات الدفتيريا التي اجتاحت المخيم. وكان هناك انتشارٌ أيضاً للحصبة جعل من هذا المرض السبب الرئيسي لحالات الدخول إلى المستشفى وأكبر مسبب للوفيات. وما يزال الحصول على لقاحاتٍ كافية أمراً صعباً على الرغم من الحملة الكبرى التي تم تنفيذها مؤخراً
-“العيش، دون أيّ مقوماتٍ للعيش”-
بالنسبة لديلافوروز التي تقارب 100 عامٍ من العمر فإن الحياة في غاية الصعوبة. كانت ديلافوروز قد وصلت إلى المخيم مع ابنها سوليم -الذي حملها على ظهره لمدة ثمانية أيام في الطريق من ميانمار إلى بنغلادش- وزوجة ابنها جاهورا وستة من أحفادها
على الرغم من تقدمها في السن، إلا أنها كانت بحالٍ أفضل قبل أن يتم تهجير العائلة من قريتها توم بازار في أواخر الصيف في هذا العام. الأطباء المحليون يزورونها في البيت بين الحين والآخر ويزودونها بالأدوية التي تحتاجها لعلاج الأمراض التي تعاني منها
ولكنها الآن على شفا الموت، بالكاد تستطيع التنفس بسبب حالةٍ شديدة من الربو. وهي لا تستطيع تناول أية أطعمةٍ صلبة، ولا تستطيع التكلم بسبب صعوبة التنفس. ولكنها كثيراً ما تبكي، والخيط الوحيد الذي يربطها بالحياة يتمثل بابنها وزوجة ابنها اللذين يغذيانها بالسوائل السكرية لتتمكن من البقاء على قيد الحياة
“نحن هنا، لا نملك شيئاً، ولكننا على الأقل آمنون. ليس لدينا أي مشكلة ما عدا أن حماتي مريضة جداً. أتمنى أن تستطيع إحدى المنظمات غير الحكومية أن تساعدنا وأن تقدم لها المساعدة الطبية. إنه لأمرٌ حزين بالنسبة لنا أن نراها وهي تئن من الألم، تعاني وتسعل ليلاً نهاراً” تقول جاهورا
“كان الأمر سيكون أهون لو أن زوجي يستطيع أن يجد عملاً. ولكن ذلك مستحيل في هذا المخيم، ونحن ممنوعون من الذهاب إلى مدينة كوكس بازار حيث من الممكن البحث عن عمل” وتتابع قائلةً أن حواجز التفتيش الأمنية التابعة للحكومة البنغلادشية يمنعون علا من مغادرة المنطقة التي يقع فيها المخيم
تعيش زولشر التي تبلغ من العمر 65 عاماً والهاربة من بلدة تسمى بوسيدونغ معاناة يومية في المخيم المجاور، مخيم بالوكالي. إذ يستغرق الأمر بالنسبة لها، كما هو الحال مع الآخرين، سبع ساعاتٍ من الانتظار في طابور توزيع الطعام. تبكي المرأة وهي تتذكر ابنها علاء الدين الذي قام أفرادٌ من الجيش بدفنه حياً وهو شابٌ في الخامسة والعشرين من العمر في ميانمار
تحت أشعة الشمس الحارقة، تجهد زولشر لإبقاء بصيص من الأمل في الحياة، وهي تحتاج إلى ذلك الأمل لرعاية ابنها محمد الذي يبلغ العشرين من العمر والذي يسكن معها في المخيم. كان عليها هي أن تقف في طابور الحصول على الطعام لأن ابنها محمد مريض وأضعف من أن يغادر الخيمة
“نحن هنا بمأمنٍ من القتل” تقول المرأة “ولكن عليّ أن أعاني الأمرَّين للحصول على أدنى متطلبات الحياة”
حياة زولشر مليئة بالحزن، ولكن ربما لا حزن ولا ألم يعادل الألم الذي يشعر به رفيق الذي فقد ابنه محمد أيوب البالغ من العمر عاماً واحداً في المخيم بعد إصابته بالتهابٍ رئوي
رفيق وأسرته هم أيضاً ممن هربوا من بلدة بوسيدونغ في آب (أغسطس) الماضي. حاملاً طفله المتوفى ملفوفاً في كفنٍ أبيض، توجَّه رفيق إلى بقعة مجاورة لدفنه.
يقول رفيق وقد غارت عيناه من الحزن “لقد استطعت أن أنقذ محمد وأصل به إلى حيث الأمان. كان معافى حين وصلنا إلى هنا. ثم مرض أثناء وجودنا في المخيم” ويتابع قائلاً “انظر إلى هذا المخيم. لا عجب أنه أصيب بالمرض. على الأقل هو يرقد الآن بسلام”