[caption align="alignleft" width="300"]مسلمو بورما.. ضحايا الجغرافيا السياسية..سعود البلوي [/caption]
التحول الديموقراطي الذي حدث في بورما قبل سنتين ومسارعة دول العالم للانفتاح عليها يعكس وجود خريطة مصالح سياسية كبيرة تتجاوز جعل المسألة الإنسانية للمسلمين في بورما على قائمة الأولويات
رغم كون مسلمي الروهينجا في ميانمار (بورما) "الأقلية الأكثر اضطهادا في العالم" بحسب تعبير الأمم المتحدة بسبب ما يواجهونه من فظائع وخاصة مع عودة قضيتهم للواجهة على خلفية أحداث العنف التي اشتعلت في 2012، إلا أن الصمت العالمي بشكل عام والغربي بشكل خاص تجاه قضيتهم يثير الكثير من التساؤلات. ومثل هذه التساؤلات تبرز بصورة أكبر إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن بورما ظلت لعقود دولة منبوذة من أغلب المجتمع الدولي بسبب الحكم العسكري القائم فيها منذ الستينات بعد انقلاب على الديموقراطية، وما لذلك الحكم من سجل دولي مشين فيما يتعلق بحقوق الإنسان وما تم وضعه من عقوبات اقتصادية غربية عليه.
التحول الديموقراطي الذي حدث في بورما قبل سنتين ومسارعة دول العالم للانفتاح عليها يعكس وجود خريطة مصالح سياسية كبيرة تتجاوز جعل المسألة الإنسانية للمسلمين في بورما على قائمة الأولويات. تكمن الأهمية الأساسية لبورما هنا في موقعها الجغرافي حيث إنها تشكل الحاجز الطبيعي بين الصين والمحيط الهندي. الصين تعاني من تحد جيو-سياسي كبير يتمثل في كون إطلالتها البحرية الوحيدة هي على المحيط الهادي من خلال بحر الصين، وبالتالي فإن أغلب التجارة الصينية باتجاه الغرب نحو المحيط الهندي والشرق الأوسط وأفريقيا وصولا لأوروبا محكومة بمضيق مالاكا في إندونيسيا. هذا المضيق يمثل اليوم شريان الحياة للصين سواء في وارداتها الأساسية كالنفط أو في تجارتها مع الجزء الأكبر من العالم (80% من واردات الصين من النفط تمر اليوم من مضيق مالاكا). وصول الصين لأسواق العالم محكوم إما بمضيق مالاكا في إندونيسيا أو مضيق بنما باتجاه الشرق، ويكمن التحدي الأساسي للصين هنا في كون كلا المضيقين يقعان تحت السيطرة الاستراتيجية للولايات المتحدة، وهو ما يمثل للصين تحديا استراتيجيا يجب التعامل معه، وعنق زجاجة يحجز توسعها البحري.
بورما تتحول هنا لنقطة التفاف نحو المحيط الهندي تعطي الصين فرصة لتجاوز هذا "الحصار البحري"، وفي المقابل تتحول بورما لحاجز طبيعي يعطي الغرب فرصة لتحجيم الصين جزئيا. قبل عدة سنوات سعت الصين للدفع بمشروع إنشاء خط أنابيب لنقل النفط والغاز من أحد موانئ بورما إلى مقاطعة يونان جنوب غرب الصين، ومن شأن إنشاء مثل هذا الخط أن يتيح للصين تجاوز معضلتها الاستراتيجية المتمثلة في مضيق مالاكا، حيث من المتوقع أن ينقل هذا الخط ما مقداره 22 مليون طن من النفط سنويا، وهو ما سيخفض اعتماد الصين على مضيق مالاكا بنحو الثلث تقريبا.
