بقلم: د. عبدالله المدني
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
بعد أكثر من نصف قرن من الحكم العسكري الصارم، رضخت الطغمة العسكرية التي كانت تحكم ميانمار (بورما سابقا) للضغوط الدولية والإقليمية، فأجرت أول انتخابات ديمقراطية في البلاد منذ عام 1962، وهو العام المشؤوم الذي قاد فيه الجنرال «ني وين» انقلاباً عسكرياً ضد الرئيس المدني المنتخب «أنو»، أحد نجوم مؤتمر باندونج وحركة عدم الانحياز. مذاك عانت ميانمار وشعبها الأمرين. نظام اشتراكي بائس، وعزلة دولية، وتخلف معيشي، وقبضة بوليسية على مختلف مناحي الحياة. وحدهم العسكر لم يعانوا، واستفادوا، وأثروا من وراء الصفقات الخفية والدعم الصيني الهائل.
تنفس الميانماريون الصعداء حينما قرر العسكر إجراء انتخابات ديمقراطية سنة 2015، لعلمهم أن نتائجها ستصب في صالحهم. وبالفعل أسفرت الانتخابات عن اكتساح «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» بقيادة السيدة «أونغ سان سو تشي» ابنة بطل الاستقلال الجنرال أونغ سان (اغتيل عام 1947) لمعظم مقاعد البرلمان، لكن العسكر حالوا دون تزعمها البلاد عبر نفوذهم المتجذر معطوفاً على استخدامهم لمادة دستورية لا تجيز لمن لها أبناء يحملون جنسيتين ــ مثل أبناء «سو تشي» الذين يحملون الجنسية البريطانية بحكم جنسية والدهم ــ أن تصبح زعيمة لوطنها.
وكان الحل الوحيد هو أن ترشح الرابطة الوطنية شخصاً بديلاً مقرباً منها لتولي منصب الرئاسة، فوقع اختيار «سو تشي» على السياسي والاقتصادي والكاتب «تين كياو» لأسباب كثيرة. فعدا عن كونه صاحب مؤهلات علمية ومتخرجاً في جامعة لندن، فإنه من أعضاء حزبها القدامى المخلصين ومن أصحاب النضال الوطني ضد العسكر، وممن دخلوا المعتقلات أكثر من مرة وعاشوا ردحاً من الزمن في المنافي، ناهيك عن أنه ابن شاعر ميانمار المعروف «مين تو وون».
مؤخراً عاشت ميانمار فراغاً دستورياً بعدما قرر الرئيس تين كياو (71سنة) فجأة الاستقالة لأسباب قيلت إنها صحية ومتعلقة برغبته في الخلود إلى الراحة، خصوصاً أنه خضع لعملية جراحية في وقت سابق.
وبالتزامن قدم رئيس مجلس النواب «يو وين مينت» (66 عاماً) استقالته أيضاً، فقام زملاؤه باختيار نائبه «يو تي خيون» كخليفة له في جلسة برلمانية عقدت في 22 مارس المنصرم.
ينص الدستور الميانماري الحالي، الذي صاغه المجلس العسكري الحاكم سابقاً، على أنه في حالة فراغ منصب الرئاسة لأي سبب يتولى الأكبر سناً بين نائبي الرئيس مسؤولياته مؤقتاً إلى حين انتخاب رئيس جديد للدولة خلال 7 أيام. وهكذا صار الرئيس المؤقت تلقائياً هو «مينت سوي» الذي فرضه العسكر نائباً للرئيس المستقيل في أعقاب انتخابات 2015، عبر استخدام نفوذهم البرلماني المتمثل في 25% من مقاعد البرلمان.
قالت المصادر المطلعة إن استقالة رئيس مجلس النواب مرتبطة باحتمال ترشيحه كرئيس للدولة من قبل الرابطة الوطنية، كونه عضواً بارزاً فيها ومن الشخصيات المفضلة لدى زعيمتها. ومما قيل أيضاً إنه في حالة ترشيح «يو وين مينت» وفوزه بعدد كبير من الأصوات البرلمانية، تكون الرابطة قد نجحت في فرض قبضتها على البلاد أكثر من أي وقت مضى، على حساب نفوذ العسكر، خصوصاً أن منصب رئاسة الدولة في ميانمار يشمل أيضاً رئاسة الحكومة ويتمتع شاغلها بصلاحيات واسعة. وهذا ما حدث فعلاً. إذ رشحت الرابطة الوطنية «يو وين مينت»، لينافس المرشحين الآخرين وهما الرئيس المؤقت «مينت سوي» المؤيد من قبل الجيش، ونائبه «هنري فان ثيو». وفي جلسة الانتخاب التي جرت ــ طبقاً للدستورــ داخل البرلمان المكون من 664 عضواً يمثلون مجلس الشيوخ المنتخب ومجلس النواب المنتخب والقوات المسلحة، أسفرت النتائج عن انتخاب «يو وين مينت» رئيساً جديداً بواقع 403 أصوات، بينما نال مرشح العسكر 211 صوتاً، ونال «هنري فان ثيو» 18 صوتاً فقط.
يأمل الميانماريون ــ ولاسيما أصحاب الأقليات الإثنية ــ أن تؤدي هذه النتيجة إلى أن يعمل الرئيس الجديد يداً بيد، وبزخم أقوى من ذي قبل مع «سو تشي» من أجل تعزيز الوحدة الوطنية، والخروج من نفق الحروب الأهلية، وتحقيق السلام الدائم والشامل، وبالتالي الالتفات إلى قضايا التنمية والبناء التي حرمت منها هذه البلاد لعقود طويلة ــ باستثناء سنوات الاستقلال الأولى ــ حيث إن الشعب الميانماري صاحب إرث حضاري وذوق رفيع وقدرة فائقة على العلم والعمل، ولا ينقصه شيء كي يحقق ما حققته شعوب أمم جنوب شرق آسيا المجاورة، سوى الأمن والسلام والاستقرار.
وفي هذا السياق، يعول المراقبون كثيراً على فكرة أن الجيش الميانماري قد فقد الكثير من سطوته الداخلية، وأن صورته في الخارج تزداد قبحاً. قد تكون الجزئية الأخيرة صحيحة، أما الجزئية الأولى فلا يمكن الأخذ بها بالمطلق. وبعبارة أخرى فإن الجيش الميانماري لا يزال، رغم كل التحولات، يلعب دوراً مهماً في ميانمار من خلف الستار، بل إن رئيس أركانه أعلن مؤخراً أثناء الاحتفال بيوم القوات المسلحة «إن على الجيش أن يلعب دوراً رئيسياً وفعالاً في حياة الأمة». لكن من هو الرئيس الجديد «يو وين مينت»؟
ينحدر مينت من إثنية «بامار» التي ينتمي إليها نحو 68% من سكان البلاد، وهو أحد أفراد الحلقة الداخلية المحيطة بزعيمة البلاد الفعلية «سو تشي». تخرج في جامعة رانغون، متخصصاً في القانون، فمارسه كمحام في المحكمة العليا. بدأ مسيرته السياسية سنة 1988 عبر الانضمام لحركة المعارضة ضد الديكتاتور «ني وين»، ودفع الثمن بدخوله المعتقل. وحينما جرت أول انتخابات ديمقراطية في البلاد ترشح وفاز عن دائرة «تارم وي» الصغيرة.