وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
يؤمن “خورخي ماريو بيرغوليو” الذي أضحى لاحقا بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية” فرنسيس الأول”، بأن المؤسسة الروحية لم توجد لتدين الناس بل لتضعهم وجها لوجه مع المحبة الخالصة النابعة من صميم رحمة الله. وحتى يتم ذلك، يقول مرارا إنه يجب الخروج من الكنائس والرعايا، الخروج والذهاب للبحث عن الناس حيث يعيشون، حيث يتألمون، وحيث تخبؤ آمالهم وتنتهك آدميتهم دون تمييز بسبب دين ولا لون، جنس أو عرق .
في قراءة سابقة تساءلنا: لماذا فرنسيس رجل محبوب من العالم الإسلامي؟ وللتذكير السريع.. فإن الرجل صاحب مواقف تقدمية تجاه المسلمين، لاسيما منكسري القلوب والنفوس منهم، المضطهدين والمعذبين بنوع خاص، وفي المقدمة مسلمو الروهنغيا الذين يلقون الهوان الكبير على يد المتطرفين البوذيين في ميانمار بنوع خاص.
يرفض فرنسيس الربط بين الإرهاب والأديان. وقد كررها بقوة في ديسمبر كانون أول الماضي حين قال إنه لا يوجد دين إرهابي، وإن العنف لا يمكنه أن يضحى مقدسا أبدا، وإن السلام فقط هو المقدس، وليس الحرب.
في رسالته بمناسبة “اليوم العالمي للسلام” يقول البابا فرنسيس: “الالتزام لصالح ضحايا الظلم والعنف ليس إرثا حصريا على الكنيسة الكاثوليكية” بل “حق لدى الكثير من التقاليد الدينية” التي تعتبر اللاعنف أمرا ضروريا وتتخذه أسلوبا للحياة.
لم يكن البابا فرنسيس ليصمت أمام التوحش الحادث لمسلمي الروهنغيا في ميانمار، فالإنسان في نظره كل لا يتجزأ ولهذا رفع الرجل صوته عاليا في فبراير شباط الماضي منددا بما يجري لهم، ويومها قال: إنهم يتعرضون للقتل والتعذيب لأنهم يريدون ممارسة ثقافتهم ومعتقداتهم الإسلامية. وأضاف: “اعتقد أنه ليس من الصواب وصم الإسلام بالعنف.. ليس صحيحا أو حقيقيا القول إن الإسلام هو الإرهاب”. وأضاف البابا يومها: “لا أحب الكلام عن العنف الإسلامي، لأنه في كل يوم أطالع الصحف أرى العنف هنا في إيطاليا شخص ما يقتل صديقته، وشخص ما يقتل حماته.. إنهم كاثوليك معمدون، ولو تحدثت عن العنف الإسلامي فلابد أن أتحدث عن العنف الكاثوليكي.. ليس كل المسلمين يتسمون بالعنف”… ونذكر هنا من جديد بأن الكلام لأعلى سلطة مسيحية في العالم، الحبر الأعظم فرنسيس.
والشاهد أن مأساة مسلمي الروهنغيا منذ ذلك الوقت وقبلها بسنوات تتفاقم بصورة كبيرة، ومعها يسعى الآلاف منهم للدخول إلى بنجلاديش على اثر الأحداث التي انتهت بمقتل العشرات خلال هجمات استهدفت مؤخرا القوات الأمنية شمالي إقليم أراكان غربي ميانمار. وتفيد المعلومات بأن هناك تجمعا يصل الى مائة ألف من مسلمي الروهنغيا على الحدود مع بنغلاديش التي ترفض دخولهم الى أراضيها بعد فرارهم، اثر تجدد قمع واضطهاد حكومة ميانمار لهم.
والشاهد أنه منذ عام 2012 وإقليم أراكان يشهد أعمال عنف من البوذيين ضد المسلمين، ما تسبب بمقتل مئات الأشخاص وتشريد مئات الآلاف وفق تقارير حقوقية دولية، فيما لجأ عشرات الآلاف من مسلمي الروهنغيا إلى مخيمات لجوء داخل الإقليم، وحاول مئات آخرون التوجه إلى دول مجاورة مثل ماليزيا وإندونيسيا.
ويشكل المسلمون في ميانمار نحو 4.3 % من إجمالي عدد السكان البالغ نحو 50 مليون نسمة، وينحدر أغلب المسلمين في البلاد لأقلية الروهنغيا التي يذكر وجودها بإقليم أراكان الذي يعد أكثر أقاليم ميانمار فقرا. وتعتبر حكومة ميانمار اقليم “الروهنغيا” مهاجرين غير شرعيين من بنغلاديش بموجب قانون أقرته عام 1982 بينما تصنفهم الأمم المتحدة على أنهم “الأقلية الدينية الأكثر اضطهادا في العالم”.
