تقرير: سها الشرقاوي
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
كأي مصري، تعاملت مع ما أثير بشأن حرق وقتل مسلمي «ميانمار» أو «بورما» باهتمام شديد يشوبه العديد من التساؤلات، أسمع الأخبار من وقت لآخر، وأشاهد بعض الصور مصادفة بشكل غير مقصود على مواقع التواصل الاجتماعي، لم أكن أصدق بعضها، إلى أن جاء يوم وسألت نفسي: «ماذا لو كانت كل هذه الأخبار والصور التي لا أصدقها حقيقة؟».
من هنا بدأت الاهتمام بمعرفة أصل الحكاية، والمتابعة بشكل يومي لما يتم نشره من أخبار عن هؤلاء المسلمين المتألمين، والبحث في بعض المواقع التي تنقل أخبار ميانمار واللاجئين المضطهدين من مسلمي «الروهنغيا»، حتى تشبعت منها، كونها مكررة، وليس فيها جديد.
قررت أن أحمل حقائبي، وأذهب إلى هناك في مهمة صحفية تستكشف ما يحدث رغم ما قد يمسني من مخاطر، بسبب ما يحدث هناك، ولكوني مسلمة أيضا.. عرضت الأمر على رئيس التحرير، الذي فاجأني بموافقته، بل مساندتي بكل الإمكانيات.
وما زادني إصرارًا على السفر أن كل من يعرف برحلتي هذه لم يصدق أني سأذهب إلى ميانمار، وحذرني من أنني سأموت لا محالة، رغم أنهم لا يصدقون الكثير من الأخبار التي تنشر.. فكانت رحلتي أو إن شئت فلتقل مغامرتي إلى «ميانمار»، أو تحديدًا على حدودها مع دولة بنغلادش.
الخطوة الأولى للمغامرة أو الرحلة أو المهمة كانت توجهي إلى سفارة «ميانمار» أو «بورما» بمسماها القديم في القاهرة، الموجودة في منطقة «الزمالك»، كي أحصل على «الفيزا»، حيث رحبوا بالأمر، ولم يمانعوا، لكنهم حذروني من أن إقليم «أراكان» الذي تقول الأنباء إن المسلمين يقتلون ويذبحون فيه، مغلق بـ«الضبة والمفتاح»، لذا قررت تغيير وجهتي بالذهاب إلى دولة بنغلادش، الأقرب إلى حدود «ميانمار»، التي يفر إليها مسلمو «الروهنغيا» من ميانمار.
بالفعل توجهت إلى سفارة بنغلادش في القاهرة، وحصلت على تأشيرة دخول البلاد بعد ٣ أيام، طلب القنصل خلالها مقابلتي لمدة دقائق، وسألني: «لماذا تذهبين إلى دولتنا؟»، فجاوبته بكل صراحة: «من أجل الروهنغيا».
أقلعت الطائرة بي من القاهرة متوجهة إلى أبوظبي في رحلة لمدة ٤ ساعات، حيث جلست في مطارها «ترانزيت» في انتظار طائرة بنغلادش، التي ما إن صعدت إليها بعد وصولها حتى اكتشفت فقدي لتليفوني المحمول فقلت لنفسي: «أول القصيدة…».
لم يخرجني من حالة التوتر التي عشتها لدقائق نتيجة فقد تليفوني سوى نظرات كل من حولي في الطائرة، وأعينهم التي تقول لي: «لماذا أذهب إلى بلدهم؟»، خاصة أنه من الواضح أني لست بنغالية أو أوروبية، وتكشف لهجتي أني عربية.
بعد رحلة طويلة استغرقت ٧ ساعات وصلت بنغلادش، فنزلت من الطائرة وبدأت في إنهاء الإجراءات، وكانت الساعة الحادية عشرة مساءً بتوقيت العاصمة «دكا»، وعندما علم ضابط الجوازات أني صحفية من الأوراق التي أحملها، طلب مني التوجه إلى مسؤول آخر في أمن المطار، للحصول على تصريح دخول، وهو ما استغرق ٧ دقائق فقط.
بدأت الرحلة مع الخروج من المطار، كأني في عالم آخر، فالجميع دون استثناء رجالا ونساء ينظرون إلي، وجدت شخصا يقول لي: «أنت مصرية؟»، فرددت غير مصدقة: «أيوه»، فقال: «إيه اللي جابك هنا؟».. ضحكت وقلت: «عملي»، ليخبرني أنه «عمر البطراوي»، أحد العاملين في السفارة المصرية.
وبشهامة المصريين –بالطبع- لم يتركني حتى ركبت الأتوبيس المتجه إلى المنطقة القريبة من حدود ميانمار، ولم يتركني إلا بعد أن تبادلنا أرقام الهواتف، وطلب مني التواصل معه إذا ما احتجت أي شيء.
تحركت الحافلة في حوالي الساعة ١٢ مساء، وهي لا تختلف عن حافلات النقل العام لدينا، بل أسوأ، والغريب أنها ملك شركة الاتحاد الإماراتية، صاحبة أكبر شركات الطيران في أبوظبي، حسب معلومات شركة السياحة التي أنهت لي الإجراءات.
تحركت من «دكا»، وهي العاصمة الرسمية والسياسية لـ«بنغلادش»، وتعد المركز الإداري والتجاري والصناعي في البلاد، ويبلغ عدد سكانها حوالي ١٢ مليونًا و٥٦٠ ألف نسمة، وهي مزدحمة بشكل لا يصدق، وشوارعها ضيقة للغاية.
