[caption id="" align="alignleft" width="300"] المسلمون المهجَّرون والمشتتون بميانمار بقلم/ جوناثان هيد[/caption]
وكالة أنباء أراكان ANA: الألوكة
لقد ترَك العنف الطائفي الواقع بولاية أراكان ببورما في الشهور الأخيرة نحو 140 قتيلاً، وأجبَر أكثر مِن 100 ألف على ترك منازلهم، ونتيجةً لعزل المُجتمعَين البوذي والمُسلِم بصورة فعّالة؛ فإن الانقسام يبدو أعمق مِن ذي قَبل؛ طبقًا لما رصدَه "جوناثان هيد" الصحفي بشبكة بي بي سي.
فبالطبع قد تعرَّف على غالبها أحد الموظَّفين بالإمبراطورية البريطانية العائدين مِن "سيتوي" أكياب - كما كان يُطلق عليها أيام الإمبراطورية - فدرجات الريكاشة الهِندية لا تزال تُسيطِر على الطرُقات المليئة بالغبار، وتَبدو المنازل المتحلِّلة وكأنها تَنتمي إلى عصرٍ آخَر قبل فترة قرْن الرخاء الآسيَوي.
فبعيدًا عن قبَّة تمثال بوذا الذهبية الكبيرة، لا يَظهر مِن المنظر مِن أعلى السطح إلا بلدة ذات أسطح معدنية ضرَبها الصدأ وسط أشجار نخيل جوز الهند، وفي الخلف المَمرات المائية التي تُطوِّق الخط الساحلي مِن هذا الجزء ببورما، بالقرب مِن الحدود مع بنجلاديش.
تُعتبَر ولاية أراكان ثاني أكثر الولايات فقرًا ببورما، وتُعتبَر أيضًا واحدة مِن أقلِّ المدن تنميةً بالعالم؛ فالفقر المُهمَل والقهر لَعِبا دورًا كبيرًا في إشعال العُنف الطائفي، كما أنه يوجد ذكريات تاريخيَّة أكثر مرارةً، والمَخاوِف التي يَشعر بها المُجتمَعان المُتخاصِمان؛ مما قد يُفقَد أو يُحصَد في البيئة السياسية الجديدة المشكوك فيها ببورما.
إن الأمم المتحدة والوكالات الدولية الأخرى - بالفعل - تقدِّم مساعدات طارئة للعديد مِن الـ110 ألف مواطن الذين تمَّ تهجيرهم مِن خلال نوبتَين وحشيتَين مِن المصادمات التي وقعت بين المسلمين والبوذيِّين، إلا أنه لا يزال هناك المزيد مِن الحاجات المُلحَّة.
قضيتُ يومًا في قرية "تيشونج"، والتي تَبتعِد خارج "سيتوي" أكياب قليلاً مِن الكيلو مترات، يُعتبر هذا أحد أحياء مُسلمي الروهينجا؛ أحد الأحياء القليلة التي لم تتعرَّض لهجمات الجماعات البوذية، ويُعتبَر هذا في الواقع مجتمعًا شديد الفقر؛ فالبناء المادي الوحيد يُعتَبر المدرسة المبنيَّة مِن الأخشاب (مدرسة دينية)، والتي يُقيم بها المئات مِن الأُسر التي تعرَّضت للتهجير.
تَحتضِن "تيشونج" نحو 2500 مسلم من الأماكن الأخرى؛ غالبهم مِن "نازيه" - إحدى مناطق "سيتوي" أكياب - التي دمَّرتها أحداث العنف التي وقعَت في يونيو الماضي، ومِن "كيوموبيو"، والتي دمَّرتها تمامًا الاعتداءات المُستدامة التي وقعَت يومي 23 و24 أكتوبر.
