وكالة أنباء أراكان ANA:
على أكثر من نحو قرن، وبدرجات متفاوتة، لا تزال آسيا تعيش مع تركة الاستعمار الملوثة. ولنتأمل المناقشة الجارية الآن في ميانمار ــ أو بورما كما يسميها البعض لأن اللسان الإمبراطوري وجد صعوبة في نطق كلمة "ميانمار"، فقرر سادة البلاد البريطانيين الذين لا يعرفون الهزل إعادة تسميتها بورما وإعادة رسم حدودها أيضاً من منطلق حسن التدبير ثم التصق بها الاسم الجديد إلى أن قرر النظام العسكري الذي حكم البلاد لعقود من الزمان استعادة الاسم الأصلي في عام 1989.
ولكن من عجيب المفارقات أن المعارضة الديمقراطية التي بدأ تمكينها حديثاً ترغب في العودة إلى مسمى بورما، معتبرة مسمى "ميانمار" رمزاً للدكتاتورية التي يرغبون في تجاوزها إلى الأبد ولكن لا أحد يستطيع أن يمحو الماضي حقا حتى أن "ماو تسي تونج"، رغم كل الغضب الذي أطلق له العنان أثناء الثورة الثقافية في الصين، لم يتمكن من جعل التقاليد والثقافة والعادات والأفكار القديمة تختفي.
وسواء استخدمنا كلمة "يانجون" أو "رانجون" لوصف عاصمة ميانمار/بورما، فإن المكان يظل هو ذاته الذي أطلق عليه كاتب أدب الرحلات البريطاني نورمان لويس حيث وصف "عاصمة إمبراطورية فخيمة مستقيمة الخطوط... بناها أناس رفضوا التوصل إلى حل وسط مع الشرق". وبطبيعة الحال، كانت رانجون التي بناها البريطانيون بمثابة الرد من جانب المستعمر الفيكتوري على ما أسماه لويس "أمجاد مالاداي الواهية". وعلى حد تعبيره فإن هذه الأعمدة الضخمة ترتفع الآن بكرامة بالية بين كلاب تفتش في القمامة وأجساد شعثاء متمددة على الأرض عند قواعدها.
والآن بعد أن تحولت ميانمار/بورما إلى مقصد للمستثمرين في الأموال الساخنة على مستوى العالم، فإن الشيخوخة الإمبراطورية التي وصفها لويس سوف تتحول قريباً بلا أدنى شك، وسوف يُهدَم السحر القديم للماضي المتلاشي من أجل التجارة الحديثة.
إن هذه الأرض المطمئنة التي احتوت إيماناً لا يحده زمان، والتي تشرف عليها تماثيل بوذا من أرض الأنهار والغابات العميقة والياقوت الأحمر بلون الدماءباتت الآن معروضة على المستثمرين الدوليين.
وترى زعيمة المعارضة الحائزة على جائزة نوبل للسلام أون سان سو تشي، والتي عانت طيلة عقدين من الزمان من عذابات السجن والإقامة الجبرية، أن البلاد لابد أن تطمح إلى ما هو أبعد من مجرد الثراء إذا كانت حقاً راغبة في التغلب على عقود من سوء الحكم العسكري وتقول : إنها تحتاج إلى فكرة ثورية تبدل الواقع وتحوله.
ولا شك أن هذه الفكرة تتلخص في الديمقراطية، وهي حقاً فكرة جديدة تماماً على ميانمار/بورما، لأن البريطانيين مارسوا أقل القليل منها عندما حكموا البلاد، كما يوضح لنا جورج أورويل في كتابه "أيام بورمية" .
منذ استردت أون سان سو تشي حريتها، عملت على تحرير مواطنيها من الخوف بالاستعانة بالقوة الكامنة في هذه الفكرة والمثال الذي ضربته بنفسها ففي عبارة لا تُنسى قالت: "ليست السلطة هي التي تُفسِد، بل الخوف. فالخوف من فقدان السلطة هو الذي يفسد هؤلاء الذين يمارسونها، والخوف من سوط السلطة هو الذي يفسد أولئك الخاضعين لها". وبالبناء على القوة الكامنة في هذه الفكرة، احتضنت ميانمار/بورما الإصلاح الديمقراطي وتخلصت من عزلتها الدبلوماسية والاقتصادية.
