بقلم: د. محمد أحمد عزب
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
تترد على الأسماع في المأساة التي يعيشها المسلمون في تلك المنطقة النائية من قلب العالم الإسلامي كلمات (ميانمار، بورما، أراكان، الروهنغيا)، وهذه الكلمات التي ربما تختلط في ذهن من يتابع مأساة المسلمين، حقيقتها أنها أسماء لموطن
تقع فيه مذبحة من أبشع المذابح في العصر الحاضر.
ميانمار دولة تقع جنوب شرقي آسيا بالقرب من الصين والهند، كانت تحتلها بريطانيا ضمن ما عُرف بمستعمرة الهند البريطانية، وقد استقلت عام 1939م عن المستعمرة الكبرى، ولكنها ظلت تحت الاحتلال الإنجليزي، فاستقلالها كان عن المستعمرة الكبرى فقط، ثم استقلت عن بريطانيا عام 1948م، وغيّرت السلطات اسم الدولة عام 1989م من «بورما» إلى «ميانمار»، واعترفت به الأمم المتحدة بعد تغييره من قبل سلطة الدولة بخمسة أيام، ولا تزال هناك دول لا تعترف بهذا المسمى الجديد.
أما أراكان، فهي كلمة أصلها عربي تطلق على إقليم داخل دولة بورما ويقع على خليج البنغال، ويشبه في مجاورته للخليج دولة لبنان العربية على البحر المتوسط .
أما الروهنغيا، فهي كلمة اختلف المؤرخون في أصل وسبب وضعها، وقد مال بعضهم إلى أنها محرفة من كلمة “الرحمة”، حيث غرقت سفينة كان على متنها عرب مسلمون، وكان أهلها يستغيثون حال الغرق: الرحمة.. الرحمة، فأُطلق عليهم “راهام”، ثم تطور حتى صار “روهنغيا”، ولست أميل لهذا القول لأسباب عديدة، وهو ما أكده أيضاً جهير الدين أحمد، الرئيس السابق لمؤتمر مسلمي بورما، والسكرتير السابق للمؤتمر نظير أحمد، حيث جادلا بأن سلالة مسلمي حطام السفينة يطلق عليهم الآن “ثامبو كيا”، وموجودون على سواحل أراكان، لكن الروهنغيا على كل حال اسم يطلق على المسلمين دون سواهم.
دخول الإسلام أراكان
وصل الإسلام مبكراً لهذه المناطق البعيدة والنائية عن حواضر الإسلام خاصة مواطن الخلافة، ذاك أن تاريخ الإسلام في قلب العالم الإسلامي حتى المغرب، يعرف العرب عنه أكثر مما يعرفون عن وضع الإسلام بالمشرق في وسط آسيا وجنوبها، ولقد بكى المسلمون الأندلس في المغرب الإسلامي ولا يزالون، ولا تجد البكاء ذاته على حواضره التي فقدت في المشرق في الهند والصين وغيرها من المناطق.
وقد اتفق المؤرخون والكتّاب الذين أرّخوا لأراكان على أن المسلمين وصلوها عام 172هـ/ 788م عن طريق التجار العرب المسلمين، حيث كانت الملاحة البحرية يقوم بأكثرها العرب المسلمون، وكانوا ينقلون البضائع من الغرب إلى الشرق في تجارتهم آنذاك إلى بلاد الصين، وإلى الجزر التي تسمى جزائر شرق الهند، ولم تكن التجارة وحدها هي همّ التجار المسلمين، بل كان الإسلام يذهب معهم في الغدو والرواح، يستشعرون مسؤولية حق البشر في الهداية التي تحصلوا عليها، ساعين لإحراز أجر هداية الناس ما أمكن، ولا يزال وجود الإسلام في هذه المناطق وبقاء أهله عليه دليلاً دامغاً في وجه من يرى أن الإسلام انتشر بالسيف، يقول «جوستاف لبون»: «وكلما تقدمت الحضارة وتنور الناس زاد عدد المسلمين.. إن فتح الإسلام للهند لما يتم، وهو سائر، صامتاً بطيئاً، على طريقه فلم يقف تقدمه سلطان إنجلترا النصرانية»، لقد استوطن المسلمون كثيراً من الأماكن التي مروا بها تجّاراً، وأسسوا لأنفسهم المساجد التي تميّز معيشتهم، تدل على ذلك الآثار التي لا يزال بعضها قائماً.
فتحت أراكان عام 606هـ على يد قطب الدين أيبك، وكان بإمكان القائد المسلم محمد بن القاسم الثقفي (98هـ) الوصول مبكراً لهذه الديار وضمها لدولة الخلافة الأموية، حيث كان قائداً لجيشٍ أرسله الحجاج بن يوسف، وكتب هو إلى الحجاج يستأذنه في التقدم والإيغال في بلاد البنغال لفتح «قنوج»، إلا أن وفاة الحجاج، ومن بعدِه يزيد، حالت دون ذلك، فقد تولى سليمان بن عبدالملك وأمره بوقف حملته والإشخاص إليه .