جلست بجواري فتاة بنغالية يقترب عمرها من ١٦ عامًا، ومن الواضح أنها بوذية، وبرفقتها عائلتها، فتبادلنا الحديث بعد ٤ ساعات من الصمت كانت تنظر إلى خلالها، إلى أن ابتسمت وسألتني: «من أين؟» فأجبتها: «من مصر»، فردت بعفوية: «لا أعرفها».
نزلنا إلى استراحة بالطريق حوالي الرابعة فجرا لمدة نصف ساعة لتناول الطعام، وهو عبارة عن أرز مع اللحمة، لكني طلبت «بيض مقلي» -باعتباره مضمونا- إلى جانب خبز، وبادر سائق الأتوبيس بدفع الحساب قائلًا: «إنتِ ضيفتنا هنا».. ثم أكملنا الرحلة.
وصلت إلى بلدة اسمها «شيتاغونغ» في تمام العاشرة صباحا، ولم أنم بسبب ترقبي لما سيواجهني.. عرفت أن هذه المدينة تقع في الجهة الجنوبية من البلاد، وتحتل المرتبة الثانية من حيث المساحة، وتعد من أهم مدن بنغلادش في الموقع والتجارة، ويوجد فيها أكبر ميناء في البلاد، بحسب ما قاله أحد مرافقي في الأتوبيس.
سألته: «لماذا الجميع ينظر إلي؟»، فقال بلغة إنجليزية: «من العيب أن ترتدي الفتيات هنا فستانا طويلا.. هذا خروج عن المألوف».. تبادلنا الحوار، وسألني: «من أين؟» فقلت: «مصر»، فقال: «لا أعرفها!».
من هذه البلدة ركبت حافلة أخرى، وتحركت، فرأيت ما لم أره في الليل: الأسواق مكتظة بالناس على الجوانب، وهم مرتدون الزى البنغالي سواء السيدات أو الرجال، أما صور رئيس الوزراء الشيخة حسينة، فتحتل جميع الشوارع.
وصلت «كوكس بازار» في حوالي الحادية عشرة مساءً، التي تقع في خليج البنغال إلى الجنوب من مدينة «شيتاغونغ»، وهي مدينة ساحلية مهمة في بنغلادش بسبب وجود شاطئ فيها يمتد لمسافة تزيد على ١٢٠ كم، لذلك يعتبر الأطول على مستوى العالم.
ذهبت مباشرة إلى الفندق الذي سأقيم فيه، وقبل التوجه إليه، حاولت التواصل مع شخص يدعى «أبو عمار» مسلم روهنغي من السعودية، وهو مدير تحرير لأكبر موقع باللغة العربية يرصد أحوال وأخبار «أراكان»، ويسمى بنفس الاسم، والذي ساعدني كثيرا في إزالة العديد من العقبات، ووفر لي بنغاليين ساعدوني في مهمتي.
كما تواصلت مع شخص يدعى «عثمان»، روهنغي الأصل، يعرف اللغة العربية، وعرفت منه أن هناك سعوديين جاءوا لتقديم إعانات ومساعدات إلى اللاجئين، فتواصلت معهم، وتقابلنا في اليوم التالي، في تمام السادسة صباحا، لأبدأ مهمتي التي حضرت لها، وهي الرحلة إلى الحدود البنغالية مع ميانمار لرصد حقيقة ما يحدث هناك.
٢٣٣ عامًا من القتل والقمع والتشريد لرجال ونساء وأطفال «أراكان»
عمر الأزمة يمتد إلى نحو ٢٣٣ عامًا، وتحديدًا عام ١٧٨٤، حين احتل الملك البوذي البورمي «بوداباي»، إقليم «أراكان»، وضمه إلى ميانمار خوفًا من انتشار الإسلام في المنطقة.
عاث «بوداباي» في الأرض فسادًا، فدمر كثيرًا من الآثار الإسلامية والمساجد والمدارس، وقتل العلماء والدعاة، واستمر البوذيون البورميون في اضطهاد المسلمين ونهب خيراتهم وتشجيع البوذيين «الماغ» على ذلك خلال فترة احتلالهم ٤٠ سنة، التي انتهت بمجيء الاستعمار البريطاني في ١٨٢٤.
في تلك السنة ضمت بريطانيا ميانمار إلى حكومة الهند البريطانية الاستعمارية، وفي عام ١٩٣٧ جعلت بريطانيا ميانمار مع «أراكان» مستعمرة مستقلة عن حكومة الهند البريطانية الاستعمارية كباقي مستعمراتها في الإمبراطورية آنذاك، وعُرفت بحكومة ميانمار البريطانية.
في عام ١٩٤٢ تعرض المسلمون لمذبحة وحشية كبرى من قِبَل البوذيين «الماغ» بعد حصولهم على الأسلحة والإمداد من قِبَل إخوانهم البوذيين «البورمان» والمستعمرين وغيرهم، وراح ضحيتها أكثر من ١٠٠ ألف مسلم، وأغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وشردت مئات الآلاف خارج الوطن، ومن شدة قسوتها وفظاعتها لا يزال الناس- خاصة كبار السن- يذكرون مآسيها حتى الآن، ويؤرخون بها، ورجحت بذلك كفة البوذيين «الماغ»، وكانت مقدمة لما يحصل بعد ذلك.