ونتيجة لكونها لا تُعتبَر معسكرًا حكوميًّا؛ فإن "تيشونج" لا تتلقى أي مساعدات من الحكومة أو الوكلات الدولية؛ ولكن التبرعات بالغذاء والتي تأتي غالبًا من الروهينجا الذين يعيشون بالأماكن الأخرى أو بالخارج - تساعد التجمع المتزايد على البقاء حيًّا، رأيت مرجلاً من اللحم بالكاري مصنوع من لحم بقرة متبرَّع بها يتم طبخه، ويُقدم كتلتين في كل مرة لكل أسرة.
وأسفل المدرسة تَجلِس أُسرة "سورا كاتو" البالغ 45 عامًا تتحسَّر بصوت مُرتفِع على مَظهرِهم شديد الهُون، فقد فرَّت مِن "نازيه" يونيو الماضي ثم ماتَت - كما أخبروني - بسبب الإصابة بالحُمى ذلك الصباح.
يتمركز المسلمون الآن بمناطق السلامة المُنكمِشة هذه، ويُمنعون مِن الذهاب إلى وسط البلد لأعمالهم، أو المتاجر، أو المستشفيات؛ بسبب خوفهم المُبرَّر مِن التعرض للاعتداءات، وأما الجماعات البوذية، فقد طالبت التجار في "سيتوي" بمقاطعة أيٍّ مِن المسلمين يجرؤ على النزول لشراء الضروريات مِن هناك، ولم يَخرق أحد هذا المنع، فالفريقان معزولان تمامًا الآن.
ويوجد أيضًا بعض البوذيِّين تمَّ تهجيرهم وهم في حاجة أيضًا للمساعدة، بعضهم احتمى بالمعابد، وآخَرون بالمُعسكَرات التي أنشأتها الحكومة، إلا أن أعدادهم قليلة جدًّا مقارَنة بالمسلمين؛ حيث يُشكِّلون أقل مِن 10% مِن أولئك المهجَّرين، وهذا طبقًا للعامِلين في حقْل المساعدات، وكذلك يُمكِنهم التحرُّك بحرِّية أكبَر.
الإهمال المزمن:
إن شهادة المسلمين المُهجَّرين تَرسُم صورة للهجَمات المُخطَّطة المنظَّمة التي وقعَت في أكتوبر في العديد مِن الأماكن في وقت واحد، فتدمير الحي الذي يَقطنه المسلمون في "كيوموبيو" خاصةً يُعتبَر موحيًا؛ فالقاطِنون هناك في المقام الأول مِن المسلمين "الكمان"، ويُعتبَرون نسبيًّا تجارًا أفضل حالاً ومِن مُلاك المراكب، وخلافًا للقطاع العريض مِن الروهينجا مِن أصحاب الحال المُزري؛ فإن الحكومة تَعتبِرهم مواطنين رسميِّين، ولم يُتوقَّع يومًا أن يكونوا هدفًا، ولكنهم وصَفوا هجوم الجماعات البوذية المسلحة مِن جميع الجوانب، وأنهم كانوا يقومون بحرق جميع المباني بصورة منظَّمة، وقالوا: إنهم كانوا مَدعومين مِن قِبَل الشرطة والجيش، لقد أراني بعضهم الجراحات المستدامة التي سبَّبتها الرصاصات أثناء المصادمات مِن الأسلحة النارية التي أُطلِقت على الحي من الخارج، وأخبَروني مرارًا أن نداءات الاستِغاثة بالقوات الأمنية لم تلقَ أيَّ استجابة.
وعلى الناحية الأخرى، فقد قصَّ البوذيون الراكين روايةً أخرى؛ فقد ردَّدوا القصص التي تتناقلها الألسن أو عبر مواقع الإنترنت حول الأعمال الوحشية للمسلمين، ويقومون بين فينة وأخرى بعرض صور غير واضحة لجثامين مجدَّعة.
