بقلم: كرم سعيد*
وكالة أنباء أراكان ANA | مقالات أون لاين
قطعت ميانمار شوطاً معتبراً على صعيد الإصلاحات بعد خمسين عاماً من الحكم العسكري، الذي ظل يمسك بمفاصل الدولة منذ عام 1962؛ إذ شهدت تحولات سياسية متتابعة أبعدتها عن أنماط الحكم السلطوي، وأنتجت ترتيبات جديدة لإدارة العلاقة بين الدولة والمواطن، اتسمت بالانفتاح النوعي سياسياً واقتصادياً
غير أن ذلك لم يترافق مع وقف انتهاكات حقوق الإنسان، وهو الملف الذي بات يمثل أحد أهم العقبات التي تقف أمام استمرار عملية التغيير في ميانمار؛ إذ تواجه أقلية «الروهنغيا» المسلمة أنماطاً مختلفة من الاضطهاد والتمييز.
الانتهاكات المتواصلة ضد المسلمين، دفعت الأمم المتحدة في 6 فبراير/ شباط الجاري لاتهام قوات الأمن في ميانمار بارتكاب خروق مروعة قد ترقى إلى «جرائم ضد الإنسانية» في إقليم أراكان «راخين»، غربي البلاد.
وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، إن «السلطات الأمنية في ميانمار ارتكبت خروقاً جسيمة لحقوق الإنسان في «أراكان» اشتملت على جرائم قتل واغتصابات جماعية، واختفاء قسري، قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية».
وعاد مشهد التطهير العرقي في ميانمار إلى دائرة التجاذب والتأزم على خلفية تجدد أعمال العنف مطلع فبراير الجاري، في إطار حملة التطهير، التي يشنها جيش ميانمار لمكافحة ما سماه التمرد ضد مسلحين من الروهنغيا هاجموا نقاطاً حدودية للشرطة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
سلوك حكومة ميانمار الخشن، ورفضها اتهامات ارتكاب جيشها لفظائع ضد أقلية الروهنغيا المسلمة، وتعصب الراديكاليين البوذيين تجاه الأقلية المسلمة «الروهنغيا»، أثار غضب قطاعات دولية معتبرة، فعلى سبيل المثال وجه البابا فرنسيس، عشية تقرير صادر عن الأمم المتحدة انتقاداً لاذعاً للأعمال الوحشية، التي ترتكب بحق مسلمي الروهنغيا، وقال إنهم «تعرضوا للتعذيب والقتل، بسبب معتقداتهم الإسلامية»، في المقابل اتهمت ماليزيا الحكومة في بورما بشن حملة تطهير عرقي ضد تلك الأقلية في ولاية «أراكان»، مؤكدة أن مئات الآلاف من مسلميها فروا إلى الدول المجاورة، بمن فيهم 56 ألف شخص إلى ماليزيا وحدها.
تجاوزات حكومة ميانمار وصلت الذروة، عندما طبقت الحكومة منذ عام 1989 سياسة تغيير مسميات الأماكن والمعالم البارزة والتاريخية في «أراكان» للتأثير على وضع المسلمين في البلاد، والتشكيك في حقهم الثابت بهذه الأرض. هكذا يرزح مسلمو ميانمار بين مطرقة الدولة، التي تغض الطرف عن أوضاعهم المعيشية، وتستنكر في الوقت نفسه النقد الموجه لها جرّاء الصمت على مذابح المسلمين، وسندان الجماعات البوذية المتطرفة التي تنظر بعين الشك والريبة لمسلمي الروهنغيا.
والواقع أن التمييز ضد المسلمين في إقليم «أراكان»، ليس وليد اليوم، فهو مستمر منذ سنوات طويلة، فـ«أراكان» كانت دولة مسلمة منذ القرن السابع الميلادي، ثم احتلتها بورما ذات الأغلبية البوذية سنة 1748 وخلال الأشهر الأخيرة كانت صور المذابح ضد الأقلية المسلمة تملأ الشاشات، وتلقي بمزيد من الشك على محاولات الإصلاح فيها.
وفي سياق متصل، فإن اضطهاد مسلمي ميانمار ليس جديداً، فقد بدأ منذ مطلع أربعينات القرن الماضي على يد البوذيين «الماغ»، وازدادت أحوال المسلمين مع وصول الجنرال «ني وين» إلى السلطة عام 1963، وسط موجة من النزعة القومية، فتعرضوا للتهميش والإقصاء، وطردوا من الجيش، ناهيك عن أن البوذيين وهم الأغلبية الدينية في بورما وصفوا المسلمين بأنهم يعدون «قاتلي البقر ».