في عام ١٩٤٧ قبيل استقلال ميانمار عقد مؤتمر عام في مدينة «بنغ لونغ» للتحضير للاستقلال، ودعيت إليه جميع الفئات والعرقيات إلا المسلمين «الروهنغيا» لإبعادهم عن سير الأحداث وتقرير مصيرهم.
وفي عام ١٩٤٨، وبالتحديد يوم ٤ يناير، منحت بريطانيا الاستقلال لـ«ميانمار» شريطة أن تمنح لكل العرقيات الاستقلال عنها بعد ١٠ سنوات، إذا رغبت في ذلك، ولكن ما إن حصل «البورمان» على الاستقلال حتى نقضوا عهودهم، ونكثوا على أعقابهم، واستمروا في احتلال «أراكان» بدون رغبة سكانها من المسلمين «الروهنغيا» والبوذيين «الماغ» أيضًا، مرتكبين ممارسات بشعة ضد المسلمين.
ومنذ أن استولى العسكريون الفاشيون على الحكم في ميانمار بعد الانقلاب العسكري بواسطة الجنرال «نيوين» المتعصب عام ١٩٦٢، تعرض مسلمو «أراكان» لكل أنواع الظلم والاضطهاد من القتل والتهجير والتشريد والتضييق الاقتصادي والثقافي ومصادرة أراضيهم، بل مصادرة مواطنتهم بزعم مشابهتهم لـ«البنغاليين» في الدين واللغة والشكل.
5 ملايين مسلم على 20 ألف ميل
تقع دولة ميانمار «ميانمار حاليا» في الجنوب الشرقي لقارة آسيا، ويحدها من الشمال الصين والهند، ومن الجنوب خليج البنغال وتايلاند، ومن الشرق الصين ولاووس وتايلاند، ومن الغرب خليج البنغال والهند وبنغلادش.
فيما يقع إقليم «أراكان» في الجنوب الغربي لـ«ميانمار» على ساحل خليج البنغال والشريط الحدودي مع بنغلادش، وتقدر مساحة إقليم «أراكان» قرابة ٢٠.٠٠٠ ميل مربع، ويفصله عن ميانمار حد طبيعي هو سلسلة جبال «أراكان يوما» الممتدة من جبال الهيمالايا.
ويبلغ عدد سكان ميانمار أكثر من ٥٠ مليون نسمة، وتقدر نسبة المسلمين بـ١٠٪ من مجموع السكان نصفُهم في إقليم «أراكان» ذي الأغلبية المسلمة، حيث تصل نسبة المسلمين فيه إلى أكثر من ٧٠٪، أما الباقون، فمن البوذيين «الماغ» وطوائف أخرى.
ويتكون اتحاد ميانمار من عرقيات كثيرة تصل إلى أكثر من ١٤٠ عرقًا، وأهمها من حيث الكثرة «البورمان»، وهم الطائفة الحاكمة و«شين» و«كايا وركهاين الماغ» والمسلمون ويعرفون بـ«الروهنغيا»، وهم الطائفة الثانية بعد البورمان، ويصل عددهم إلى قرابة ٥ ملايين نسمة.
ويطلق على سكان «أراكان» اسم «الروهنغيا»، وهى مأخوذة من «روهانغ» الاسم القديم لـ «أراكان».
12 موقعًا للمخيمات في «تكناف».. والجيش يشرف على توزيع الإعانات
من غير تفكير أو تخطيط. كانت وجهتي إلى الحدود الميانمارية البنغالية، لرصد أحوال مسلمي «الروهنغيا» الفارين إلى جارتهم، وكانت بلدة «تكناف» هي وجهتي للوصول إلى نهر «ناف»، وهو نهر دولي يرسم من جنوب شرق بنغلادش وميانمار الغربية، الحدود بين البلدين.
ورغم أن اللاجئين يعتبرون هذا النهر طريق الهروب من الموت، إلا أنه في الحقيقة هروب إلى موت آخر، حتى إن الجميع يطلق على هذا الهروب «رحلة الموت»، وذلك بسبب أن العديد من القوارب التي تنقل هؤلاء اللاجئين تتعرض إلى الغرق، ما يدفعهم إلى النزول للنهر لمحاولة السباحة، فيغرق معظمهم.
تحركت إلى «تكناف» من «كوكس بازار»، حيث مكان إقامتي في بنغلادش، المسافة بينهما تستغرق حوالي ٤ ساعات بالسيارة. و«تكناف» تلك مدينة تقع في جنوب جمهورية بنغلادش على حدود ميانمار، وتعد مركزًا لكل تجار ميانمار، ويقع ضمن نطاقها ١١ قرية.
الوصول إلى الحدود له أكثر من طريق، لكنى اخترت أن يكون البحر هو طريق رحلتي، فعلى شمالي سيكون البحر البنغالي، أطول بحر في العالم، وعلى اليمين الجبال الخضراء.
بعد ساعة تقريبا، تضمنت المرور على مجموعة من الأسواق المختلفة التي تبيع منتجاتها لمسلمي «الروهنغيا» والبنغال، بدأت تتضح معالم الطريق والحدود أكثر فأكثر، ومعها بدأ ظهور مسلمي «الروهنغيا» وهو اللقب الذي يفضلونه عن مسمى «الميانماير»، خاصة أن «الميانماري» مسمى «بوذي».
