بقلم: أليكس واغنر
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
بالنسبة للأميركيين من أصول ميانمارية مثلي، فإن الأطفال الذين عاشوا في المنفى بعد أن غادروا بلادهم في ستينات وسبعينات القرن الماضي عقب استيلاء النظام العسكري القمعي على السلطة وتأميم المصانع وطرد الميانماريين غير المنتمين للأقلية البورمية، كان من الصعب عليهم معرفة ميانمار. فقد أغلقت تلك الدولة الباب لتحجب نفسها عن العالم، ورويداً رويداً ذهبت في غياهب النسيان ليتوارى معها ما تبقى بحوزتهم من التحف التي تذكرهم بهويتهم، وكذلك المشغولات الفضية والصور والكتب التي تعطي الكثير من التفاصيل عن هوية البورميين وكيف كانت حياتهم. كل تلك الأشياء ضاعت، أو ربما ضللنا الطريق إليها بسبب حياتنا في الغرب.
لكن عائلتي لا تزال تتذكر بأسى عبق براعم أزهار «فرانجباني» والتقاليد العريقة للمدارس البريطانية المتوسطة التي بقيت حتى بعد نهاية الحكم البريطاني.
لقد علموني في المدرسة الابتدائية أن هناك «ميانمار الجميلة» (التي تضم البورميين المتعلمين من تلك الفئة التي يطلق عليها المواطن العالمي)، وميانمار القبيحة (التي تحوي الجنود الوحشيين غير المتعلمين). وقبلت تلك القصص كحقائق، فقد كانت ميانمار تعيش عصرها الذهبي إلى أن فسد فيها شيء ما وتحتم على عائلتي الرحيل.
جاءت أونغ سان سو تشي، قائدة الحركة الديمقراطية في البلاد، لتمثل «ميانمار الجميلة» وكانت بمثابة الرمز لنا جميعا. كثيراً ما وقفت جدتي للتظاهر أمام السفارة الميانمارية في واشنطن لعدة أيام في شهر أغسطس (آب) من كل عام لإحياء ذكرى الاحتجاجات الطلابية، وذلك تضامنا مع أبناء وبنات بلدها الذين ذاقوا مرارة السجن أو الذين حرموا من حق التظاهر مثلما كان الحال مع سو تشي.
كانت معصومية سو تشي من الخطأ تجاه عائلتي البورمية أشبه بمعصومية الرئيس جون كيندي تجاه عشيرة أبي الآيرلندية الكاثوليكية. فلم يكن هناك شك في نزاهتها لأنه لم يكن لها أن تكون غير ذلك. كان هذا المعتقد الراسخ شكلا من أشكال الهوية البورمية، كان شيئاً ملموساً صنع من الفضاء السلبي، ولد من اللاشيء.
كيف لنا نحن الميانماريين الأميركيين أن نفهم ما حدث في الشهور الأخيرة ونفهم ما أقرته سو كي بسلبيتها ونكرانها وتعتيمها. فميانمار بقيادتها العسكرية والمدنية متورطة في المذابح الجماعية المنظمة للأقلية المسلمة هناك. ففي الشهور الثمانية الأخيرة فقط، قتل أكثر من 14 ألفا من مسلمي الروهنغيا، وفر نحو 700 ألف من المذابح الوحشية، ومات الأطفال حديثو الولادة طعناً بالسكاكين أو ألقوا أحياء في النار، وألقيت القنابل اليدوية من الأبواب والنوافذ إلى داخل بيوت المسلمين، واغتصبت الأمهات على يد العصابات المنظمة.
لم يكن لسو تشي وحدها أن توقف تلك المذابح. لكن هذا لم يكن سوى جزء من المشكلة، فقد رفضت مجرد الاعتراف بما يحدث بأن قالت العام الماضي: «لا أعتقد أن عملية تطهير عرقي تجري في البلاد. أعتقد أن كلمة تطهير عرقي أقوى من أن تستخدم لوصف ما يجري».
الأدهى والأمر أنها تساءلت ما إذا كان مسلمو الروهنغيا مواطنين ميانماريين. ففي عام 2016. أفاد متحدثها الرسمي، يو كياو زاي يا، في تصريح لصحيفة نيويورك تايمز قائلا: «لن نستخدم مصطلح روهنغيا، لأن تلك الفئة غير معترف بها ضمن 135 أقلية عرقية رسمية في البلاد».
الشهر الماضي، حكمت الحكومة البورمية على سبعة من جنودها بالسجن عشر سنوات لقتلهم عشرة من مسلمي الروهنغيا العام الماضي، ولا يزال الضحايا يوصفون بأنهم «إرهابيون»، ولا يزال الصحافيون الميانماريون الذين كشفوا عن المذبحة رهن الاعتقال. في يوم 11 أبريل (نيسان)، رفضت المحكمة إسقاط التهم عن يو وا لون، ويو كيا سو و، لإفشائهم الأسرار الرسمية للدولة، ويواجهون حالياً أحكاماً بالسجن قد تصل إلى 14 عاماً.