وفي مواجهة هذا الاضطهاد الممنهج والإبادة الجماعية تحدث البابا فرانسيس مرة جديدة على الملأ الايام الماضية، فقد أبدى أثناء صلاة الأحد 27 أغسطس تضامنه مع أقلية الروهنغيا المسلمة، وطالب باحترام حقوقها في أعقاب أعمال العنف التي حصلت في الأيام الأخيرة.
وأمام الآلاف الذين احتشدوا ظهر الأحد في ساحة القديس بطرس للمشاركة في صلاة التبشير قال البابا: “إن أخبارا حزينة قد وصلت حول اضطهاد الأقلية الدينية لإخواننا الروهنغيا”.
يدرك البابا أن هناك ظلما تاريخيا واقعا لامحالة على مسلمي الروهنغيا الذين يعاملون معاملة الأجانب في ميانمار، حيث يشكل البوذيون 90% من سكانها ويرفضون إعطاء الجنسية للأقلية المسلمة هناك، رغم أن بعضهم يعيش في البلاد منذ أجيال، ما يعني أن له حقا تاريخيا هناك بالفعل.
هل جاء إعلان الفاتيكان عن زيارة قريبة لبابا روما إلى ميانمار وبنغلاديش أواخر نوفمبر تشرين الثاني المقبل كي يحاول الرجل ذو الرداء الأبيض اقناع الحكومة البورمية بوقف هذا الاضطهاد الممنهج والمنظم ضد هذه الأقلية المسلمة المستضعفة، والتي باتت تمثل جرحا غائرا في النفس الإنسانية في القرن الحادي والعشرين؟
لم تفصح الدوائر الإعلامية في حاضرة الفاتيكان عن السبب المباشر في الأمر، أمر الزيارة، لكن يبدو واضحا أن هناك رابطا ما بين أحوال مسلمي الروهنغيا والزيارة، بل ربما يزيد المشهد عن ذلك، بمعنى محاولة التخفيف من غلواء التطرف البوذي في الفترة الأخيرة، حيث الأصولية البوذية في آسيا باتت تعمد الى اضطهاد كل من لا يتفق وتوجهاتها الدينية.. هل من مثال على ذلك؟
الشاهد أن ما يتعرض له مسلمو الروهنغيا في ميانمار يعاني منه بشدة المسيحيون في سيرلانكا ذات الأغلبية البوذية، فحسب التحالف الانجيلي المسيحي الوطني في سيرلانكا شن القوميون البوذيون أكثر من 20 هجوما على المسيحيين في البلاد منذ بداية هذا العام.
ومنذ أن انتخب الشعب السيرلانكي حكومة جديدة في العام 2015 سجلت أكثر من 190 حادثة عنف ديني ضد الكنائس ورجال الدين المسيحي، ففي مارس الماضي على سبيل المثال اقتحمت مجموعة من الرهبان البوذيين كنيسة للمسيحيين واحتجزوا مصلين موجودين هناك وهددوهم بالأذى، والغريب والعجيب أنه حينما وصلت الشرطة للتحقيق اتهمت أعضاء الكنيسة بـ “اخلال السلام”، ولعل الكارثة في عنصرية سيرلانكا أنها تنسحب على المسلمين بنفس انسحابها على المسيحيين، فهي الدولة الوحيدة في آسيا ذات الأغلبية السنهالية، وبالنسبة للسكان السنهاليين أن تكون سنهاليا يعني أنك لابد أن تكون بوذيا بالضرورة، ويعتبر السكان المحليون هناك المسيحيين شكلا من أشكال الاستعمار الخارجي.
يدرك البابا فرنسيس أن الطائفية هي اكبر وأخطر مرض يهدد الإنسانية منذ نشأتها وحتى الساعة، وهي داء عضال عرفته كل العصور وعركته كل الأمصار منذ زمن بعيد، حتى قبل ظهور الأديان التوحيدية، لاسيما وأن الطائفية أنواع، منها ما هو ديني وما هو سياسي وعرقي وأيديولوجي، وجميعها في نهاية الأمر تصب في دائرة الانتقاص من أضداد الطائفية، أي من المواطنة والتعددية.