بدأ ظهور اللاجئين داخل المخيمات الموجودة على الناحيتين بطول الطريق، وهذه المخيمات تنقسم إلى ١٢ نقطة، وكل نقطة لها مسؤول عنها، وتشرف عليها وزارة الخدمة المدنية البنغالية، ويتم تسجيل الأسماء عن طريق لجنة يشرف عليها أحد قيادات الجيش البنغالي، لضمان وصول الإعانات وتوزيعها.
وبطول الطريق توجد نقاط تفتيش من الجيش والشرطة البنغالية، ويتعاملون مع اللاجئين باحترام، ووجودهم بالعشرات في هذه النقاط، للحماية وتقديم المساعدات وتنظيم دخول المساعدات والإعانات.
توقفت في إحدى هذه النقاط، وتوجهت إلي ضابط فيها، قال: «نقدم الدعم وكل المساعدات لإخواننا الروهنغيا، ولا نبخل عليهم بأي مساعدة ليلا ونهارا، وأغلب الإعانات تأتي من الشعب البنغالي».
ما لمسته في هذه النقاط، هو وجود تعاطف من جانب الضباط والجنود مع هؤلاء اللاجئين، كما تعاملوا معي كزائرة لبلادهم بمنتهى الود والاحترام، أما المدهش بالنسبة لي أنه كان يوجد منهم من لا يعرف مصر، أو موقعها الجغرافي.
واصلت رحلتي إلى الحدود تحت السيول والأمطار والسحاب، ولكم تخيل هذا الجو داخل المخيمات، التي تبنى من الأخشاب والصاج والمشمع، وإذا كنت تأذيت من هذا الجو فهو حالة يواجهها اللاجئون بشكل يومي، خاصة خلال هذا التوقيت من العام داخل الأراضي البنغالية.
ناجون: طرد وقتل الملايين بدأ في الستينيات.. و«السوشيال ميديا» وراء اهتمام العالم
طوال الطريق رافقني بنغالي واثنان آخران من «الروهنغيا» في العشرينيات من عمرهما، هربا وهما طفلان بنفس الطريقة التي يهرب بها «الروهنغيا» الآن، وثلاثتهم عملوا على مساعدتي ودعمي في مهمتي بكل الطرق، سواء بالتصوير أو الترجمة، أو التعامل مع اللاجئين وإقناعهم بطبيعة ما أؤديه بالضبط.
أمدني الثلاثة ببعض المعلومات عن «الروهنغيا»، وطبيعة أزمتهم على وجه التحديد، وقال أحد الشابين من مسلمي ميانمار: «طردنا من بيوتنا وقتلنا ليس وليد اللحظة، ورغم أن الكثير يظن أن الأزمة من وقت قريب، إلا أنها بدأت عام ١٩٦٢ عقب الانقلاب العسكري الفاشي، حين طرد أكثر من ٣٠٠ ألف إلى بنغلادش».
ويضيف: «في عام ١٩٧٨ طُرد أيضا أكثر من نصف مليون مسلم، وكانت أوضاعهم كما هي الآن»، موضحًا أن هذه الفترة شهدت موت ما يقرب من ٥٠ ألفا من الشيوخ والنساء والأطفال، وبعد مرور ٤ سنوات أخرى ارتكبوا عملية تطهير عرقي شهدت طرد أكثر من ١٥٠ ألف مسلم آخرين، لبناء قرى للبوذيين».
ويتابع: «في عام ١٩٩١ تم طرد نصف مليون آخرين، ثم عادت الأزمة مرة أخرى عام ٢٠١٢، والفرق بين الماضي والحاضر، أن صوتنا وصل للعالم الآن، بفضل مواقع التواصل الاجتماعي».
واستكمل حديثه بأسى: «المسلمون في (أراكان) محرومون من مواصلة تعليمهم في الكليات والجامعات، ومن يذهب إلى الخارج يتم حذف اسمه من السجلات الحكومية، وإذا ما عاد يتم رميه في السجون، فضلًا عن حرماننا من الوظائف الحكومية مهما كان مؤهلنا الدراسي، إلى جانب منعنا من السفر إلى الخارج، خاصة لأداء فريضة الحج».
ويشير إلى أن السفر إلى عاصمة الدولة «رانغون» أو أي مدينة أخرى جريمة يعاقب عليها، بل يمنع التنقل من قرية إلى أخرى، إلا بعد الحصول على تصريح، مضيفًا: «لا يسمح لنا باستضافة أحد في بيوتنا، ولو كنا أشقاء وأقارب، إلا بإذن مسبق».
وتدخل في الحديث مرافقي «الروهنغي» الثاني قائلًا: «ندفع ضرائب باهظة عن كل شيء، غير الغرامات المالية الضخمة، فضلًا عن منعنا من بيع المحاصيل إلا للجيش الميانماري، أو من يمثله، بأسعار زهيدة، وذلك لإبقائنا فقراء، أو إجبارنا على الرحيل».
بعد حوالي ٣ ساعات من السير على الطريق، ومن حولنا المخيمات، وصلنا قبل غروب الشمس إلى نقطة التفتيش الرئيسية للجيش، وهي الأخيرة قبل قوات حرس الحدود التي تقع مباشرة على الحدود وتفصل بين ميانمار وبنغلادش.