إقليم أراكان (راخين) الذي تقطنه أقلية الروهينجا المسلمة يمثل الواجهة البحرية الأساسية لبورما على خليج البنجال (المحيط الهندي)، وهذا ما يجعل للإقليم أهمية استراتيجية سواء لبورما نفسها أو الدول التي لها مصالح سياسية كبرى فيما يخص دور بورما الإقليمي. خط الأنابيب المذكور من المفترض أن يبدأ من مدينة كياوكبيو (Kyaukpyu) في إقليم أراكان حيث تتمتع هذه المدينة بوجود ميناء طبيعي فيها يمثل النقطة الأمثل لإنشاء مثل هذا الخط. إن تأثير إنشاء خطوط لنقل النفط والغاز والبضائع من المحيط الهندي مباشرة إلى الصين يماثل في تأثيره بشكل جزئي نفس تأثير اكتشاف رأس الرجاء الصالح على المنطقة العربية وكذلك نفس تأثير قناة السويس على رأس الرجاء الصالح في مرحلة لاحقة، وفي هذه الحالة يصبح التأثير الاستراتيجي لبورما على مضيق مالاكا كبيرا، على الأقل فيما يتعلق بقدرة المضيق ومنطقة جنوب شرق آسيا على التأثير في الصين، ولعل هذا يفسر جزءا من موقف إندونيسيا من أزمة الروهينجا رغم كون إندونيسيا أكبر دولة إسلامية حيث لم تتخذ إندونيسيا موقفا قويا من الحكومة البورمية وفضلت العمل على معالجة القضية ضمن اتحاد دول جنوب شرق آسيا (آسيان) الذي يضم إندونيسيا وبورما دون دعم أي توجه لمزيد من تدويل القضية. التحركات الغربية والأميركية على وجه الخصوص لا يمكن فصلها عن هذه النظرة الاستراتيجية، فرغم الدعوات الغربية لحكومة بورما بوقف العنف ضد الروهينجا ومعالجة المسألة بسرعة، إلا أن الأمر لا يمكن أن يرقى للعودة إلى حالة التعامل الغربي مع بورما ما قبل 2011، فـ"الانفتاح الاستراتيجي" على بورما يقع ضمن دائرة التوجه الاستراتيجي الجديد نحو منطقة آسيا والمحيط الهادي التي تشكل العنوان الأبرز لسياسة الولايات المتحدة في الفترة القادمة، ويظهر الأمر أكثر في تطور العلاقة بين كل من الولايات المتحدة والغرب عموما مع دول منظمة آسيان، وكان آخرها مشاركة الرئيس أوباما في قمة آسيان بكمبوديا في نوفمبر الماضي.
التفاعل الدولي مع أزمة الروهينجا لا يتعلق بالأساس بكونهم مسلمين من عدمه بقدر ما يتعلق بتقاطع خطوط مصالح وسياسات دول كبرى، وهو ما يجعل الروهينجا والمسلمين عموما في بورما ضحايا للجغرافيا السياسية التي جعلتهم في تقاطع طرق المصالح هذه. وفي المقابل فإنه ليس من المتوقع رغم مأساة المسلمين في بورما أن يتم اجتراح حل لقضيتهم دون الأخذ في الاعتبار هذه الأبعاد السياسية الأساسية، فأزمة المسلمين بشكل عام في بورما جزء من عدة أزمات داخلية أخرى هناك إحداها هي أزمة إقليم كاشين الواقع شمال بورما، حيث يشهد هذا الإقليم مطالبة مسلحة بالانفصال منذ الستينات، ورغم التوصل لوقف إطلاق نار بين المتمردين المطالبين بالانفصال في الإقليم والحكومة عام 1994، إلا أن القتال عاد ليتجدد العام الماضي بالتزامن مع اشتعال أزمة الروهينجا في إقليم أراكان أيضا.
إن أي تحرك سياسي لمحاولة معالجة قضية المسلمين في بورما لا بد أن يأخذ في الحسبان الأبعاد السياسية والاستراتيجية المتعددة خلف المسألة، وإذا كان العمل من خلال الأمم المتحدة والمنظمات الدولية مطلوبا بالاستناد إلى المواثيق العالمية لحقوق الإنسان وغيرها، فإنه من جهة أخرى لا بد من العمل على صعيد سياسي آخر بهدف تحييد قضية المسلمين هناك من خريطة المصالح والسياسات المتقاطعة، وهو أمر سيتطلب جهدا عربيا وإسلاميا كبيرا، ولعل النفط يكون مدخلا مهما وورقة يمكن لدول الخليج الاستفادة منها في دفع الصين ودول المنطقة هناك نحو معالجة القضية بصورة أكثر جدية.