بقلم: د. يعقوب آلويمين*
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
مأساة الروهنغيا تعود في الأصل إلى مشكلة قانونية، وطالما لم يوجد لها حل فستتواصل المأساة في حلقات، ليس آخرها تلك التي بدأت منذ آب (أغسطس) 2017 من تقتيل وتعذيب واغتصاب تحت تهديد السلاح وتهجير وحرق المنازل وحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية من طعام ودواء، على يد الأجهزة العسكرية والأمنية أحياناً وبتغطية وتواطؤ من السلطات الرسمية أحياناً أخرى.
تعود الجذور القانونية للأزمة إلى صدور قانون 1982، الذي ألغى قانون 1948 المتعلق بالجنسية، ووضَع معايير تعسفية وانتقائية تم بموجبها تقسيم المواطنة إلى ثلاث فئات، هي: المواطنة الكاملة (full citizenship)، والمواطنة الملحقة (associated citizenship)، والمواطنة بالتجنيس (naturalized citizenship)؛ وحدد الطوائف والاثنيات التي يحق لها الحصول على هذه الفئات من المواطنة وعددها 128، وأنشأ لجنة مركزية غير عادلة ولا شفافة لوضع المعايير والنظر في الطلبات، وبهذه المقتضيات أقصى قانون 1982 من الحق في الجنسية كل من سماهم الوافدين بعد الغزو الاستعماري البريطاني سنة 1832.
وبناء على قراءة خاطئة لتاريخ المنطقة تدعِّي بأن مجموعة الروهنغيا ليسوا من السكان الأصليين للمنطقة وبأنهم من بقايا المحاربين والغزاة الذين اجتاحوا المنطقة في نهاية القرن الـ19، استثنى القانون، الذي فُصِّل لهذا الغرض بحسب الخبراء، هذه الأقلية من الحق في المواطنة والحقوق المرتبطة بها، وتركهم عديمي جنسية (statelesses)، في انتهاك صارخ لمبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان التي تشدد على حق كل شخص في الحصول على الجنسية (المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 24 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؛ والمادتين والأولى والثانية من اتفاق الأمم المتحدة لسنة 1961 بشأن خفض حالات انعدام الجنسية).
وإذا كان من المعلوم لدى القانونيين أن الحق في اكتساب الجنسية يقوم على أساس إحدى رابطتين، هما: حق الدم (Jus sangiunis) وحق الأرض (Jus soli)، فإن التطبيق الصحيح للمعيارين يفند ما أقره قانون 1982 بشأن أقلية الروهنغيا، بحيث يثبت التاريخ أن أبناء هذه الأقلية استوطنوا أرض أراكان التي ولد عليها أجدادهم قبل قيام دولة ميانمار أو بورما سنة 1948، وبالتالي يتوفر فيهم تلقائياً كل من معياري حق الدم وحق الأرض؛ وهو ما يجعل قانون 1982، الصادر في ظل الحكم العسكري الدكتاتوري، غير دستوري وغير عادل ومنافٍ لقواعد القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان.
ويشكل قانون 1982 الجائر الإطار التشريعي لتحويل أقلية الروهنغيا إلى «عديمي جنسية» ومنعهم من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية، بل وحتى من الحق في الأمن والحياة، وفي ظل هذا الوضع تؤكد تقارير المنظمات الدولية، بما فيها مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومنظمة هيومان رايتس ووتش، تعرض المسلمين الروهنغيا في إقليم أراكان على يد الأجهزة العسكرية والأمنية والأغلبية البوذية لجرائم تقتيل جماعية، وجرائم اغتصاب تحت التهديد بالسلاح في حق النساء، والضرب المبرح، وحرق منازل سكان قرى بأكملها وتهجيرهم خارج حدود البلاد، كما أشار تقرير الأمين الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، الذي عينته مستشارة الدولة في ميانمار على رأس لجنة لتقصي الحقائق، إلى ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد مسلمي الروهنغيا.
ومن منظور التكييف القانوني للجرائم، تشكل هذه الأفعال المرتكبة من أشخاص في الجيش والسلطة أو بتواطؤ وحماية منهم، في حق أقلية دينية وعرقية، جرائم منصوصة ومعاقبة بموجب اتفاقات ومعاهدات دولية نذكر منها مثالاً لا حصراً:
1- جريمة الإبادة الجماعية على معنى المادة الثانية من اتفاق منع ومعاقبة جرائم الإبادة الجماعية، والمادة 6 من نظام روما لمحكمة الجنايات الدولية التي تعدد جرائم الإبادة الجماعية، ومنها قتل أعضاء من جماعة، أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطر بهم أو إخضاع جماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
2- جريمة ضد الإنسانية وفقاً لتعريفها الوارد في المادة 7 من نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، وتتجسد في حالة الروهنغيا المدنيين من خلال القتل العمد والإبادة وإبعاد السكان والنقل القسري للسكان والسجن والحرمان الشديد من الحرية البدنية، بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي والتعذيب والاغتصاب والاضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية، والإخفاء القسري للأشخاص وجريمة الفصل العنصري والأفعال اللا إنسانية التي تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو في أذى خطر.
