بقلم: عماد عريان
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
من المبكر جدا إصدار حكم قاطع على التصريحات التي وجهتها صاحبة نوبل للسلام« أونغ سان سوتشي» الزعيمة الفعلية لدولة ميانمار في أقصى شرق آسيا، حول حقيقة المشكلة المتفجرة مع مجموعة «الروهنغيا» المسلمة في بلادها، فبرغم أنها حملت في طياتها بعض مؤشرات التراجع عن مواقفها الشخصية وتوجهات بلادها السابقة؛ إلا أن التحليل النهائي للمواقف الجديدة يفتح الباب أمام احتمالات عديدة، لعل في مقدمتها أن تلك التصريحات يصعب إدراجها في خانة التحولات «الاستراتيجية» وأن الأصح اعتبارها من نوعية الخطوات أو التصرفات «التكتيكية» الحتمية لمواجهة ظروف طارئة وغير مرغوبة.
ولا شك في أن التهديد الصريح الذي وجهه الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش لدولة ميانمار وعلى رأسها «الزعيمة» أونغ سان سوتشي بحتمية التراجع عن سياسات التطهير العرقي التي تمارس ضد أقلية الروهنغيا المسلمة واعتبار كلماته بمثابة الإنذار الأخير قد لعب دورا حاسما في زيادة الضغوط الدولية والإقليمية المكثفة على ميانمار واضطرارها إلى «التراجع» على لسان زعيمتها سان سوتشي بعد صمت طويل ورفض عنيف للاتهامات الدولية، حيث أعلنت في خطابها المتلفز إلى العالم قبل أن يكون موجها إلى الداخل فقط إن الحكومة مستعدة لبدء عملية التحقق بهدف إعادة أي لاجئين يرغبون في العودة إلى ميانمار بعد فرارهم إلى بنغلاديش، وبدء عملية التحقق في أي وقت.
ويشار إلى أن الخطاب هو الأول لسوتشي منذ اندلاع أعمال العنف في غرب ميانمار الشهر الماضي، ما أدى إلى فرار نحو نصف مليون من مسلمي الروهنغيا إلى دولة بنغلاديش المجاورة وزعمت خلاله أن هناك ادعاءات وادعاءات مضادة، ويجب الاستماع إليها جميعا، وفي مواجهة الانتقادات المتزايدة أكدت إدانتها جميع انتهاكات حقوق الإنسان وأعمال العنف غير المشروعة ودعت سوتشي الدبلوماسيين الأجانب لزيارة ولاية أراكان المضطربة، حيث زعمت أن معظم القرى لم تتأثر بالعنف (على عكس الحقائق الميدانية التي رصدتها تقارير عديدة) وقالت إن الأغلبية لم تنضم إلى موجة النزوح الجماعي، ومن الضروري معرفة لماذا يحدث هذا النزوح(!)، وتناولت سوتشي الانتقادات بشكل غير مباشر، وأكدت أن ميانمار لا تخشى التحقيق الدولي، إلا أنها ترى أنه من المحزن أن الدبلوماسيين الأجانب في ميانمار رغبوا مؤخرا في التركيز على«عدد قليل جدا من مشاكلنا» برغم «إننا ديمقراطية شابة وهشة تواجه الكثير من المشاكل» وزعمت سوتشي أنه « لا يوجد أي نزاعات أو عمليات تطهير عسكرية ، لذا فمن غير الواضح سبب هروب المسلمين وأن حكومتنا تبذل كل جهد لتعزيز السلام والاستقرار ولم نتهاون أبدا في مجال حقوق الإنسان في البلاد» كما طالبت أيضا بالتحلي بالصبر في حل الأزمة الحالية.
تلك التصريحات المهمة من جانب زعيمة ميانمار ما كان لها أن تصدر لولا الموقف الدولي المتصاعد ضد ميانمار مثلما سبقت الإشارة وتبني العديد من المنظمات والهيئات والمؤسسات العالمية مواقف ناقدة بشكل حاد لسياسات التطهير العرقي والمذابح التي يتعرض لهم مسلمو الروهنغيا وحرق قراهم وديارهم على أيدي القوات الحكومية مما اضطرهم للهجرات الجماعية وسط ظروف أمنية وإنسانية في غاية الخطورة بحثا عن النجاة ومأوى يقبلهم بشكل عاجل في بنغلاديش والهند وإندونيسيا وأستراليا وماليزيا مما جعل هذه البلاد ذاتها تتذمر بشدة وتعلن عن مخاوفها الجسيمة من تلك القنبلة الموقوتة التي تشكل خطرا أمنيا عليها – من وجهة نظرها – مما دفع بعضها إلى فرض قيود أمنية عليهم كالهند أو عرض مبالغ مالية ضخمة لكل لاجئ روهنغي يعود لدياره أو رفض استقبالهم بأعداد كبيرة مثلما حدث في بنغلاديش وماليزيا في مشاهد مماثلة لتلك التي حدثت مع اللاجئين السوريين عندما تدفقوا على دول أوروبية في العامين الأخيرين هربا من المعارك والحرب الأهلية أو تلك المرتبطة بمآسي الهجرة غير الشرعية عبر مياه البحر المتوسط، وليس خافيا أن شعب الروهنغيا ظل لفترات طويلة جزءا من مأساة « شعوب القوارب» التي ضربت آسيا لسنوات طويلة في العقود الماضية.
