[caption id="" align="alignleft" width="300"] سنبقى لأراكان "الأمل"! قصة قصيرة بقلم : إبراهيم حافظ[/caption]
وكالة أنباء أراكان (ANA)
فتح لها الباب وقال:
- تفضَّلي!
تردَّدَت في الدخول قبله، فشجَّعها قائلاً:
- أنت أَولى بدخول العُش قبلي!
دخلت واتجهت نحو بطاقة الدعوة الموضوعة على مقدمة "التسريحة"، ترَكها تتأملُ في البطاقة لحظات، ثم قال لها بصوتٍ تقريري:
- السابع من ربيع الثاني عام 1441هـ، هذا يومٌ تاريخي مميَّز، سنذكره طويلاً، ولن ننساه أبدًا، ثم أدارها نحوه وتأمَّلها طويلاً، وهي خَجْلى مُطرِقة، وصاح بحماس:
- وأخيرًا، تحقق الحُلم!
ردَّت عليه بحياء:
- ولَم يخذُلْنا الأمل!
فأسرَع يتغنَّى:
- سَكَني في عينك!... أُسكنُكِ عيني!
وأسرعت تردُّ بلحن منغم:
- "بس بالحلال"!
فهر رأسه طربًا، وشجَّعها بابتسامة منتشية.
أطرقت حياءً، وأغمضت عينيها، تريد أن تسترجعَ في ذهنها كلَّ الذكريات الماضية خلال عشر سنين طالت صبرًا وانتظارًا وكمدًا وأملاً! تحدِّثُ نفسها: هل أصدقُ بعد اليوم أن بعضَ أحلامنا المستحيلة يمكن أن تتحقَّقَ في الدنيا قبل الآخرة؟ عشته حُلمًا طويلاً امتد لعشرِ سنين لم أصحُ منه إلا اليوم، وصار الآن واقعًا ألمِسُه كما ألمسه هو بيديَّ!
لم يمهلها طويلاً، مد لها يده، نظَرَت إليه مستفهِمةً، عاد يتغنى:
- ضُمِّي يدي في يديكِ، أعطيكِ أنا سنيني!
همست بحنان ودَلال:
- قرِّب، تعالَ!
وانفجرَا ضاحكين يتعانقان!
••••
أمسَك بيدها، سرَت فيهما قُشَعْريرة لذيذة، قادها برِفْق إلى المكتبة.
غرفة صغيرة، تمتلئ كلُّ جدرانها الأربعة بصفوفِ الكتب، في اللغةِ والأدب، إلا زاوية من زوايا الغرفة بمقدار المتر، كانت متروكةً بلا كتب، وأمامها كرسي صغيرٌ يناسب حجمَها هي، كأنها مُعدَّة لأنْ تستخدمَ طاولة يتكئ عليها مَن يقرأ أو يكتب، على الطاولة تتناثر ورودٌ ملوَّنة، يفوح منها عبيرٌ شجيٌّ رَقراق، يتوسَّطُها دفتر مزخرف أنيق، يعلُوه قلم رصاص رشيق!
رفَع القلم بيد وقال: هذا أنا! والدفترَ بيد، وقال: هذا أنتَ! وأكمَل:
- وباجتماعِهما يأتي أولادُنا قصصًا وأشعارًا وخواطرَ ترفَعُ من هامَةِ الأدب الرُّوهنجي المناضل لأجل استعادة أراكان!
قالت وهي تهز رأسَها وتتمايل:
- "يا سلام على خيالك"!
ردَّ عليها بسرعة:
- خصوصًا وأنتِ ملهمتي!
تورَّد خدَّاها خجَلاً، وأطرقت حياءً، فندَّت منها نظرة سريعة إلى ما تحت موضع الدفتر على الطاولة، فرأت مكتوبًا عليه بخط عربي جميل: ولن نفقِدَ الأمل!
أطالت النظرَ في المكتوب، وأطال النظر في عينيها؛ حتى انهارت باكية! شعَر بالندم، أكَله الندمُ..
احتواها بين ذراعَيْه بكل حنان، ضمَّها إلى صدره وقال: هنا الأمان! وبقيا صامتينِ برهة من الزمان، غابا خلالها عن كل حيثيات المكان..
••••
كفكفتْ دموعَها، واستدارت نحو الطاولة، جلست على الكرسيِّ، تناولت قلمَ الرصاص، فتَحت الدفتر، كتبَتْ بخط أنثوي صغيرٍ في الصفحة الأولى: ولن يخذُلَنا أملٌ بعد اليوم!
أشرق وجهُه من ورائها بابتسامة، كان يراقبُها بصمت، سألته فجأة:
- ثيدو، لماذا أعددتَ هذه الزاوية بهذه المحتويات؟ لتكتب وتؤلِّف؟
أجابها منتشيًا:
- كم أحب أن تستمرِّي في مناداتي بـ: "سيدو"! أعددتُ هذه الزاوية لتكوني طالبتي الأولى في مسيرتي التعليمية، كما كنت دائمًا عبر الأثير!
- إذًا هذه المكتبةُ مدرستي، وأنت معلِّمي فيها، ولكن ماذا نويتَ أن تعلِّمني؟
- أعلِّمك شيئًا واحدًا فقط.
سألته باهتمام:
- ما هو؟
- أصول الكتابة الأدبية؛ لأترك لك سلاحَ القلم في جِهادنا ضد البوذيين!
عادت تسألُه بتوجُّس:
- وأنت؟
- سأعتنق سلاحًا آخرَ حقيقيًّا على أرض الرباط، أدافعُ به عن الدِّين والعِرْض والوطن، سألتحق برفاقي في الكتائبِ الأولى للمقاومة المسلَّحة على أرض أراكان!
وانفجرَتْ باكية من جديد، ولم يدرِ ما يفعل وكيف يتصرَّف، وتحجَّر في مكانه واقفًا، وتوقف معه الزمن مستسلمًا لهول الموقف!
وذهَب ببصره إلى بعيد، أبهذا أستقبلُ حمامتي في عشّنا الصغير، وفي ليلة عُرسنا المجيد؟ ما أقساني وأشد أنانيتي! أما وسِعني أن أؤجِّلَ هذا الحديث إلى وقت آخر؟ بلى، ولكنها القضيةُ التي لا تحيا إلا بدماءِ وتضحيات أهلها الفدائيين، أيُّ عُرس هذا الذي يبتدئ منذ الليلة الأولى بالحديث عن أسلحة المقاومة؟ أيُّ حياة نعيشها نحن الروهنجيين في المهاجر والمنافي؟ إن لم أهيِّئْها لحياة النضال والمقاومة منذ الليلة الأولى، فلن تكون سندًا ومُعينًا لي على الاستمرار في نصرة القضية الروهنجية كما كنت أحلم! كلُّ أحلامي بدأت تتحقق واحدًا بعد آخر، ولن يكون هذا آخرَها بإذن الله..
قامت من على الكرسيِّ فجأة، استدارت نحوَه، ضمَّتْه إلى صدرها، همَسَت في أذنِه بصوت يتهدج:
- أتحبُّ أن تسمعَ ما كتبتُ في الدفتر في الليلة الأولى من زواجنا؟
أجابها بلهفة وهو يشتدُّ في ضمها إليه وكأنه يعوِّضُ نفسَه حرمان السنين العشر:
- نعم يا أميرتي، ماذا كتبتِ؟
- كتبتُ: لن أخذُلَك يا ثيدو، سِرْ في طريقك ماضيًا وأنا معك، وسنبقى معًا أنا وأنت لأهل أراكان "الأمل"!!