اتخذت طريقي إلى النقطة، فوجدت مئات من «الروهنغيا» أغلبهم من الأطفال موجودين بجوار النقطة، قادمين من ميانمار، أو للحصول على المساعدات، بدت ملابسهم ممزقة، وكانوا حفاة، وعلامات الشقاء تعلو وجوههم، والأطفال لا يكفون عن البكاء.
تحدث إلى هؤلاء أحد رؤساء المخيمات، ويحمل الجنسية الميانمارية، عبر ميكروفون، فنصحهم بعدم الخروج ليلا، وتجنب الذهاب مع أي فرد لا يعرفونه خوفا من سرقة الأعضاء أو القتل، خاصة أن سرقة الأعضاء انتشرت في المخيمات، وتحاول الحكومة البنغالية وضع حد لذلك.
نزل مرافقي للتحدث إلى ضابط النقطة لكى يسمح لي بالدخول أكثر إلى الحدود، فطلب منه أن يقابلني، وبالفعل تحدثنا، فطلب الكارنيه الصحفي وجواز السفر، وبعد فحصهما وافق على دخولي، رغم أن مرافقي كانوا يراهنونني على عدم موافقته أو السماح لنا بالمرور، وطلب أن أعود قبل حلول الليل.
أكياس بلاستيكية للحماية من المطر
انطلقنا بالسيارة متجاوزين نقطة التفتيش، وبعد عدة أمتار نزلنا من السيارة، وبدأنا في السير على أقدامنا في اتجاه الحدود، فوق المياه والطين بفعل الأمطار والسيول. تجد هناك مجموعات من «الروهنغيا» الفارين، وحولهم «تكاتك» تقوم بإيصالهم، وأكشاك تبيع بعض المواد الغذائية والفواكه أقامها بنغاليون.
التقيت مجموعة من السيدات «الروهنغيات»، يبدو من هيئتهن مدى الفقر والمأساة التي يعشن فيها، أما الأطفال فهيئتهم تدمى القلوب، لا ملابس تسترهم، ويلجؤون إلى الأكياس البلاستيكية لحمايتهم من المطر والبرد.
قابلت أسرة كاملة مكونة من ٥ أفراد، الأم تحمل طفلًا لم يكمل شهره الأول، وقالت: «نمكث هنا من ٣ أيام بعد حرق بيتنا وطردنا من قريتنا في وطننا، ولا نجد مأوى، وابني يرفض الرضاعة وأخشى أن يصاب بمرض ولا أجد من يعالجه»، لافتة إلى أن السلطات الميانمارية قتلت زوجها.
وأضافت أخرى باكية: «احتجزوا أسرتي المكونة من ٧ أفراد فيهم المسن والمعاق، وقضوا عليهم جميعًا، وحرقوا منازلنا، واستطعت الهرب بطفلي الرضيع». وتتابع ثالثة: «ذبحوا زوجي أمام عيني وحاولوا اغتصابي وضربي بمنتهى الوحشية.. أنقذونا.. لماذا يسكت العالم على هذه المجازر؟».
تركت ثلاثتهم، وابتعدت أمتارا قليلة، لأجد حكايات أخرى عن المأساة.. واحدة منهن كانت تبكى بشدة اقتربت منها لتفاجئني بقولها: «ذبحوا ابني الرضيع.. خطفوه من يدى وعمره ٧ أشهر وذبحوه أمامي بسبب هروب زوجي، وحاولوا الاعتداء علي جنسيا.. أمكث هنا من ١٠ أيام دون مأوى أو شراب، ورغم كل ذلك أتمنى العودة لبلادي».
وتتدخل أخريات في الحديث، تقول إحداهن بعبارات مختصرة: «ذبحوا أختي أمام عيني بالسكين»، وتضيف أخرى عما يفعله الجنود البوذيون بمسلمات «أراكان»: «يضربون السيدات ويغتصبون بناتهن، ويوجد كثيرات منهن حوامل ولا يعرفن ماذا يفعلن. كثير منهن يتمنى الموت، ولا يجدن من يساعدهن».
وصلنا بعد حوالي نصف ساعة من المشي وسط الطين وحكايات مسلمات «الروهنغيا» إلى نقطة حرس الحدود، وهي النقطة الأخيرة الفاصلة بين نهر «ناف» الذي يفصل بين بنغلادش وميانمار.
وافق الضباط للمرة الثانية على أن أقترب من شاطئ نهر «ناف»، الذي يسبح فيه الفارون إلى بنغلادش، وقررت التوجه إلى جزيرة «سانت مارتن» الواقعة داخل النهر، لكي أشاهد بداية رحلة الفرار، حيث يأتون من وراء الجزيرة فارين من أوضاعهم.
الوصول إلى الجزيرة صعب للغاية، ويتطلب المرور على مجموعة من الجسور الخشبية المتهالكة، المقامة من أخشاب الأشجار والغاب، والمعرضة للانهيار أو الوقوع من فوقها، وبالفعل تعرضت للوقوع داخل مياه النهر، لأشعر بحجم المأساة والمعاناة الحقيقية التي يتعرض لها «الروهنغيا» لكي يفروا بأنفسهم من بطش «البوذيين».
بخروجي من النهر، دارت في عقلي عدة تساؤلات: «كم سيدة تعرضت مثلي للسقوط؟، وكم طفلا لم ينجده أحد، وكم من الرضع سقطوا ولم يخرجوا؟، وكم سيدة (حامل) توقفت مكانها لأنها لم تتمكن من السير؟».