هذه المشاهد وممارسات العنف الممنهج جعلت مأساة الروهنغيا في الأسابيع الأخيرة في صدارة الأحداث الدولية باعتبارها قضية خطيرة تهدد السلم والأمن الدوليين، ولم يحل تصاعد قضايا وأزمات عالمية أخرى، وعلى رأسها بالقطع الأزمة الكورية الشمالية الملتهبة والمأساة السورية ومؤشرات تمزق العراق، دون مزاحمة مأساة الروهنغيا لهذه الأزمات الكبرى وباتت بالفعل ضيفا دائما لنشرات الأخبار العالمية وصدارة الصحف في كل أصقاع الأرض، ومن ثم لم يكن من غير الطبيعي غداة انطلاق أعمال الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة أن تحتل مأساة الروهنغيا مكانة متقدمة في كلمات الرؤساء والقادة والزعماء الذين تحدثوا في هذا التجمع الدولي المؤثر مطالبين بضرورة وقف «المذابح» والتطهير العرقي والبحث عن حلول دائمة لتلك المشكلة، مؤكدين في الوقت ذاته ضرورة تبني موقف دولي صارم في حالة استمرار ميانمار بنهجها المتطرف.
وتعد مأساة الروهنغيا من الأزمات شديدة التعقيد لجملة من العوامل السياسية والتاريخية والدينية، ويوصف مسلمو الروهنغيا الذين يعيشون في محيط «بوذي» رافض لهم بأنهم أكثر شعب مضطهد في العالم وسبق أن وصفت متحدثة باسم الأمم المتحدة وضع الروهنغيا بأنهم تقريبا «أكثر شعب بلا أصدقاء في العالم» إذ إنهم يواجهون الرفض من وطنهم ، ويرفض نظام ميانمار منحهم الجنسية ولا ترغب الدول المجاورة في إيوائهم ، وهم أقلية بلا دولة أرهقها الفقر ولا يزالون يفرون من ميانمار منذ عقود، ويؤكد مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إن ما يواجهه أفراد الروهنغيا يبلغ حد الجريمة ضد الإنسانية على حد وصفه ، بينما يرى باحثون آخرون أنهم أكثر الأقليات تهميشا في ميانمار، ولكن وسائل الإعلام تتجاهلهم وتتعاطف فقط مع طرف واحد، ولا يزال مئات الآلاف منهم يعيشون في مخيمات بالية حيث لا يستطيعون السفر بسهولة، ولم يتغير شيء بالنسبة لأوضاع الروهنغيا بعد تولي حزب أون سان سوتشي للسلطة في انتخابات تاريخية فتح فيها المجال لأول مرة للتنافس بعد 25 عاما، وأدى عدم تنديد سوتشي بموجة العنف الحالية إلى إثارة الغضب، إلى حد اتهامها بالتستر على جرائم يرتكبها الجيش في بلادها .
البعد الآخر للمأساة الراهنة يكمن في الطبيعة الشمولية للنظام السياسي في ميانمار حيث هيمنت المؤسسة العسكرية على البلاد لسنوات طويلة ولاتزال متغلغلة ونافذة، ودفعها ذلك إلى محاولة تصدير المشكلة للعالم على أنها حرب ضد «الإرهاب» .
ومن الواضح أن دولة ميانمار قد فشلت تماما في تسويق مزاعمها بشأن دمغ الروهنغيا بـ « الإرهاب» ولم تصمد أمام الهجمات والانتقادات المتتالية من جانب المجتمع الدولي، الأمر الذي دفع أونغ سان سوتشي للتراجع الشكلي أمام شاشات التلفزة، أما التراجع الفعلي فلن يتحقق إلا بتسوية عادلة تمنح هذه الطائفة المتمايزة عرقيا ودينيا حقوقها المشروعة بدون قهر أو قمع أو حرمان وإكراه على الهجرة ومغادرة الديار، وإلى أن يتحقق ذلك ستظل الأوضاع فوق سطح صفيح ساخن.