3- جرائم التمييز على أساس الدين والمعتقد، وفقاً للمادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي توجب على الدول احترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، من دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب.
وعلى أساس هذا التكييف القانوني، ينعقد الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة الجنائية الدولية لمتابعة جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وفقاً للمادة 13 من نظام روما، إما بإحالة من دولة طرف، أو إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام للمحكمة، أو إذا قام المدعي العام من تلقاء نفسه بمباشرة تحقيق في ما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم.
ولما كانت ميانمار ليست طرفاً في نظام روما، فإن الطريقة الأولى لإحالة الضالعين في الجرائم ضد أقلية الروهنغيا تكون غير متوافرة بالنسبة لها؛ ويبقى إمكان الإحالة بواسطة مجلس الأمن ممكنة، بل واردة مع صدور تقارير عن الأمم المتحدة نفسها تؤكد ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد مسلمي الروهنغيا في إقليم أراكان، وقد يشجع على ذلك الموقف الأميركي الأخير من القضية الذي يصنف العنف المرتكب ضد الروهنغيا بأنه تطهير عرقي، كما يساعد فيه أيضاً عمل منظمة التعاون الإسلامي على حث المجلس على التصدي للموضوع؛ ومن شأن وزنها كثاني أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة أن يشكل وسيلة ضغط على المجلس لدفعه إلى ممارسة سلطاته بهذا الشأن، ولمجلس الأمن، إضافة إلى سلطة الإحالة إلى المحكمة الجنائية، سلطة إنشاء محكمة جنائية خاصة إذا رأى ذلك ضرورياً.
لكن تبقى الوسيلة الثالثة من وسائل الإحالة إلى المحكمة أكثر إتاحة من خلال قيام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية من تلقاء نفسه بفتح تحقيق في المسألة على أساس المعلومات التي تصل إلى علمه من مصادر موثقة، أو يستقيها هو من أي مصدر كان، كالحكومات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والضحايا أنفسهم، وهو الاختصاص الذي منحته إياه المادة 15 من نظام روما؛ ونظراً لعدم طرفية ميانمار في نظام روما، ونظراً كذلك لتسييس مجلس الأمن؛ فإن أقصر طريق إلى المحكمة قد يكون بواسطة قيام المدعي العام للمحكمة بفتح تحقيق بناء على تقارير المنظمات الدولية، ومنها الأمم المتحدة نفسها ومنظمة هيومان رايتس ووتش وغيرها، خاصة عندما توجه منظمة التعاون الإسلامي جهودها في هذا الاتجاه. وفي إطار جهود الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي لحل أزمة الروهنغيا وتخفيف معاناتهم، توصلت السلطات في بنغلاديش إلى اتفاق مع حكومة ميانمار لعودة اللاجئين إلى منازلهم؛ غير أن هذا الإجراء، على رغم مماطلة الجانب الميانماري في تنفيذه، لن يعدو مجرد ذر للرماد في عيون العالم لتمكين ميانمار من تخفيف الضغط الدولي عليها، وخاصة مع انصراف نظر العالم إلى أحداث وأزمات جديدة آخرها قضية اعتراف الرئيس الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل وما تلا ذلك من ردود فعل دولي واحتجاج شعبي. ومع تقلب المواقف في السياسة واعتمادها على المهدئات بدل الحلول الجذرية، فإن الحل الوحيد لمأساة أقلية الروهنغيا هو التسوية التامة لوضعهم القانوني من خلال إلغاء قانون 1982 الجائر وتمكينهم، تحت مراقبة دولية، من استعادة حقهم في الجنسية والمواطنة الكاملة والمساواة التامة والتمتع بجميع الحقوق والامتيازات التي يمنحها الدستور والقانون للمواطنين.
وسيكون من الإنصاف ممارسة نوع من التمييز الإيجابي لمصلحتهم، في مجالات التعليم والبنية التحتية والخدمات العامة والولوج للوظائف والتمثيل السياسي في مؤسسات الدولة، وذلك من أجل تعويضهم، ولو جزئياً، عن الأضرار الجسيمة التي لحقتهم بسبب 35 سنة من الظلم تحت قانون 1982.
*إدارة الشؤون القانونية بالأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي.