بكل ذهول واندهاش تتابعت كلماته سراعاً :
– ينامون في الكهف ثلاث مئة وتسع سنين ثم يستيقظون؟ يآاااه .. ما أطوله من نوم ، وأعجبها من قصة ! أي كرامة أعطيت لهم؟ كيف وسعهم أن يظلوا أحياء كل هذه السنين دون أن يأكلوا ويشربوا؟ لماذا لم يأكل التراب أجساهم كل هذه المدة الطويلة وأحدنا يموت ويأكل التراب حتى عظامه في غضون قرن أو أقل؟ إن هذا لشيء عجاب ! والأعجب أني لم أكتشف هذه القصة إلا الآن ، ولم أسمع بها من أحد من قبل لا في حديث ولا في موعظة ولا في كتاب ، وقد حفظت القرآن وأنا صغير فتخيّل !!
أي نعم ، حفظه في "أراكان" قبل العشرين ، وهو يقترب الآن من السبعين ؛ ومع ذلك يلتذّ بنشوة اكتشافه لقصة أصحاب الكهف لأول مرة بعد كل هذه السنين !
صلى بالناس تراويحهم بضع سنين قبل أن تشغله الدنيا بالتجارة من حين هاجر من "أراكان" إلى مكة ، وأصابه التوفيق في تجارته ، فغرق فيها بكليته ، ونسي أو تناسى أن عليه حقا لنفسه وذاته ، ومضت عليه السنون .. سنة بعد سنة ، ومازال يسوف في استعادة حفظه للقرآن ؛ حتى منّ الله عليه في آخر عمره بمراجعته على يد محفّظ في حلقة مخصصة لكبار السن بالمسجد الحرام .
يخرج من بيته قبل أذان العصر كل يوم مثل كل الطلاب في حلقات التحفيظ ، فإذا صلى العصر قرأ على معلمه ما كتب له أن يحفظ وجهاً أو وجهين ، فإذا عاد إلى البيت جلس إلى نسخته الأثيرة من ترجمة معاني القرآن باللغة الأوردية التي يتحدث بها بطلاقة ، وعكف عليها متبحراً في معاني القرآن وفي قصص الأنبياء متنقلاً من قصة لأخرى بالتذاذ ونشوة من يتعلم علوماً ويكتشف أشياء لأول مرة وهو سعيد غاية السعادة ، حريص غاية الحرص ، مذهول مندهش غاية الذهول والاندهاش !
وربما مضت عليه ساعات وهو كذلك ، ينسى نفسه وأهله وما حوله مستغرقاً بكليته فيما هو فيه من الإبحار الروحاني ؛ حتى إذا دعاه الداعي لموعد الطعام اثّاقل أو قام وهو يتحسّر ، وربما ناقش أحد أبنائه في بعض ما قرأ واستزاده من تفصيلات ما قرأ .
وكذلك أدرك وهو في السبعين أن المنّة الحقيقية بالقرآن على العبد إنما تكون بتدبر آياته وفهم معانيها والتأمل في دلالاتها وإشاراتها وإيحاءاتها للوصول إلى مغزاها ، وليست بمجرد حفظ القرآن واستظهار آياته والاكتفاء بإمامة الناس به في تراويحهم وتعليمه لصبيانهم فقط .
أي نعم ، تلك نعمة لا مجال لإنكارها ؛ ولكنها أدنى مراتب المنعم عليهم بفتوحات القرآن الربانية التي لا انتهاء لها .
أي نعم ، يؤجر صاحبها على مهارته بالقرآن في تلاوته تلاوة صحيحة بإقامة حروفها كما نزلت ؛ ولكن شتان بينه وبين من فتح الله عليه في المراتب العليا من فتوحات القرآن الربانية في جانب التدبر والتفكر تمهيداً للعمل بأحكام القرآن القلبية والبدنية ، وتنزيلها على أرض الحياة العملية .
يفهم كثير منا إذا ذُكر هجر القرآن أنه هجر التلاوة فقط ، ويغفل أن هجراً أعظم منه سوف يسأل عنه حافظ القرآن خصوصاً من نشأ عربياً أو اكتسب العربية بالتعلم كحال أغلب الحفظة من الشباب الأراكاني في البلاد العربية . وأعني به : هجر الفهم والتدبر لما في آي القرآن من معان وعلوم وحكم .