من أقدم شواهد المسلمين في أراكان مسجد «بدر مقام» تم تشييده في عام 800م، وهذا يوافق تقريباً عام 183هـ ولا يزال قائماً، وقد تم ضمه مؤخراً لثكنة عسكرية لئلا يتمكن أحد من الوصول إليه تمهيداً لإزالته، يشتهر عن أهل هذه المناطق المحافظة على تعاليم الإسلام، والوقوف عند حدوده وتشريعاته، وهم سُنيون على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان مثل سائر المسلمين في القارة الهندية.
ظلت أراكان دولة مسلمة مستقلة، تناوب الملوك المسلمون على حكمها حتى سنة 1084م، وكان من أشهر من حكمها من الأمراء: محمد حنيفة، وعيسى ثو، وأمير حمزة، ثم خضعت للحكم الوراثي لأسرة «نوري» المسلمة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، واستمر الحكم في أراكان للمسلمين بين عامي 1430 - 1622م بشكل متواصل.
بداية المأساة
لم تكن هناك مشكلة في التعايش بين المسلمين وعناصر السكان الأخرى طيلة القرون التي سبقت الاحتلال الإنجليزي، وظلت العلاقة لا تشوبها الصراعات حتى القرون المتأخرة، وحين استولى الإنجليز على الهند، ولاحظوا شراسة العنصر الإسلامي في التصدي لهم ومقاومتهم، سعوا لزرع الشقاق بين السكان، وعززوا الرغبة عند البوذيين في اضطهاد العناصر المسلمة بحجة أنها دخيلة على المجتمع البورمي، وبهذا وضعوا بذور الشقاق، وغرسوا أسباب الحرب.
حين تصدّر البوذية نفسها للعالم فإنها لا تصدّر غير حديث الرحمة والتعايش وتخليص الأرواح من الشرور، لكن حديث القتل والاستباحة والسلب والنهب، فهو حديث غائب لا يعرف عنها إلا من وقف على حقيقة هذه الديانة، التي يختلط فيها الديني بالسياسي، فتجد تواطؤاً مقيتاً بين الساسة وكهنة الديانة، فعند الرهبان أن كل من لم يؤمن بالبوذية ولم يستنر بنورها فقتله مباح، وقتله حينئذ ليس قتلاً حقيقياً؛ لأنه حادِثٌ في عالم الوهم، والضحايا الذين يذبحون على أيدي الرهبان يشار إليها في اللاهوت البوذي باسم «إتشانتيكا»؛ أي: المحجوبون عن النور.
بهذا الخطاب الديني المبرِّر للقتل يدخل الساسة ورجال الدين في تواطؤ مقيت، حيث يستغل الساسة هذا في تبرير القتل؛ إذ يعتبرون الأقلية المسلمة دخيلة على أرضهم وينبغي تخليص الدولة منهم، بينما لا يعتبر البوذيون القتل جريمة بل تخليصاً للأرواح من الآثام، حتى تنتقل نقلة أخرى فيها خيرها، فيصير القتل الذي هو من أبشع الجرائم عمل خير مبرراً بحكم رجال الدين، ومما يعزز هذا عند الكهنة أسطورة بوذية قديمة يصل عمرها إلى 1000 عام تتحدث عن مملكة شامبالا (بلاد السلام) تنتصر فيها البوذية وتسود في العالم بعد أن تنتصر على الآخرين.
ولقد كتب بعض الباحثين مقالاً بعنوان “الراهب مع البنادق: اكتشاف العنف البوذي”، صور فيه الوجه الخادع لهؤلاء الرهبان.
ممارسات تحريضية
في سبيل السعي لتنفيذ تعاليم البوذية في السيطرة الكونية تبعاً للأسطورة السالفة؛ تألفت جماعات للاضطهاد وممارسة المذابح بلا خوف ضد المسلمين، مثل «جماعة الماغ»؛ حيث قامت بمذبحة كبرى ضد المسلمين في عام 1942م، راح ضحيتها أكثر من مائة ألف مسلم، وشرد مئات الآلاف، كما تعرض المسلمون للطرد الجماعي المتكرر خارج الوطن بين عامي 1962 و1991م حيث طرد قرابة مليون ونصف المليون مسلم إلى بنغلاديش.
ولم يقتصر الأمر على الجماعات، بل تعداه للشخصيات والكهنة البوذيين؛ فالراهب البوذي آشين ويراثو أو مونك فيراتو أسس مطلع عام 2013 م حركة “969”؛ وهي حركة تدعو البوذيين لمقاطعة المحلات التي يمتلكها المسلمون، وأعد قانوناً يضع قيوداً على النساء اللائي يسعين للزواج من رجال مسلمين، وقد زادت جرائمه ضد المسلمين حتى وضعته مجلة “التايم” على أحد أغلفة أعدادها واصفة إياه بأنه “وجه الإرهاب البوذي”.