ولكن ما يتعلق بهم قصة طويلة مِن إهمال الحكومة المركزية المُزمِن، ويَشكون أيضًا مما يَرونه زيادة غير مُسيطَر عليها للشعب المسلم والذي يُهدِّد باكتساحهم، ويَخشون انتشار الأفكار الإسلامية الأصولية، وخاصةً بين شباب الروهينجا ممن عاشوا ببعض الدول الإسلامية العربية.
وفي هذا الصدد يَشرح "أشين أريا فيونزا" رئيس دير "شوي ريدي" القديم بمدينة "سيتوي" من وجهة نظره أن المُجتمعَين لا يُمكِن أن يعيشا معًا بعد ذلك، فيرى أن المسلمين لدَيهم زوجات كثيرات ولديهم أطفال كثيرون - حسب قوله - كما أنهم يُضايقون المرأة البوذية أيضًا، ولا يَسمحون للمرأة أن تتلقى التعليم.
فأولئك الذين يُعتبَرون مواطنين شرعيِّين ممَّن يَحملون بطاقة هوية المواطَنة يُمكن لهم البقاء - حسب قوله - ولكن يجب أن يكونوا مثلنا - البوذيين - بدرجة أكبر، وأن يتعلموا مِن ثقافتنا، وأما أولئك غير الشرعيِّين فيجب حبسهم بالمعسكرات - حسب قوله - وذلك فعليًّا ما حدَث لعشرات الآلاف مِن المسلمين.
إن المصطلح "روهينجا" لا يَعترِف به غالبية البوذيِّين؛ ويَستخدِمون بدلاً منه مُصطلَح "المسلمون البنغاليون" في إشارة إلى الرؤية الرسمية التي تَعتبِر أنهم مهاجرين غير شرعيِّين مِن بنجلاديش.
نحو 800 ألف مِن الروهينجا يَفتقِدون الحصول على بطاقة هُوية المواطَنة، لقد شجَّع التمييزُ الرسمي البوذيِّين على شنِّ حملات لطرد المسلمين الروهينجا بالقوة أو عزلهم.
الانفصام الفكري:
ولكن "كياو هلا أونج"، أحد السياسيِّين الروهينجا المعروفين والذي قضى 11 عامًا كمُعتقَل سياسي، يضحك بمرارة وأسى على هذه المزاعم.
فقد وُلد في أراكان، وقضَى معظم حياته في العمل محاميًا عاملاً في محاكم الدولة، والآن وقد بلغ سن الثالثة والسبعين فإنه يتقاضى معاش الدولة، لقد أخرج لي وثيقة استلمها والده عام 1934 من مدير إحدى المدارس التي كانت تُديرها بريطانيا بما يُعتبَر الآن ولاية "أراكان"، وبالرغم مِن ذلك إلا أنه لا يزال يُعتبَر رسميًّا مُهاجِرًا غير شرعي.
وبعد الاضطرابات في يونيو اعتُقل مجدَّدًا أثناء عمله مع المنظَّمة غير الحكومية التي تُدعى "أطباء بلا حدود".
إن العقود الطويلة مِن العزْلة وغياب العدالة المزمن الذي يَفرضه حكام بورما العسكريُّون - ترك إجحافًا واستياءً في ولاية راكين، والذي أدى إلى مناخٍ مسموم مِن فقدان الثقة والتضليل.
فبعض الراكين يَرجعون إلى المذبحة التي وقعت عام 1942 وسط حالة الفوضى التي صَحبَت الانسحاب البريطاني أمام تقدُّم الجيش الياباني الإمبراطوري، وبالرجوع إلى تلك الفترة فإن البوذيِّين - غالبًا - ناصَروا القوات المسلَّحة اليابانية بينما دعم الروهينجا البريطانيين، بل إن البعض يذهب لأبعد مِن ذلك، إلى ذكرى مملكة الراكين البوذية القوية المُستقلَّة المَجيدة التي استمرَّت مِن القَرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر.
وعلاوةً على الفصل الجسَدي بين المسلمين والبوذيِّين، فإن هناك أيضًا حالةً واسعةً مِن الانفصال الفِكريِّ.