وبإطلاق سراح أون سان سو تشي، وتبني التحول الديمقراطي، نجحت حكومة الرئيس ثين سين في تحويل صورة البلاد تماما.
والواقع أن التقرب من أون سان سو تشي والتودد إليها، كما فعل حكام فترة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مع نيلسون مانديلا، كان قراراً جوهريا ولكن الأمر الذي أصاب العديد من المراقبين بالدهشة كان وتيرة التغيير.
على سبيل المثال، كان وقف إطلاق النار مؤخراً بين الحكومة والمتمردين الكارين بمثابة التجسيد للتقدم الذي ما كان لأحد أن يتصوره ببساطة قبل عام واحد وتبرر التطورات الأخيرة السياسة التي انتهجتها الهند منذ فترة طويلة في مشاركة ميانمار، الدولة التي تشكل أهمية استراتيجية واقتصادية كبرى بالنسبة لها من حيث التجارة، والنقل، والطاقة، والأمن. والمشاركة هي السبيل إلى إقامة علاقات حيوية بين ميانمار وجنوب وشرق آسيا.
والواقع أن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، وتعليق حظر الاستثمار الأميركي، يشير إلى أن التحول بدأ بالفعل ولكن اليابان الآن هي التي تتولى العبء الأكبر في تحديث اقتصاد ميانمار فاليابان تقدم مساعدات حكومية هائلة، وتذكرنا مشاركة القطاع الخاص الياباني هناك باستثمارات اليابان في الصين في أوج قوتها الاقتصادية في ثمانينيات القرن الماضي.
ويبدو أن اليابان لا تعمل استناداً إلى أسباب تجارية فحسب، بل وأيضاً بما يتفق مع مصالحها الاستراتيجية.
إن اليابانيين، مثلهم في ذلك كمثل ثين، راغبون في رؤية ميانمار وقد حولت توجهها الدبلوماسي بعيداً عن الصين.
والواقع أن العديد من اليابانيين، الذين دمر أسلافهم ميانمار في الحرب العالمية الثانية، يُظهِرون الآن عاطفة رومانسية نحو ميانمار ويتذكر يوهي ساساكاوا من مؤسسة نيبون كيف كان يأكل الرز المشحون من ميانمار في السنوات العجاف بعد الحرب في اليابان.
ويقول ساساكاوا: "لقد تأخرنا حقاً في احترام التزامنا برد الجميل إلى ميانمار".
وهنا كانت الهند بطيئة في الانضمام إلى السباق على فرض النفوذ. فقد زار رئيس وزراء الهند ميانمار، ولكن من دون خطة واضحة للمشاركة، رغم أن تنمية المنطقة الغربية من ميانمار من شأنها أن تعزز اقتصاد المناطق الحدودية مع الهند.
وهذه الفرص متوفرة لأن حكومة ثين كانت حريصة على إبعاد نفسها عن الصين، التي كانت لفترة طويلة بمثابة الراعي الرسمي للنظام العسكري وكان الشعور السائد بين أهل بورما العاديين بأن الصين كانت تنهب موارد البلاد وخيراتها سبباً في انطلاق ردود أفعال عنيفة مناهضة للصين، بما في ذلك المشاكل المتصلة بمنجم النحاس في مونيوا وإلغاء مشروع سد ميتسون الكهرومائي.
ويقول جون بانج، كبير المسؤولين التنفيذيين في مؤسسة كاري، وهي المنظمة البحثية التي تتخذ من ماليزيا مقراً لها، إن بورما/ميانمار الانتقالية اليوم هي عبارة عن "لعبة تخلت عنها الصين". بيد أن خسارة الصين تُعَد مكسباً لبورما ــ وجنوب آسيا ــ بصرف النظر عن المسمى الذي قد يختار ثين أو خلفاؤه المنتخبون ديمقراطياً إطلاقه على البلاد