بقلم: عباس شومان
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
بين أشجار غابات تحسبها إذا نظرت إليها من بعيد حدائق ذات بهجة غنَّاء يشفى ظلالها الوافر وهواؤها العليل آلام مَن تحتها وأوجاعه، فإذا ما اقتربت منها رأيت ما لا يسر العين، ويوجع القلب، ويزكم الأنف، وسمعت من آلام القوم وأوجاعهم ما يصم الأذن ويفتت الكبد، وعايشت في السويعات التي تقضيها معهم حالًا تعيسة بئيسة, بل لعلها الأكثر تعاسة وبؤسًا في العالم، وأدركت أن هؤلاء الروهنغيا الذين يصل عددهم إلى مليون ومائتي ألف هم البؤساء حقيقة وليس ما تناولته بعض الأعمال الأدبية التي رصدت حال البؤساء في عصر من العصور، بل إن ما استطاعت رصده بعض كاميرات الإعلام لا يمثل عُشر معشار ما هم فيه على الحقيقة في هذا المكان الذى نزحوا إليه فارين بأنفسهم ومن بقي من أهلهم وذويهم من قتل بلا رحمة وتشريد بلا شفقة واضطهاد بلا مسوغ، في أكثر صور الطائفية والعنصرية والتطهير العِرقي قبحًا وعدوانًا!
لا يمكن للكلمات أن تعبر عن مأساة هؤلاء القوم وتصف بؤس حالهم، أجسام هزيلة وأبصار زائغة مترقبة وأقدام حافية وأجساد شبه عارية وأخرى عارية تمامًا، لا يعرف القوم أيهما يسبق إليهم أهو الموت أم أهل الخير الذين يحملون بعض ما يسد الرمق من طعام، وما يضمد الجروح العضوية من دواء، وما يقي تقلبات الطقس من خيام تشترط الدولة المضيفة على من يتبرعون بها أن تكون ضعيفة لا تقوى على مجابهة الظواهر الجوية طويلًا حتى لا يركن إليها هؤلاء البؤساء ويعتبرونها مأوى دائمًا لهم!
فإذا ما تجولت داخل هذه المخيمات الهشة التي لا تكاد تقى من حر الصيف أو برد الشتاء، رأيت العجب العجاب وكيف أن هؤلاء البشر بقوا إلى لحظة رؤيتك لهم على قيد الحياة من دون توافر أدنى مقوماتها، فمتوسط الأسرة خمسة أفراد مُنحوا مساحة من الأرض تقترب من ثلاثة أمتار، وقطعة قماش بالية، وأنصاف عيدان خشبية شُد عليها الشراع الذي يسمى خيمة بحيث تجعلها مرتفعة عن الأرض نحو متر وربما أقل من ذلك، حتى إنهم مع قاماتهم القصيرة يحتاجون إلى الانحناء لدخولها، ووجدت الأرض غير الممهدة سريرهم، ولا يمكن أن تتخيل وجود شيء آخر، فأكثر من ذلك في هذا المكان يعد رفاهية بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، ناهيك بشبه انعدام المياه والصرف الصحي والرعاية الطبية، وغيرها من الأشياء التي نعدها من الضرورات التي تستحيل الحياة من دونها.
ويمكن تقريب حال هؤلاء الروهنغيا الذين استطاعوا الفرار بأنفسهم وبمن بقى من أهلهم وذويهم ولاذوا بمدينة كوكس بازار، إذا قلنا إن سكان العشوائيات وما يسمى «عشش الصفيح» في أسوأ مكان في العالم، يعدون في مستوى «خمس نجوم» بالنسبة لهؤلاء البؤساء!
هذا هو جزء بسيط من وصف حال هؤلاء الروهنغيا البؤساء الذين اضطُهدوا وعُذبوا وقُتلوا وحُرقوا وهُجِّروا من وطنهم وشُردوا في الأرض لا من جريرة سوى أنهم مسلمون، لكنهم فروا من رمضاء جيش تطهير عرقي في بلدهم ميانمار إلى حال لا تقل قسوة وضراوة وبؤسًا في مخيمات النزوح بمدينة كوكس بازار في دولة بنغلادش على الحدود مع ميانمار!
