وكالة أنباء أراكان ANA
في ولاية راخين غرب ميانمار، وأثناء زيارة الرئيس “ثين سين” إلى المنطقة في وقت سابق من هذا الشهر إنقض حشد من مئات من البوذيين على قرية مسلمة وأحرقوا أكثر من 70 منزلا وقتلوا امرأة مسلمة تبلغ 94 عاما بعض تعرضها لعدة طعنات مميتة . هذا الهجوم هو مجرد حدث حلقة في سلسلة من الاشتباكات بين السكان البوذيين والمسلمين في جميع أنحاء البلاد .
على الرغم من الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية في ميانمار خلال العام الماضي وتحسن العلاقات هذه الدولة المستبدة التي كانت معزولة مع الغرب، فإن تزايد العنف ضد السكان المسلمين هو تذكير مأساوي بأن ميانمار لا تزال بعيدة عن التخلي تماما عن المشاكل التى نشأت من عقود من الحكم العسكري . وبالنسبة لكثير من المسلمين، لا سيما الشعب الروهينجي في ولاية راخين، فإن الحديث المفعم بالأمل عن الديمقراطية والحرية مع تراجع الطيف المظلم للمجلس العسكري ، ما هو إلا كلام فارغ في حين يستمر الظلم والتحيز بلا هوادة منذ نصف القرن الماضي على أيدي الحكومة العسكرية التي يهيمن عليها البوذيون والبورميين .
تاريخ من الاضطهاد
في حين أن العديد من الأقليات في ميانمار عانت على يد الحكومة، يواجه الروهنجيا الذين يبلغ عددهم ما يقارب من 2 مليون نسمة الحرمان من إبراز هويتهم وتهديدا لوجودهم . وقد أشارت هيئة الإذاعة البريطانية إلى الروهنجيا عديمي الجنسية بأنهم “مجموعة من أكثر الأقليات اضطهاداً في العالم ” .
ظل الروهنجيا ، السكان الأصليين لما كان يعرف في ذلك الحين بولاية أراكان (والتي تم تغيير اسمها ولاية راخين في عام 1989 وهو نفس العام الذي تم تغيير اسمها بورما إلى ميانمار ) ، وهذه الولاية جزء من ميانمار بعد الاستقلال عن الحكم البريطاني في عام 1948 على الرغم من تمرير إقتراح في وقت سابق لانضمامها إلى باكستان الشرقية المجاورة .
وبعد وصول المجلس العسكري بقيادة الجنرال “ني وين ” الى السلطة عام 1962 ، بدأت الحكومة عملية إنشاء هوية قومية على أساس العرق والدين المهيمنين، أي العرق البورمي و الديانة البوذية . كان هذا تحولا من الرؤية الأكثر شمولا التي تبناها الأب المؤسس لميانمار “أونغ سان “، الذي أدخل ممثلين عن الأقليات العرقية والدينية في اللجنة التنفيذية (التي لم تدم طويلا) لحكومته الانتقالية ، قبل اغتياله في عام 1947 .
أطلقت بطريقة خاطئة على الروهنجيا المسلمين صفة ” الأجانب ” بسبب كونهم غير بورميين وغير بوذيين، كما أُطلق عليهم إسم “المهاجرين البنغالين الغير الشرعيين” الذين أتوا إلى ميانمار أيام الحكم البريطاني . ومع بداية سبعينات القرن العشرين شن الجيش البورمي حملات تطهير عرقي ضد الأمة الروهنجية، وكان أولها عملية “ناغا مين ” أو التنين الملك. أطلقت هذه العملية في عام 1978 بهدف تحديد “المهاجرين غير الشرعيين” في البلاد وطردهم.
وللتنين الملك جانب مهم في الأساطير البوذية. “ناغا” هو تنين أسطوري وهو في الأصل رمز هندي للقوة المحركة ويظهر بشكل بارز في أساطير بوذا . “ناغايون ، أو “المحمي بالتنين” ، هو معبد في ميانمار يرتبط ارتباطا وثيقا مع فكرة التنين الذي يقدم الحماية . تحمل المعابد نحت لهذا التنين يشبه أفعى كوبرا مقنعة ، وهو يحمي بوذا بقناعة . أصبح تحديد الهوية الخطوة الأولى في هذا النطاق لعملية التطهير العرقي الكبيرة للجيش من أجل “حماية” البوذية من “الأجانب” الذين يشكلون “تهديد ” .
تعرض الروهنغا خلال هذه العملية إلى الاغتصاب على نطاق واسع وإلى الاعتقالات التعسفية كما دُمرت مساجدهم وقراهم وصودرت أراضيهم . واستعمل ركام المساجد في كثير من الأحيان لتمهيد الطرق بين القواعد العسكرية في المنطقة . ونتيجة لهذه العملية حصل نزوح جماعي لما يقرب من ربع مليون لاجئ من الروهنجيا فروا عبر نهر “ناف “ إلى بنغلاديش المجاورة في فترة ثلاثة أشهر فقط . وقد أعيد العديد من هؤلاء اللاجئين إلى ميانمار في العام التالي .
