بقلم: عصام يوسف
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
تلقي أزمة لاجئي الروهنغيا بظلالها الثقيلة على مجمل عناصر المشهد الإنساني الذي كشف حالة من الضعف المزمن لا يزال يعيشها المجتمع الدولي تجاه رفع قدرته في الاستجابة العاجلة لتلبية النداء الإنساني الطارئ، ولدافعية أطراف المنظومة الأممية في إحداث التغيير الإيجابي نحو إغاثة المنكوبين والتخفيف من آثار الأزمة.
ويتشكل المشهد الإنساني المرير مع حالة الارتباك التي تعيشها مؤسسات الأمم المتحدة الإنسانية، والتي تعكس سياسة عدم الاكتراث التي تمارسها دولٌ عظمى، ليبرز في مجمل ملامح المشهد حجم "التراخي" الدولي في التعامل مع مأساة الإبادة التي يتعرض لها المدنيون الروهنغيا، يقابلها صمت شبه مطبق على المستوى الرسمي الإسلامي، أسهم في تفاقم المأساة الإنسانية.
ومع تجلي الصورة الكارثية لما يعانيه الروهنغيا من قتل وتشريد وحرق للمنازل واغتصاب للنساء، أمام الرأي العام العالمي، باتت العديد من الحكومات، تبحث لها عن مبررات، تسعى لإسباغها بشيء من المنطق للتملص من المسؤولية الأخلاقية تجاه دماء الأطفال والنساء والشيوخ التي تراق بالجملة وبشكل يومي، لإقناع شعوبها بصواب موقفها "الحيادي" إزاء الإجرام بحق الأبرياء في ذلك البلد الآسيوي الذي خرج حديثاً من حكم العسكر إلى فضاءات "الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان" المزعومة.
ومن التبريرات ما اتخذ طابعاً "ميكافيلياً" يعطي الحق لحكومة ميانمار وجيشها وشرطتها ارتكاب الجرائم بحق الأبرياء من الروهنغيا بحجج مكافحة مسلحين منهم اضطروا لحمل السلاح بعد عقود من القتل والقهر والظلم وإنكار للوجود والهوية، وبدعاوى تطبيق السلطات الميانمارية للقانون لحفظ الأمن، ولعله ذات القانون الذي جرد الروهنغيا من الهوية والكينونة الوطنية، وجعلهم غرباء في بلدهم، لا يحظون بأية حقوق، إضافة لما يمارس بحقهم من تمييز عنصري.
وما يبطل دعاوى الإقصاء والطعن في الانتماءات الوطنية للروهنغيا، سجلهم التاريخي الذي يسرد حالة تجذرهم في أرضهم، وإسهامهم في صناعة حضارتها ومدنيتها، كما يسرد في الوقت ذاته حروب الاقتلاع والاجتثاث التي تعرضوا لها على أيدي مدعي القومية، والتطرف الديني البوذي، فبحسب ما أوردت منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان" في تقريرها عام 2013، فقد "فر ما بين مايو 1991 ومارس 1992 أكثر من 260,000 من الروهنغيا خارج البلاد, بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي قام بها الجيش الميانماري من مصادرة الأراضي والسُخرة والاغتصاب والتعذيب, انتهاءً بالإعدامات دون محاكمة".
وفي عام 2012, فرّ نحو 140,000 من الروهنغيا تقريبًا, من شمال غرب ميانمار, عقب اشتباكات دامية مع الأغلبية البوذية، وبتحريض من مجموعة من الرهبان البوذيين عُرف عنهم تقديم المبررات لجرائم سفك دماء المسلمين، حيث اتخذت دعوات التحريض طابعاً أشد دموية في العام الحالي، خاصةً مع ورود الأنباء عن إبادة الآلاف على أيدي قوات الجيش الميانماري، وأفراد الأمن، وفرار ما يقرب النصف مليون من الروهنغيا من أماكن سكناهم إلى دول الجوار.