تخطينا الجسور، لنجد أرضا طينية للغاية، يصعب السير فيها، فما بالكم بمبيت عشرات هنا عند قدومهم أثناء الليل؟. ركبنا مركبا للوصول إلى الجزيرة، وبالمصادفة كان يوجد مركب عائد به مجموعة من الفارين، وتعد الرحلة بالمركب مخاطرة، في ظل إمكانية تعرض الراكبين إلى الغرق.
«رحلة الموت».. الهروب داخل قوارب محملة بـ«الجاموس».. السير 15 يومًا.. وعبور نهر كامل
بعد نصف ساعة تقريبا وصلنا لجزيرة «سانت مارتن»، حيث تبدو أمامنا ميانمار على مرمى البصر.. في الجزيرة حياة أخرى، يتواجد بها بنغاليون، وبها أسواق، وهي جزيرة صغيرة في الجزء الشمالي الشرقي من خليج البنغال، على بعد حوالي ٩ كم إلى الجنوب من طرف شبه جزيرة «كوكس بازار- تكناف»، وتشكل الجزء الجنوبي من بنغلادش.
قابلنا أحد كبراء الجزيرة، وهو بنغالي، أخذنا إلى نهر «ناف»، مرورا بجسر، حيث وجدت مجموعة من القوارب القادمة توا من ميانمار ومحملة بالأبقار والجاموس يحيط بها العشرات من «الروهنغيا».
يصل إلى الجزيرة حوالي مركبين أو ٣ يوميًا، وبدأ ذلك في التزايد منذ عيد الأضحى الماضي، حسب رواية أحد سكان الجزيرة، الذي قال: «بدأ نزوح اللاجئين قبل عيد الأضحى، وكانت الأعداد كبيرة.. وصلوا عن طريق قوارب صيد بنغالية»، لافتًا إلى أنه يمكن أن يصل ١٥٠ شخصًا في اليوم الواحد، مضيفًا: «المؤلم هو لجوء بعضهم إلى المشي لمده ١٥ يومًا كي يصل إلى أراضينا».
قطع حديث الرجل ولفت انتباهنا ظهور شخص في العشرينيات من عمره قادمًا من ميانمار وهو عائم، وكان الماء يتساقط منه، ويبكى بشدة. اقتربنا منه فقال: «وصلت منذ ساعات هاربا من تعذيب وبطش الجنود البوذيين وجئت سابحا بمساعدة براميل الزيت عبر نهر ناف، ومعي كيلو جرام من الأرز، وتركت أهلي هناك، والآن جالس على حافة النهر في انتظارهم». قضينا في الجزيرة ساعة ونصفا، وحل الليل، فكان علينا العودة بواسطة «توك توك»، في الظلام الدامس، وهي الرحلة التي يجتازها الفارون، وتعبر عن مأساة حقيقية، فالسقوط في الطين تعرضنا له أكثر من مرة، لنعود بمأساة تفوق مشاهدها أكثر مما نسمع عنه بمراحل.
في مخيم «بالوخالي».. الطعام «أرز وبسكويت» والمياه «طلمبات».. وكله بـ«الطابور»
في اليوم الثاني لي على الحدود مع ميانمار، استيقظت مبكرا، فالمهمة اليوم ثقيلة، بعد أن شهد الأمس رحلتي إلى نقطة الحدود لرصد رحلة الموت التي يخوضها عشرات من «الروهنغيا» بشكل يومي، وكان مروري على المخيمات وأنا داخل السيارة التي تقطع الطريق بين «تكناف» وجزيرة «سانت مارتن».
أما اليوم، فسأخوض رحلة من نوع خاص لرصد الحال داخل المخيمات التي تؤوى آلافا من «الروهنغيا»، وكانت وجهتي إلى مخيم «بالوخالي»، وهو من أكبر المخيمات التي تؤوى لاجئين، ويبلغ عددهم فيه حسب تقديرات رسمية حوالي ١٧٠ ألف لاجئ.
منذ الوهلة الأولى ستدرك أن البشر في ذلك المخيم يعيشون مأساة حقيقية، فالروائح الكريهة تزكم الأنوف، والأطفال ملابسهم ممزقة، وبعضهم لا يرتديها من الأساس، أجسادهم عليها طبقة من الأتربة، ما يعنى عدم وجود مصادر للنظافة أو الاستحمام، فالحمامات هنا في المخيم عامة، والواحد منها يخدم العشرات، لذلك فإن دخولها بمواعيد محددة، أما المياه المخصصة للشرب، فهي من خلال الطلمبات التي يتبرع بها بعض أهالي الخير من الدول المختلفة، وخاصة البنغال.
اقتربت من مكان توزيع المعونات للتعرف على تفاصيل عميلة التوزيع، فوصفها أحد المتطوعين البنغاليين داخل المعسكر بقوله: «هذه النقطة متواجدة من عام ٢٠١٦ ويوجد هنا حوالي ٢٠٠٠ أسرة، والعدد دائمًا في زيادة، فالمخيم بدأ بحوالي ١٢ ألفا، والآن وصل عددهم إلى ١٧٠ ألف لاجئ في المخيمات، ومسجل فقط منهم ٥٠ ألف شخص، ونوزع كروتًا على اللاجئين مدونا فيها الاسم، كي يحصل على حقه من الإمدادات». ويضيف: «المعونات تأتي مرتين كل شهر، ونوزعها على أجزاء بشكل يومي، وهذه المعونات عبارة عن مواد غذائية كالأرز والخبز، وبالتأكيد لا تكفي كل هذه الأعداد».