في عام 1991 ، تم إطلاق عملية عسكرية ثانية عُرفت بإسم “بيي ثايا أو “عملية الأمة النظيفة والجميلة” لنفس الغرض وهو طرد السكان الروهنجيا ، فهرب نحو 200000 لاجئ من الروهنجيا إلى بنغلادش مرة أخرى ، وهناك الآن ما يقرب من 300،000 لاجئ اليوم في مخيمات اللاجئين المؤقتة، معظمهم من دون مساعدات غذائية أو طبية ، فقط 28،000 منهم معترف به رسميا في مخيمات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة . وقد رفضت بنغلادش أي اقتراح للاندماج المحلي للروهينجا ، مشيرة إلى أن الروهينجا هم ” عبئ بيئي واقتصادي، وخطر اجتماعي في القرى، و يسببون في ظهور تشدد اسلامي مسلح.”
كذلك فان بنغلادش إما أعاقت أو رفضت الجهود الرامية إلى تحسين وضع المخيمات وتقديم المساعدات الإنسانية لأنها خشيت من أن هذا سيكون بمثابة حافز للاجئين بالبقاء في البلاد ولعبور المزيد من الروهينغا لحدود من ميانمار . وفي عام 2011 رفضت بنغلادش حزمة مساعدات بقيمة 33 مليون دولار من الأمم المتحدة لصرفها على اللاجئين الروهنجيا .
يلقى الروهنجيا من بلدان أخرى في المنطقة إزدراءً مساوياً للذي يصدر من بنغلادش . فهناك العديد من تقارير وسائل الاعلام تتكلم عن الروهنجيا أو ” لاجئي القوارب ” كما أطلقت عليهم ، الفارين عن طريق البحر قد تعرضوا لإطلاق نار من القوات البحرية التايلاندية ، وتم إلقاء القبض عليهم وبيعهم من قبل المسؤولين الرسميين التايلانديين الذين يعملون كتجار البشر، أو إحتجزوا لأجل غير مسمى في مراكز الهجرة في أستراليا ولجأ البعض منهم إلى الانتحار بدلا من الاستمرار في مواجهة حالة ميؤوس منها .
أعمال إبادة جماعية ؟
حرم الروهنجيا في ميانمار باستمرار من هويتهم . وبموجب قانون الجنسية لعام 1982 جردوا رسميا من جنسيتهم التي كانت محفوظة للمجموعات العرقية ال 135 المعترف بها رسميا . ومن خلال إعتبارهم غير مواطنين كان المطلوب من الروهينغا أن يحصلوا على إذن حكومي للسفر خارج قراهم ولإصلاح مساجدهم ولزواج و حتى لإنجاب الأطفال، وجميعها إعتبرت الجرائم يعاقب عليها بالحجز في حال حصولها من دون تصريح . ومع ذلك فإن إذن الحكومة كان يتم إستخراجه من خلال دفع رشوة كان القليل من الروهنغا يستطيع تحمله.
ومنذ عام 1994 تم تطبيق سياسة محلية تجاه الروهنجيا الذين يحصلون على الإذن بالزواج، وتقضي هذه السياسة بمنعهم من إنجاب أكثر من طفلين وهي خطوة أعطتها الحكومة دعماً كاملاً في أيار (مايو) 2013. فلو أصحبت المرأة الروهنجية حاملا بالطفل الثالث تضطر للفرار من البلاد إما بصفة لاجئة أو القيام بعملية الإجهاض تحت ظروف صحية صعبة للغاية . وكثير من اللواتي قمن بعمليات إجهاض كان مصيرهن الموت بسبب عدم قدرتهن الحصول على الرعاية الطبية المناسبة نتيجة القيود المفروضة على السفر .
كما اضطر العديد من الروهنجيا للعمل في مشاريع البناء المختلفة سخرة كعبيد العصر الحديث بما في ذلك بناء “قرى نموذجية” تهدف إلى إيواء المستوطنين البورميين الذين لاقوا تشجيعاً للسكن في المنطقة كي يتم تهجير الروهنجيا . وكانت هناك تقارير عن البغاء القسري للنساء الروهنجيات من قبل قوات الأمن البورمية المحلية .
وجدير بالذكر أن المادة 2 من اتفاقية عام 1948 للأمم المتحدة بشأن منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية تنص على: “أن الإبادة الجماعية تعني أيا من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لقومية أو إثنية أو مجموعة عرقية أو دينية مثل : قتل أعضاء من الجماعة؛ إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم لأعضاء المجموعة أو فرض بطريقة متعمدة على المجموعة ظروف معيشية يراد بها الإهلاك الفعلي كليا أو جزئيا لهذه المجموعة أو فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة.”
