[caption align="alignleft" width="300"]ميانمار ومحنة المسلمين...ديسموند توتو[/caption]
في ميانمار تحيل كلمة «كولار» على سبة ذميمة عادة ما تستخدم ضد المسلمين، بحيث يمكن رؤيتها في المطبوعات المختلفة التي تستهدف عرقية "الروهينجا"، باعتبارها أكبر أقلية مسلمة في البلاد، تلك المطبوعات التي تطالب ضمن أشياء أخرى بمنع المسلمين من دخول المدن، أو بطرهم تماماً من البلاد، والأسوأ من ذلك المطالبة بقتلهم جميعاً.
ولأن كلمة "كولار" تعني في اللغة المحلية "صاحب البشرة الداكنة"، فإني أعرف جيداً ما تحمله من مدلولات، لكني أعرف أيضاً مثل الملايين غيري في جنوب أفريقيا أن هذا التمييز لن يُكتب له الاستمرار طويلاً، وأن مآله الزوال والاندثار، ذلك أن الله لم يخلق عباده لإبداء الكراهية تجاه بعضهم بعضاً، والتعبير عن حقد دفين إزاء شرائح مختلفة من المجتمع، أو البشرية.
وأعرف جيداً أيضاً من وحي تجربتي الشخصية في جنوب إفريقيا أن بلداً ما لا يمكنه أن ينعم بالازدهار والحرية إلا إذا كان في سلام مع نفسه، وأياً كان البلد، سواء جنوب أفريقيا أو ميانمار، يحب جميع أبنائه ويحرص على التعامل معهم بسواسية، وأعتقد أن كل بلد على وجه البسيطة عليه العمل بكل جد لتحقيق هذا الهدف المتمثل في التصالح مع الذات، والعيش بسلام مع النفس، لذا علينا ونحن نشيد بتجربة ميانمار الحديثة في الانفتاح السياسي والديمقراطي، أن نتوخى أعلى درجات الحذر والتحفظ ما دام سكانها الأكثر فقراً وهشاشة، مثل الروهينجا محرومين من الأمن والكرامة.
فخلال زيارتي الأخيرة إلى ميانمار عاينت بنفسي عدداً من التطورات المهمة والإيجابية التي أثنى عليها العديد من المراقبين حول العالم، كما التقيت عدداً من المعتقلين السياسيين الذين أطلق سراحهم من قبل الحكومة الجديدة بعد عقود من الاعتقال على يد الطغمة العسكرية التي حكمت البلاد، وكنت سعيداً جداً وأنا أصافح المعارضة السياسية المشهورة، "أونج سان سو كي"، التي لم تعد تحت الإقامة الجبرية، وعادت إلى الحياة السياسية تمارس دورها في البرلمان، وقد أحسست بأجواء الحرية ونحن نتجول معاً في شوارع رانجون، وخلال جولتي لاحظت أيضاً أن الخطوط الحمراء التي كانت تقيد الصحافة والرقابة المفروضة عليها قد خفت، وانطلقت المطابع في نسخ الجرائد والصحف لتشرع ميانمار المعروفة أيضاً باسم بورما في تجريب حرية جديدة غير مسبوقة لديها ولم يعهدها العديد من الشباب في البلاد.
لكن رغم هذه الإنجازات التي تحققت غادرت ميانمار بقلب مثقل بسبب ما رأيته من مظاهر الفقر والبنايات المتداعية، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي وعدم انتظامه، وفيما كنا نقود السيارة في شوارع رانجون اضطررنا أكثر من مرة لدفع رسوم المرور المختلفة دون أن نتقلى إيصالاً واحداً بالدفع، فتساءلت كيف يمكن سرقة أموال الناس بهذا الوضوح بدل استخدامها لتحسين أحوالهم؟ وكل ما أخشاه أن رياح التغيير في ميانمار لا تهب بتساو على الجميع، وأن بعض الفئات الفقيرة والضعيفة، ستبقى مهمشة ومقصية، وفي هذا السياق تقفز إلى السطح محنة الروهينجا، التي تعطي مثالاً واضحاً على استغلال حريات ميانمار الجديدة من قبل المتطرفين، إذ كيف يمكن التعامل مع شعب بهذه الطريقة بعد مطاردتهم وإحراق منازلهم وتعرضهم للتنكيل والقتل باسم قومية محرفة؟ ألا يدرك مقترفو العنف ضد المسلمين في ميانمار أننا ننتمي جميعاً إلى عائلة إنسانية واحدة؟
والمشكلة أن العنف الطائفي الذي كان محصوراً في السابق بولاية واحدة في ميانمار تتواجد بها كثافة سكانية من المسلمين انتقل اليوم إلى بقية أنحاء البلاد، مستهدفاً جميع المسلمين، حيث يتم قمع المظاهرات بوحشية، وتُصادر الأراضي التابعة لقرى المسلمين، لذا أدعو الله أن يتدخل الرئيس "تين سين" وزملاؤه في الحكم لوضع حد للتجاوزات وإعمال القانون ضد الجميع دون تفريق، والأهم من ذلك إبداء الإرادة السياسية الضرورية لوقف العنف ومعالجة هذه الأزمة، وإلا فإنني أخشى على مستقبل ميانمار نفسه، في ظل ما تشهده حالياً من صعود لموجة التطرف وعدم التسامح واستهداف المسلمين، فبعد فترة طويلة رزحت فيها البلاد تحت الحكم العسكري، وما تلاها من آمال عريضة في مستقبل أفضل يعيشه المواطنون تحت رياح الديمقراطية والانفتاح السياسي أخاف أن تتراجع البلاد عن الإنجازات، وتنتكس إلى الوراء بسبب ضيقها إزاء العيش المشترك واستهدافها لشريحة من المجتمع لتضيع بذلك فرصة الانفتاح على العالم والاستفادة من رياح التغيير، لكن إذا أظهرت القيادة في ميانمار إرادة سياسية جادة، ووفرت الحماية لجميع المواطنين، وضربت على أيدي المفسدين، فإنها ستتحول فعلاً إلى أرض الحليب والعسل كما عُرف تقليدياً عن البلاد.
ديسموند توتو
كبير أساقفة جنوب أفريقيا الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984