الرئيسة سو تشي هي أحد الميانماريين الذين يرون الروهنغيين كمسلمين دخلاء على البلاد جاءوا من الهند وبنغلادش رغم أنهم يعيشون في ميانمار منذ القرن السابع الميلادي وفق بعض التقديرات. والمؤلم في الأمر أن البعض هنا يرى أن هؤلاء المسلمين يستحقون الطرد خارج البلاد لا لشيء سوى أن دينهم تسبب في وصمهم بالإرهاب، وبأنهم خطر داهم يتحتم درؤه.
البوذيون هم من شنوا تلك الحملة الدموية الشعواء، وتسبب ذلك في صدمة لبقية العالم. لكن بالنسبة لنا في الغرب، فقد ارتبطت هويتنا القومية بسو تشي ونضالها، ودفعنا ذلك للتحقق من أسباب ما حدث. من أين جاءت تلك السلالة من الميانماريين الدمويين، وماذا يعني ذلك بالنسبة لنا؟
وكما اتضح، فإن لذلك العنف الدموي الميانماري جذوره العميقة. ففي أفضل فترات القرن الماضي، كان العرقيون البورميون يرون الهنود، وغالبيتهم مسلمون، على أنهم دخلاء. ورغم أن والد سو تشي ذائع الصيت ساهم في استقلال البلاد من المستعمر البريطاني، فقد تواطأ في تشويه صورة الأقلية البورمية الهندية بأن صورهم كآفة في المجتمع. وشارك والدها أيضا في كتابة منشورات وصف فيها الهنود كغرباء جشعين وكعملاء للمستعمر البريطاني وأنهم فرضوا سطوتهم على مفاصل الاقتصاد الهندي، وفي نفس الوقت كانوا «الأقلية المحظوظة» في البلاد.
هم لا يبالون كثيرا بأن العمال الهنود ساعدوا الاقتصاد الهندي كثيراً في بداية القرن العشرين، وأن هؤلاء العمال عاشوا دوماً أوضاعاً بائسة بل مزرية. فقد استهدف الآلاف منهم وقتل منهم المئات في عمليات ممنهجة خلال أعمال الشغب في ثلاثينات القرن الماضي فيما بدا وكأنه إنذار لما سيحدث لاحقا. جاء ذلك الشعور المسموم تجاه تلك الجماعة وأنهم لا ينتمون للبقية بمثابة الوقود الذي جلبته «ميانمار الجميلة».
لم تكن عائلتي قد غادرت ميانمار بعد عندما اندلع العنف في العاصمة ولم تكن الهجرة قد لاحت كخيار وحيد للدفاع عن أنفسنا. لكن مع كل ذلك الحنين الذي نما بداخلي وكبرت به لم يرد ذكر لهذا الفصل ولم نفكر في مصير الهنود البورميين. ألم ندرك أن بذور اليأس الميانماري الحالي قد ذرعت بداخلنا على يد من جعلناهم أبطالا؟
بالنسبة لنا وحسبما تسعفني الذاكرة، فقد حررنا أنفسنا من مسؤولية فشل ميانمار وكأننا تركنا الظلام بكل ما فيه خلف ظهورنا عندما غادرنا البلاد واتجهنا صوب الساحل الأميركي. لكن نفس إحساس القومية الذي منحنا الهوية، وأعطانا المبرر الأخلاقي هو نفسه ما جلب لنا العار والرعب على حال بلادنا وبيتنا. تشير الأصابع إلى بطلتنا، تشير إليها في أعين عساكرها المتنمرين لتجبرنا على الاعتراف بأن الوحش يكمن بداخلنا وإن كان مستترا.
لكن «ميانمار الجميلة» اليوم تدعم موقف سو كي. كل ما اقترفته من مذابح ربما أساء إلى وضعها الدولي، لكن في ميانمار لا يزال الأمر مجرد سياسة، لكن أليس من قتلوا هم نحن؟ بالنسبة لعائلتي البورمية في الغرب، فهذا الوقت هو وقت تصفية الحساب. جميعنا نشعر بالعار، لكن أين غضب رفاقنا في المنفى، أين حنق أبناء بلادنا السابقين؟
فبعد عقود وعقود من الزمان كونا خلالها هوية عميقة استندت إلى شعور عميق بالحنين إلى الوطن بات من الصعب الإيمان بأبطال استندوا إلى قاعدة من الأكاذيب.