في المعسكر، قابلنا يحيى أنس، وهو رجل أعمال بنغالي، أنشأ مخيم «بالوخالي» وغيره، وهو يقدم يوميا إعانات للاجئين في شكل ملابس أو طعام، حاولنا التحدث معه فرفض، واكتفي بقوله: «ما أفعله هو فقط عمل لله، وهو واجب علينا تجاه هؤلاء البؤساء».
طوابير اللاجئين التي تنتظر الإعانات، سواء طوابير الرجال أو السيدات، مشهد دائم داخل المعسكر، اقتربنا منها للحديث مع من يقفون بها، وكان يبدو عليهم علامات الإرهاق والتعب، وبعضهم ظهر عليه أثر التعذيب الذي تعرضوا له، وكثيرون منهم يقف ساعات طويلة لحجز دوره في الحصول على الإعانات.
يقول أحدهم: «نقف بالساعات في طابور طويل لانتظار الطعام بشكل يومي، فالحشود أصبحت خارج السيطرة، وتتلخص المعونات في البسكويت وأكياس الأرز التي تبلغ ٢٥ كيلو جراما»، وحكى آخر عن مأساة خروجه من «أراكان» قائلا: «خرجنا من القرية كمجموعة كبيرة، حوالي ١٠٠ شخص، بعد طردنا من بلدنا، وركبنا القارب متجهين إلى بنغلادش، لكن المركب غرق ومات نصفنا».
أحد اللاجئين بكى بمجرد الاقتراب منه، وهو عجوز لا يستطيع الوقوف، قال: «قُتل أولادي، ولم يتبق إلا ولد واحد من ٦ أولاد، وأقول فقط (حسبي الله ونعم الوكيل)، يقولون لنا: هذه ليست بلدكم. وكنا نعيش فيها غرباء، ممنوعين من الحركة، والآن ليس لدينا هوية أو مواطنة ولا نعرف إلى أين نحن ذاهبون؟».
آخر يقول: «أتيت إلى المخيمات من عشرين يوما، هاربا من أفعال البوذيين، بعدما حرقوا بيوتنا وشردونا وقتلوا الكثير منا، لذلك هربنا وجئت إلى هنا أنا وزوجتي التي كانت حاملا، وكنت أخشى أن تلد ونحن في الطريق، لكن بمجرد وصولنا وضعت وهي الآن في حالة سيئة والطفل عمرة الآن ١٩ يوما».
ويلتقط منه شاب طرف الحديث، قائلا: «الحياة صعبة في المخيمات، ولا نستطيع النوم بسبب الناموس والحشرات، وهناك صعوبة بالغة في الحصول على المعونة التي تأتينا، ولا نستطيع الخروج من هذا المكان إلى أي بلد آخر، فلا نملك أي إثبات شخصية، فنحن مشردون، وأطالب العالم بالإنصاف فقط».
سيدات يروين وقائع الذبح والقتل والاغتصاب.. ويناشدن شيخ الأزهر: أنقذنا
في طابور السيدات، تأخذ المآسي شكلا آخر، فهناك سيدات يبكين، وأخريات جالسات على الأرض يحملن أطفالهن أو الرضع الذين ولدوا داخل المخيم، عليهن جميعا علامات البؤس والحزن والوجع، وتسمع روايات عن الاغتصاب والذبح والتعذيب، وقتل أزواجهن أمامهن.
إحدى السيدات روت مأساتها وحصار البوذيين لهم: «جمعونا وضربونا بالعصى وركلونا بالأحذية، ثم اغتصبنا الجنود واحدا تلو الآخر»، وأخرى في العشرينيات قالت: «قتلوا زوجي أمامي بالمسدس، ولم يمر على زواجي به عام، وحرقوا بيتنا، فهربت، وأعيش الآن مع أهلي».
مأساة تلك السيدة أكثر بشاعة: «٥ جنود اغتصبوا ابنتي أمام عيني، وبعدما انتهوا هاجمني الجنود وضربوني في جميع أنحاء جسدي وسحلوني، ففقدت الوعى، وأفقت على خبر وفاة ابنتي، لأتمنى الموت في كل لحظة».
وقالت سيدة أخرى هاربة من الجحيم على حد وصفها: «حرقوا بيتنا وأسرتي المكونة من ٥ أفراد ماتت بالكامل، أحد أبنائي احترق وهو نائم، وعندما أفاق، وجرى ضربوه بالرصاص أمام عيني، واستطعت الهرب، وجئت إلى هنا منذ سبعة أشهر لإرسال رسالة للعالم الذي يتركنا في هذا الجحيم لعله يستطيع إنقاذ المتبقي منا».
في طابور آخر، قالت شابة تبلغ من العمر ٢١ عاما: «دخلوا منازلنا، وأطلقوا النار على أشقائي ثم حرقوا منازلنا، ولحسن حظنا أنا وشقيقتي كنا خارج المنزل، وعلمنا بذلك من جيراننا الذين ساعدونا في الهرب معهم إلى بنغلادش عبر القوارب، ونحن نعيش هنا دون أي أحد من أهالينا، ولا أعرف حتى الآن مصير أبى وأم».
