بقلم : إبراهيم حافظ
وكالة أنباء أراكان ANA | خاص
أنا ياسين نور حسين .. عندي 10 سنوات .. من بلدة بولي بازار في أراكان .. أعيش حاليا في مخيمات اللاجئين في بالوخالي ببنغلاديش .. رأيت بعينيّ أمامي كيف استشهد والدي برصاص الجيش الميانماري .. لن أنسى هذا المشهد طوال حياتي .. كان طيبا وعطوفا معنا ؛ ولكننا فقدناه قبل أن نهاجر من البلد ..
ذات صباح مرعب رأينا عددا من جنود الجيش يقومون بإحراق المنازل على من فيها من الأهالي .. كان الجنود يمنعونهم من الخروج من منازلهم .. يستقبلونهم بأفواه البنادق على أبوابها .. ومن أصرّ منهم على الخروج والفرار أمطروه بوابل من الرصاص وقضوا عليه في مكانه .. أحرقوا الكثير من الأطفال الصغار .. قذفوهم أحياء في النيران المشتعلة خلال محاولتهم الهرب .. رأيت بعيني كيف يقذفون ابن جارنا في هذه النيران وهو يحاول التخلص منهم بلا جدوى .. لماذا يقسون حتى على الأطفال بهذا الشكل؟ لماذا تحجّرت قلوبهم إلى هذا الحد؟ ألأنهم يعبدون إلهاً من حجر؟!
استطعنا أن نغادر بيتنا بمساعدة من أبي .. لم يبال بحرارة النار ولا بالدخان المتصاعد بكثافة .. خاطر بنفسه وحياته لأجلنا .. أخرجنا واحدا بعد آخر من بين ألسنة النار الملتهبة .. نجونا جميعا من الموت حرقا بفضل الله ثم بفضل شجاعته الفائقة ؛ ولكنه تلقى رصاصة الغدر القاتلة في عنقه في آخر لحظة .. سقط بجسمه على الأرض مضرجا بالدماء .. أصدر ارتطامه بالأرض صوتا مخيفا .. خِلته صوت الرعد الهادر أثناء هطول الأمطار .. انتفض أبي واهتزّت أطرافه لحظات قبل أن يسلم الروح إلى بارئها ويسكن جسده تماما ..
سحبه بعض الجيران من موضعه خلسة وحفروا له ودفنوه بسرعة .. لم يغسّلوه ولم يكفّنوه ولم يصلّوا عليه ؛ ولكن أمي أخبرتني أنه الآن في الجنة .. يطير سعيداً بجناحين كبيرين .. يتنقل بهما بين البساتين والأنهار .. أخبرتني أيضا أن علينا أن نموت مثله على الإسلام ؛ كي نلتقي به هناك ..
سرنا كثيرا وطويلا .. جياعا وعطاشا تحت حرارة الشمس اللاهبة .. نقطع الحقول والمزارع .. نطأ الصخور والحصى .. نعبر الأنهار والمستنقعات .. نتخفى في الليل داخل الأحراش والغابات .. تحاصرنا أصوات مخيفة ومختلفة من كل الاتجاهات .. ننكمش ونتلاصق إلى بعضنا بحثا عن بصيص أمان .. تطاردنا الأشباح ولا ننام إلا دقائق ولحظات قبل أن توقظنا كوابيس مرعبة !
وأخيرا .. رأينا ساحل بنغلاديش منهكَين متعَبين .. بعد مشي على الأقدام لأسبوع أو أكثر .. لم نسترح .. لم نرم أجسادنا على الأرض لتستعيد قواها الخائرة ؛ وإنما ابتدأنا قصة معاناة جديدة مع إيجاد مأوى لنا وسط الأكواخ المهترئة في المخيم .. معاناة مختلفة لأجل الحصول على الطعام والشراب فقط .. لأجل البقاء على حافة الحياة .. نصطفّ ساعات طويلة لنحصل على وجبة واحدة كل يوم .. أحيانا لا تكفي الوجبة لإشباع بطوننا الخاوية على الدوام ، وربما تنتهي الوجبات قبل أن يحين دوري في الاستلام بلحظات يسيرة .. ننتظر إلى الغد على أمل الحصول على وجبة نحلم أن تكون مشبعة ..
كأننا نعيش هنا لنأكل وجبة ناقصة أو لنحلم فقط بوجبة كافية .. لا مدرسة ولا تعليم هنا .. لا ترفيه ولا تسلية .. لا شيء غير وجوه شاحبة كئيبة .. الأسى والوجوم في كل اتجاه .. الأمراض تنتشر بسرعة .. الموت يتخطّف الناس من حولنا ؛ وخصوصا الأطفال .. لا ندري متى يحين دورنا؟
اشتقت لأبي .. أريد أن أراه ، أن ألمسه ، أن أحس به ، أن أحتضنه بذراعيّ وأضمه إليّ كما كنت أفعل .. لو اشتد بي المرض واختارني الموت هذه المرة : هل يستطيع أن يقصّر المسافة التي تفصل بيني وبين أبي كي ألحق به؟ ولكن كيف تعيش أمي حينها وتصبر على فقدي بعد فقدها أبي؟ لماذا لا نستطيع أن نجتمع من جديد ونعيش مع بعضنا سعداء كما كنا قبل شهر؟ لماذا لا أجد إجابات أو مصغيا لأسئلتي؟
https://twitter.com/arakanana99/status/933256230923046912