ومما زاد الطين بلة، إدارة دول الجوار ظهرها للاجئين الذين ينشدون المأوى، بعدما قامت دول كماليزيا وإندونيسيا بإبعاد مئات الروهنغيا الفارّين إليهما متذرعين بضعف الإمكانات المادية، كما أجبر رهبان بوذيون وقوميون متطرفون العشرات منهم على الفرار من ملجأ للأمم المتحدة في العاصمة كولومبو، ناهيك عن موقف بنغلاديش صاحبة النصيب الأكبر من اللاجئين فإن مسؤوليها يعبرون بشكل صريح عن نية حكومتهم إجلاء الآلاف من الأسر الروهنغية عن المخيمات الحدودية التي نزحوا إليها منذ عقود، في ظل المصاعب الاقتصادية الهائلة التي تواجهها البلاد، وحجم الكثافة السكانية الكبير الذي تعاني منه.
وتزداد معاناة الروهنغيا أمام معادلة المصالح السياسية والاقتصادية بين الدول، حيث أحجم العديد من رؤساء الدول والحكومات عن التفوه بكلمة حق تدعو لوقف المأساة، فضلاً عن الإحجام عن تقديم الدعم الإنساني، أو في بعض الأحوال تقديم ما لا يوازي حجم الكارثة، وبما لا يليق بدور هذه الدول ومكانتها، لتضيع دماء الروهنغيا كـ "فرق حساب" بين دول لا تكترث بالمتاجرة بالدماء إذا تعارض ذلك مع مصالحها، بل وربما يتفق مع توجهها الإيديولوجي.
وفي الناحية الإنسانية تحديداً، لم تقم الأمم المتحدة بدور حقيقي في الضغط على حكومة ميانمار من أجل إدخال المساعدات الإنسانية إلى مناطق تواجد اللاجئين الروهنغيا، بل ومما يزيد الاستهجان شيوع أنباء تفيد بأن رئيسة البعثة الأممية في ميانمار حاولت منع مدافعين عن حقوق الإنسان من زيارة مناطق الروهنغيا.
وعلى الرغم من نفي بعثة الأمم المتحدة لهذه الأنباء، إلا أن تحقيق لشبكة بي بي سي BBC، في سبتمبر الماضي، أكد على لسان مسؤول أممي بأن الكندية ريناتا لوك-ديسالين، حاولت أيضا إغلاق التحقيق العلني في القضية، والعمل على عزل العاملين الذين حاولوا التحذير من احتمالية حدوث تطهير عرقي، وذلك قبل اندلاع حملة الإبادة الحالية.
هذه الشبهات، فضلاً عن الأداء المتواضع للمنظومة الدولية دفع بمؤسسات إغاثة دولية، من أبرزها (كير) الدولية و(أوكسفام) وهيئة إنقاذ الطفولة إلى إصدار بيان، الشهر الماضي، أعربت فيه عن قلقها المتزايد من "القيود المشددة على الدخول إلى أراضي ميانمار لأغراض إنسانية ومن العراقيل أمام تسليم مساعدات إنسانية ضرورية بشدة في جميع أنحاء ولاية (أراكان)".
ليس المقصود مما نقوله التحامل على مؤسسات الأمم المتحدة، أو إنكار دورها بشكل تام، مع يقيننا الكامل بأن المنظومة الدولية تتألف أساساً من دول العالم، بينما تتحكم بدفة الإدارة فيها دول كبرى كرست نفسها كصانعة للقرار الدولي، ولكننا ندعو في الوقت ذاته إلى النظر بعين الرحمة والرأفة لعذابات الأطفال والنساء والعجزة من اللاجئين والنازحين الذين يفتقر مئات الآلاف منهم للغذاء والمأوى والخدمات الطبية.
والمطلوب اليوم، وبشكل عاجل جهوداً أمميةً أكبر لإجبار حكومة ميانمار على تسهيل عمل المؤسسات الإغاثية، والسماح بحرية الحركة والعمل للمنظمات الإنسانية داخل الأراضي الميانمارية، إضافة لتعاون أكبر من جانب حكومات دول الجوار التي لجأت إليها الأسر الروهنغية من أجل تسريع تنفيذ المشاريع والبرامج الإغاثية، وكذلك تسهيل عبور الطواقم الإغاثية التابعة للمؤسسات الإنسانية لأداء عملها بشكل أفضل، وإلا فإن تأخير وصول الدعم الإنساني والاحتياجات الأساسية يعني تدهور الوضع الإنساني للاجئين، وازدياد الاحتمالات لحدوث ما لا يحمد عقباه.