وقالت أخرى: «هربت بأعجوبة من بين أيديهم ومعي طفلي بعدما هاجموا منزلنا، لكنهم قتلوا زوجي وأنا وحيدة الآن، وحتى الآن لا أصدق أني على قيد الحياة، كانوا يجمعون كل النساء في ساحة كبيرة لتفتيشهن والاستيلاء على مجوهراتهن، وخلال عملية التفتيش يلمسون أجسادهن».
بعد الحديث مع الرجال والسيدات، حمّلني الجميع رسالة إلى الأزهر الشريف وشيخه أحمد الطيب: «نريد الحياة والإنصاف، أنقذونا مما نحن فيه منذ سنوات طويلة»، وطالبوا بأن يأتي إليهم شيخ الأزهر، لكى يرى المأساة بعينه، بعدما تخطت حدود الإنسانية، كما ناشدوا الجميع بتقديم خدمات طبية، خاصة للسيدات اللواتي تعرضن للاغتصاب، ويرفضن الحديث عن حكاياتهن، وأيضًا طالبوا المجتمع الدولي بحقهن القانوني والدعم الاجتماعي، من أجل معالجة الإصابات الناجمة عن الاعتداء.
الأطفال يواجهون الاختطاف وسرقة الأعضاء.. ولاجئون: نريد الحياة كبشر
حكايات الأطفال في المخيم لا تقل مأساة عن حكايات الرجال والسيدات، اقتربت من طفل يبدو عليه الشقاء، يبلغ من العمر حوالي ٨ سنوات، ما جذبني إليه أنه لم يكن يتحدث مثل الباقين، وفوجئت بأنه لا يستطيع الكلام، وعندما سألت عن سبب ذلك عرفت أن البوذيين قطعوا لسانه، وأنه ليس الحالة الوحيدة التي تتعرض لذلك الأمر، بخلاف الضرب والتعذيب.
طفل آخر قال إنهم قتلوا أمه الحامل، وفتحوا بطنها بسكين وذبحوا الجنين، وهو يعيش الآن مع أبيه الذي استطاع الهرب به.
ما يخشاه الأطفال اللاجئون في المخيم تعرضهم للاختطاف وبيع أعضائهم، فهو وفق ما قالوا أمر منتشر داخل المخيمات. يقول أحد الأطفال إنه تعرض لمحاولة خطف، من جانب مجهولين، حيث عرض عليه بعض الرجال الذهاب معهم لكى يعطيه حلوى، ولكنه خاف وجرى بعيدا حتى لا يتعرض للخطف، وأضاف أنه في اليوم التالي عرف أن كثيرا من الأطفال قد اختفوا من المعسكر ولا أحد يعرف طريقهم حتى اليوم. لكن الكثيرين قالوا إنهم ضحية بيع الأعضاء.
تركنا مخيم «بالو خالي» لننتقل إلى مآسي أخرى داخل مخيم «كوتا بالي» وهو يقع على أطراف من ميانمار متداخلة مع حدود بنغلادش، لجأ إليه «الروهنغيا» بعد حرق بيوتهم ليكونوا بعيدين عن الذبح والحرق، يفصل بين الحدود مجرد «ترعة» صغيرة، ويصلهم القليل من الإعانات والإمدادات، نظرا لبعد هذا المخيم عن المخيمات الأخرى.
الحال لم يختلف عند دخول المعسكر، حيث التفت حولنا مجموعة من الأطفال والسيدات، منهم سيدة روت مأساتها قائلة: «وأنا أحاول الهروب من ميانمار جذبوني من ملابس وقطعوها حتى ظهر جسدي أمام زوجي الذي كان يتعرض للضرب، ثم اغتصبوني بشكل جماعي أمام أعين زوجي»، وكشفت أنه كان يتم اغتصاب بنات لا تتجاوز أعمارهن الــ١٣ عامًا، وختمت السيدة موجهة رسالة لمنظمات حقوق الإنسان: «نعيش كالحيوانات، فقط، نريد أن نحيا كبشر».
إحدى السيدات قالت جملة واحدة، ثم ابتعدت وهى تغالب دموعها: «ذبحوا زوجي بالسكين أمامي، وحاولوا اغتصابي»، وقالت أخرى: «ذبحوا ابنتي الكبرى بساطور، لأنها طلبت منهم أن يتركوني».
سيدة عجوز كانت تجلس على الأرض مبتورة الرجلين، قالت: «عندما حاولت الهرب من بطش جنود البوذيين انفجرت قنبلة تحت قدمي كانت مزروعة كلغم، وساعدني البعض وحملوني وأنا فاقدة للوعى، وأفقت وأنا في مستشفي في بنغلادش، بعد إجراء عملية بتر».
في المخيم شاهدت نقطة إسعاف، اقتربت منها وتحدثت مع طبيبة بنغالية، قالت إن أكثر الإصابات من الأطفال، وأكثر المترددين من الحوامل، والأدوية تأتى من خلال التبرعات التي يتبرع بها البنغاليون.
وأضافت الطبيبة، وهي تعمل صيدلانية ومسؤولة عن نقطة الإسعاف: «أكثر المرضى من الأطفال، ووصلت الحالات إلى ٣٠٠ تقريبا، من بينهم أطفال حديثو الولادة، ويوجد نقص في الأدوية نظرا لكثرة الحالات».