تولد الطائفية والعنصرية الموت والكراهية، ولذا رأينا البابا فرانسيس في 23 أغسطس الماضي يتحدث عن “قدر المآسي في العالم” لكنه يقطع بأن “الكراهية والموت لن تكون لهما الكلمة الأخيرة”، جرى ذلك خلال لقاء الأربعاء في قاعة “نيرفي” بالفاتيكان. وأضاف: “حاولوا التأمل بنصوص الكتاب المقدس لا بطريقة مجردة بل بعد قراءة وقائع عصرنا الاطلاع على الأخبار أو الصحف حيث الكثير من المآسي، والتي تنقل أخبارا محزنه يجازف الجميع بالتعود عليها “.. وأضاف: ” لقد حييت بعض المؤمنين من برشلونة وكم من الأخبار المحزنة من هناك، وكذلك الحال مع الكونغو والعديد من الدول الأخرى.
يتذكر بابا الفاتيكان على حد قوله بل ويفكر دوما في “وجوه الأطفال الخائفين من الحرب، الأمهات الباكيات، الأحلام المحطمة لكثير من الشباب واللاجئين الذين يواجهون سفرا رهيبا ويستغلون مرات عديدة”، مبينا أن الحياة تشتمل على هذه الأمور أيضا للأسف، وأحيانا قد يقال بأنها تتمثل بهذه الأمور فوق كل شيء.
لا يتوقف البابا فرنسيس كثيرا عند دعوات الشر أو رغبات الانتقام، وآخرها التهديدات الإرهابية من قبل تنظيم داعش لكافة المسيحيين في أوربا بشكل عام، لاسيما مسيحيي أسبانيا بنوع خاص، والأمر تجاوز الحدود في التهديد الأخير، إذ بات البابا وروما مستهدفين بشكل شخصي.
لكن الرجل لا يخاف ويقابل الكراهية بالمودة، لا يخشى التهديدات لأنه يعلم أن الموت والحياة في يد واهب الحياة، وقد ظهر ذلك الإيمان جليا في رحلته إلى مصر في ابريل نيسان المنصرم، عندما رفض فكرة ركوب سيارة مصفحة خوفا على حياته.
والمثير الى حد التناقض في المشهد أنه فيما يحاول الرجل الدفاع عن مسلمي الروهنغيا، تتعالى أصوات التطرف والكراهية المتمثلة في “داعش” بخطط جديدة لنشر التطرف وإشاعة الرعب والإرهاب بين الآمنين حول العالم، وفي المقدمة منهم الشعوب الأوروبية، تلك التي توعدتها داعش خلال الأيام القليلة الماضية بخطة أطلقت عليها “الخيول السمومة” التي سترهب الكفار الأوروبيين في عقر ديارهم، والتي تتوعد بمزيد من الهجمات عبر السيارات التي “تدك جموع الكافرين” حسب وصف المنشور الذي كشف عن تجنيد عناصر أجنبية، وشكل خلايا لاستهداف التجمعات والمراكز التجارية المهمة في تلك الدول، كما هدد المنشور الداعشي من استهداف تلك الدول بسبب قيام ما أسماه “تحالف الكفر والردة بقصف مواقع دولة الخلافة”.
يرفض “فرنسيس” لغة الكراهية ويتسامى عن الاختلاف الذي أوجده الخالق سبحانه “لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة”، وعنده أبدا ودوما ينصب اهتمام الأديان على الانسان وكل الانسان، لأن الانسان هو فوق كل ما هو موجود في العالم المنظور، وهو القيمة العظمى بعد الله، والإنسان “صورة الله” في نظر المسيحية واليهودية، وخليفة الله على الأرض في نظر الإسلام، هذا المفهوم الانثروبولوجي اللاهوتي ينطلق من الإنسان رجلا وامرأة بسبب تمتعهما بالعقل والحرية ومفهوم الصورة أو الخليقة هو أن يتحلى الإنسان بصفات خالقه في كيانه وسلوكه.
نداء البابا فرنسيس لحكومات ميانمار وبنغلاديش وغيرهما حول العالم هو أن الله إله محبة وسلام ويريد أن يعيش البشر في غاية السعادة في واحة السلام والتنوع المتناغم.
المتابع لشؤون بابا روما يعرف أنه أعلن عام 2016 عاما للرحمة، والرحمة في أصل اللغة اللاتينية كلمة مركبة من “ميزر” أي بؤس و”كورد” أي قلب، وتعني “فتح القلب أمام البؤس”.. أي فتح القلوب والعقول أمام البائسين والمعذبين في الأرض لتكون لهم حياة أفضل، وهذا ما يفعله البابا مع مسلمي الروهنغيا وغيرهم حول العالم.. هل سينجح البابا في إنقاذ مسلمي الروهنغيا عبر رحلته القادمة إلى ميانمار وبنغلاديش؟
يأمل المرء أن يكون ذلك كذلك بالفعل.