ما رأيناه فيما يسمى معسكرات حُشر فيها هؤلاء البؤساء خلال زيارتنا التي كلفنا بها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، لا يمكن لبليغ أن يصور بعضه ولو بشكل تقريبي في كلمات توقف الناس في أنحاء العالم على جزء من معاناة هؤلاء المعذبين في الأرض ومأساتهم الإنسانية، وتُشعر المؤسسات الدولية والهيئات الأممية بضرورة تحمل مسؤولياتها تجاه ما يحدث لهم من جرائم تطهير عِرقي وقتل على الهوية، خاصة تلك الهيئات التي لا تنفك تتشدق بحقوق الإنسان ومكافحة العنصرية، وتنادى بالحرية الشخصية وسطوة القانون.
لقد تفننت سلطات ميانمار في تعذيب هؤلاء القوم والتنكيل بهم، وجردتهم من أوراقهم الثبوتية وحقوقهم الملكية، ورفضت نسبتهم إلى وطنهم وكأن هؤلاء القوم الذين يزيد عددهم على المليون نسمة زرع شيطاني لا أصل له، بل جردتهم من أبسط حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة، فأعمل فيهم الجيش بطشه وجبروته فقتل منهم من قتل حرقًا أو ذبحًا أو رميًا بالرصاص، وفر منهم من استطاع الفرار محملًا بجروح وآلام داخلية وخارجية أو بعض رصاصات ما زالت في الأجساد، قاطعين مسافات يعجز عن قطعها الأصحاء، سالكين دروبًا وطرقًا وعرة يُخشى معها على الحياة، ظانين أنهم سيجدون الملاذ الآمن والمأوى الملائم والمطعم المناسب الذي يبقيهم أحياء في جارتهم الحدودية بنغلادش التي يرى أهل ميانمار أنهم ينتمون إليها في الأصل، فإذا بالجارة تضيق بهم ذرعًا، وتعتبرهم مقيمين غير مرغوب فيهم، وتشترط على من يريد مساعدتهم تقديم مساعدات مؤقتة كبعض المواد الغذائية وبعض الدواء، فإن كانت للإيواء فلتكن من نوع هش لا يمكنه الصمود طويلًا أمام تقلبات الطقس حتى لا يركن هؤلاء البؤساء للإقامة على أرضهم، ولذا يكره البنغاليون إطلاق لفظ اللاجئين عليهم ويفضلون تسميتهم بالمهجرين!
وبدلًا من تحرك الضمير الإنساني وأحرار العالم لمساعدة هؤلاء المهجرين بما يكفي بقاءهم على قيد الحياة على أقل تقدير، روعيت اعتبارات هي أبعد ما تكون عن الإنسانية والعدل والإنصاف ونصرة الملهوف ونجدة المستغيث بغض النظر عن دينه أو عِرقه، وخيف من غضب من تكمن مصالحه في فناء هؤلاء جميعًا وحذفهم من سجلات الحياة. وبدلًا من تحرك ساسة الدول الكبرى والمؤسسات الدولية والهيئات الأممية ومنظمات حقوق الإنسان التي صدعتنا بالحديث عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان ومكافحة التمييز العنصري والتطهير العِرقي والديني، غض بعضهم الطرف عن القضية برمتها، وانشغل بما هو أهم بالنسبة له كاستكشاف الفضاء وإنتاج سيارة بلا سائق وطائرة تعمل بالطاقة الشمسية، واختلف بعضهم الآخر حول المسؤول عن وصول الأمور إلى ما صارت إليه بين الروهنغيا والجيش في ميانمار، فبينما يرى بعضهم أن الروهنغيا هم من نغص على الجيش مما اضطره إلى استعمال القوة معهم دفاعًا عن النفس، يرى آخرون أن الجيش قام بعمليات تطهير عِرقي وديني بحقهم ترقى إلى جرائم حرب بل هي كذلك بالفعل. وبين هؤلاء وأولئك ينتظر المسلمون الروهنغيا مصيرهم المأساوي المحتوم إما الموت جوعًا وعطشًا أو مداهمة الأمراض الفتاكة التي ليست ببعيدة عنهم، في ظل أوضاعهم المزرية التي رأيناها هناك في كوكس بازار.