توجهات حكومات ميانمار العسكرية والمدنية نحو المسلمين كرست صورة ذهنية سلبية للمسلمين في وعي غالبية السكان البوذيين، فتصاعدت عمليات القتل والتشريد والتضييق الاقتصادي على المسلمين، بزعم مشابهتهم للبنغال في الدين واللغة والشكل.
وعلى الرغم من تواري عسكر ميانمار عن المشهد، إلا أن عمليات التهجير الجماعي للمسلمين ما زالت على أشدها، فضلاً عن محاولات طمس الهوية، ومحو الآثار الإسلامية؛ وذلك بتدميرها. وفي عام 2012 دخل المناخ مرحلة الشحن بين الحكومة في ميانمار ومسلمي إقليم أراكان (راخين) بعد تصاعد العنف بين البوذيين والمسلمين، ما تسبب في مقتل مئات الأشخاص. وأسفرت أحداث العنف الممنهج ضد مسلمي الروهنغيا، وكذلك أقلية «كامان» المسلمة عن حرق قرى بأكملها، إضافة إلى عشرات القتلى والدفع بالآلاف المدنيين إلى الفرار من المناطق المنكوبة، ليصل عدد المهجرين قسراً منذ بدء التوتر إلى أكثر من 100 ألف مسلم معظمهم قد علقوا على الحدود مع بنغلاديش الجارة المسلمة، التي ترفض استقبالهم.
المجازر سيل لا يتوقف ضد المسلمين في ميانمار، ففي عام 1997 وقعت مجزرة، على يد البوذيين، الذين تجمعوا وهتفوا بشعارات مضادة للمسلمين، واستهدفوا في هجومهم المساجد أولاً، ثم تلاها ممتلكات للمسلمين من منازل ومتاجر وعربات نقل في الأماكن القريبة من المساجد. وتسبب رهبان البوذية في مذبحة أخرى عام 2001، حين وزعوا في الأقاليم والمدن كتيباً يسمى: «الخوف من ضياع العرق» وغيرها من المنشورات المناهضة للإسلام، وطالبوا بتدمير مساجد المسلمين، واندلعت أعمال شغب بينهم في مدينة «توانجوا»، وأسفرت عن مقتل 200 مسلم، وإحراق نحو 11 مسجداً.
يشكّل المسلمون في ميانمار ما نسبته 4% من السكّان؛ وذلك حسب الإحصائيات الرسميّة الصادرة عن حكومة بورما، بينما تشير مصادر غير رسمية إلى أنّ نسبة السكان غير البوذيين في البلاد أعلى بأضعاف المرات من النسب التي تُقدمها الحكومة، ويتراوح عدد المسلمين في بورما بين 5 إلى 8 ملايين مُسلم من أصل نحو 55 مليون نسمة من السكان.
يتركّز المسلمون في ميانمار تحديداً في ولاية أراكان «راخين» الواقعة غرب البلاد على الحدود مع بنغلادش، وينتمون إلى قبائل الروهنغيا، وهي مناطق فقيرة ومهمشة، وتفتقر إلى أبسط شروط الحياة الآدمية.
ولا تقتصر معاناتهم على هذا وحسب، فهم بحكم اللوائح والقوانين البورمية يحرمون من الجنسية؛ إذ ينص قانون الدولة حول الجنسية الصادر في عام 1982 على أن المجموعات العرقية التي تثبت وجودها على أراضي ميانمار قبل 1832 هي وحدها التي يحق لها التمتع بجنسية البلاد وامتيازاتها، وهو شرط لا ينطبق كما تدعي السلطات الرسمية على مسلمي الروهنغيا. وبموجب هذا القانون تعد ميانمار «الروهنغيا» مهاجرين غير شرعيين من بنغلاديش، بينما تصنفهم الأمم المتحدة بـ«الأقلية الدينية الأكثر اضطهاداً في العالم ».
في هذا السياق العام ظلت أقلية «الروهنغيا» المسلمة محرومة من المساعدات الحكومية؛ إذ يعيش أكثر من 44% من أفرادها تحت خط الفقر ناهيك عن خضوعها منذ عقود لقيود على تنقلاتها، وإجبار أفرادها على العمل بالسخرة.
القصد أن صورة ميانمار الرومانسية في الذهنية العالمية تحت زعامة أونغ سان سو كي الحائزة على «نوبل للسلام» تتعرض اليوم للتشكيك والتشويش، لاسيما أنها تنفي التجاوزات ضد الروهنغيا.
إذا لم تتوقف المذابح وسياسات الاضطهاد بحق المسلمين، فإن زهور الربيع التي تفتحت قبل ست سنوات، بعد اختيار الرئيس «ثين سين» في انتخابات شفافة جرت وقائعها في إبريل/نيسان 2011 ستكون أشبه بورود عديمة الرائحة.
* صحفي بالأهرام