فأما المرحلة الأولى من المشروع القرآني فقد نجح فيه بحمد الله هذا الشباب الأراكاني ، وحاز على شهادة القاصي والداني بجدارته فيه ؛ ألا وهو حفظ القرآن واستظهاره والتغني به في المساجد والمحافل والمناسبات .
وأما المرحلة الثانية من المشروع القرآني فتلك التي تنتظره ويجدر به بل آن له أن يقتحمها وينطلق فيها بكل شجاعة واقتدار كسيرته في الأولى . وما لم يفعل فليعذرني إذا قلت له حينئذ :
– يا حافظ القرآن لست بشيء بمجرد حفظك لآي القرآن واستظهاره واكتفائك بتوظيفه للحصول على ثمراته المادية العاجلة دونما تشوف منك للحظوة بكنوزه الربانية العاجلة والآجلة التي ادخرها الله لكل من بذل وسعه في الحفر والتنقيب بين آيات القرآن والغوص مرة بعد مرة إلى أعماق معانيه !
فإن لم تقبل قولي فاسمع لابن القيم إذ يقول :
– صاحب القرآن هو العالم به العامل بما فيه وإن لم يحفظه عن ظهر قلب . وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل به فليس من أهله وإن أقام حروفه .
قاله ابن القيم فتأمّل !
وهناك تجربة رائدة في هذا المجال لـ "مركز تدبر للدراسات والاستشارات" يجدر ذكره والتنويه به هنا ؛ حيث إنه أخذ ينشر سلسلة إصدارات متميزة وشاملة بثمن بخس ريالات معدودة تحت عنوان : (تدبر) ، تأخذ بيد المبتدئ في هذا الفن ، وتتدرج به على مراحل متتابعة .. وصولاً إلى مستويات عليا في فن التدبر ..
ولعل استعراض شيء من عناوين هذه السلسلة المتميزة يعرفنا بخطوات سير هذا المشروع الفريد :
– فن التدبر .
– المراحل الثمان لطالب فهم القرآن .
– ثلاثون مجلساً في التدبر .
– أفلا يتدبرون القرآن؟ لـ أ.د. ناصر العمر رئيس الهيئة العالمية لتدبر القرآن الكريم .
وكفى باسم في وزن اسم الشيخ ناصر العمر حفظه الله تزكية لمثل هذا المشروع القرآني المبارك .
وأظنه مشروعاً أنفع وأبرك للناشطين من شبابنا في برامج ومواقع التواصل الاجتماعي ؛ عوضاً عن تبديد جهودهم وهدر أوقاتهم وهم يتهارشون فيما بينهم ويتعاركون ، يتبادلون التهم ويتراشقون ، يقعون في أعراض بعضهم ويتقاذفون ، وينبشون في سوابق لهم أكل عليها الدهر وشرب ! منتهكين في كل ذلك حرمة رمضان المبارك .
من أين تأتي البركة في رمضان فضلاً عن غيره وما سبق هو بعض من حال شبابنا الأراكاني الحافظ لكتاب الله المتخرج في المعاهد الدينية والمؤسسات الشرعية المعتبرة؟! حجتهم في كل ذلك الحوار البناء والنقد الهادف وإصلاح الشأن العام أو الدفاع عن العاملين المجتهدين المخلصين وربما المعصومين !! وأنت ما لك ولهذا؟
إن في اشتغال المرء بخاصة نفسه لغنيةً له عن التعرض لحرمات إخوانه المسلمين والولوغ في أعراضهم في شهر كريم كله روحانيات ، وفي بلد حرام كله إيمانيات !!
وإلى أن نسعد برؤية اليوم الذي يُقبل فيه الحفظة من الشباب الأراكاني على تدبر كتاب الله أترككم في رعاية الله ؛ داعياً للشيخ السبعيني الذي رويت لكم طرفاً من قصته أن يحفظه الله ويمد في عمره لإتمام "مشروع العمر" الذي هُدي إليه في آخر عمره ، وأن يلهم حفظة كتاب الله أن يعتبروا بقصته وأن يبادروا إلى غتنام شبابهم قبل هرمهم للبدء في "مشروع العمر" الذي لا فكاك منه لمسلم قادر عليه : (كتاب أنزلناه إليك مبارك) ، لماذا؟ (ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) . "والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ؛ حتى إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفاً ، وقد والله أسقطه كله ، ما ترى القرآن له في خلق ولا عمل" .
قاله الحسن البصري فتأمل !
وكل رمضان وأنتم أقرب إلى القرآن بالتدبر .
إبراهيم حافظ
مكة المكرمة
13/9/1434هـ