فهذا التاريخ المضطرب الذي غذى أعمال العنف في حزيران (يونيو) لعام 2012 ضد الروهنجيا على أيدي البوذين الراكين المجاورين . فبينما العدد الرسمي للقتلى هو 192 ، تقول جماعات حقوق الإنسان الروهنجيا أن هناك أكثر من 1،000 قتل، كما أحرقت الجماعات الغوغائية من الراخين قرى بأكملها مع أكثر مما أجبر 125،000 روهنجي على النزح قسرا دون أي عون أو مساعدة . وقد أطلق تقرير لهيومن رايتس ووتش على هذه الحادثه التي دعمتها الدولة إسم “التطهير العرقي”، وتابع التقرير أن قوات الأمن الحكومية “ساعدت عمليات القتل من خلال تجريد الروهنجيا من العصي والأسلحة البدائية الأخرى التي كانت بحوزتهم للدفاع عن أنفسهم.” وأشارت عدة تقارير وسائل الاعلام إلى هذا العنف بأنه ” طائفي ” مما يعني ان كل طرف لعب دورا مساوياً في العنف .
أكد الرئيس “ثين سين” في الشهر التالي أنه في نظر الحكومة ليس الروهنجيا من مواطني ميانمار وأنه يود أن يسلم المجموعة العرقية الروهنجية بأكملها إلى مفوضة الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين من أجل توطينها في بلد آخر . وقد قام عدد من الرهبان البوذيين في ماندلاي باحتجاجات ضد الروهنجيا ايدوا خلالها اقتراح الرئيس .
حركة 969
في العام الماضي عندما إنفتحت الحكومة على الاصلاح والعلاقات مع الغرب ، كان هناك أعمال العنف على نطاق واسع ضد المجتمعات الإسلامية . وخلال أعمال الشغب في آذار (مارس) التي إندلعت في مدينة “ميكتيلا ” في وسط ميانمار تم إحراق أكثر من 1300 منزل في أحياء المسلمين وقتل 43 شخصا بتحريض من الرهبان البوذيين الذين كانوا جزءا من حركة 969 . هذه الحركة بقيادة زعيمها الروحي الراهب البوذي “يو ويراثو ” تشجع السكان المحليين لمقاطعة التجارة مع المسلمين وتدعو للتسوق فقط من المحلات التي يملكها بوذيون التي تعرض الرقم 969 على واجهاتها، وهو رقم يرمز لتعاليم بوذا وللممارسات البوذية، وأتباع هذه الحركة يعتبرون المسلمين تهديدا للأمة . وخلال تجمع لدعم “يو ويراثو” شوهد رهبان بوذيون يحملون لافتات كتب عليها “يو ويراثو ليس إرهابي لكن حامي للعرق و اللغة و الدين.” وقد أثرت أعمال العنف الأخيرة في أيلول (سبتمبر) سلباً على المسلمين من عرق كامان في ولاية راخين ، وهم مجموعة معترف بها كأحد المجموعات العرقية الرسمية في ميانمار والتي مُنحت المواطنة الكاملة .
وقد أدانت أونغ سان سو كيي ، بطلة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحاصلة على جائزة نوبل للسلام ، و هي ابنة “أونغ سان “، أعمال العنف الأخيرة ضد المسلمين ولكن ظلت صامتة بشكل مريب تجاه معاناة الروهنجيا. وخلال مقابلة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 مع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي سُئلت سو كيي عن الروهنجيا فأجابت ” أنا أحث على التسامح لكنني لا أعتقد أنه على المرء استخدام القيادة الأخلاقية، إذا كنا نريد أن نسميها ذلك، للترويج لقضية معينة من دون النظر إلى أصل المشاكل.” وظلت تشير إلى الروهنجيا باسم ” البنغاليين”، وهذا عكس التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في جامعة يانجون خلال زيارته الرسمية إلى ميانمار في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي ، حيث اعترف بكرامة و معاناة من الروهنجيا الأبرياء، وهو موقف عدد قليل داخل ميانمار مستعد لاتخاذه.
تستمر محنة الروهنجيا ، سواء في ميانمار أو كلاجئين في الخارج ، ويستمر معها العنف ضد المسلمين ليلطخ أي إصلاحات ديمقراطية في هذا البلد الذي لم يعرف سوى الحرب الأهلية والعنف خلال نصف القرن الماضي . الوضع يائس والعنف يزداد سوءا ويتوسع ليشمل مجموعات جديدة .
تحتاج ميانمار إلى اتخاذ موقف حازم في مجال حقوق الإنسان والتعددية والأمن لجميع مواطنيها وتعزيز سيادة القانون، و على مستوى أساسي أكثر أن تعترف بوجود ومعاناة الروهنجيا . عندها فقط يمكن التعرف على ميانمار الديمقراطية على أنها شرعية في نظر المجتمع الدولي و شعبها .