بقلم: د. محمد هشام راغب
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
تمثل الحملة العسكرية لحكومة ميانمار على أقلية الروهنغيا المسلمة في أغسطس ٢٠١٧ حلقة جديدة من سلسلة من حملات الاضطهاد والتنكيل التي بدأت بشكل فعال منذ أربعة عقود في ١٩٧٨، وربما تعد الحلقة الأخيرة الأشد قسوة ووحشية.
تحذر مفوضة الأمم المتحدة لأزمة ميانمار يانغي لي منذ مارس ٢٠١٧ من أن السلطات الحكومية تسعى لطرد كل المسلمين من البلاد في حملة تطهير عرقي قد ترقى لجرائم ضد الإنسانية، وكرر زيد بن رعد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان القول بأن حملة تطهير عرقي متكاملة الأركان تتم بشكل متسارع بينما وصف الأمين العام للأمم المتحدة الحملة بأنها تطهير عرقي على نطاق واسع بحسب القانون والأعراف الدولية وأن الوضع كارثي.
واعتبرت الأمم المتحدة أقلية الروهنغيا واحدة من أكثر الأقليات اضطهاداً في العالم، بينما دعا ١٤ فائزاً بجائزة نوبل للسلام مجلس الأمن الدولي لاتخاذ الإجراءات اللازمة، واتهموا ميانمار بارتكاب “تطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية .
من هم الروهنغيا؟
الروهنغيا أقلية عرقية مسلمة، تقطن غالبيتهم في ولاية راخين (أراكان) في جنوب غرب دولة ميانمار ذات الأغلبية البوذية. ترفض حكومة ميانمار الاعتراف بأن الروهنغيا يشكلون أقلية عرقية مميزة داخل ميانمار، ويدّعون بدلًا من ذلك أن الروهنغيا ينحدرون من أصل بنغالي ووجودهم داخل ميانمار ما هو إلا نتاج لحركة الهجرة غير الشرعية من بنغلادش، وذلك بالرغم من وجود أدلة تاريخية تثبت وجودهم في هذه البلاد منذ القرن الثامن الميلادي ، كما أن مقاومتهم الطويلة للاستعمار البريطاني الذي استمر لمائة وعشرين عاماً في القرنين التاسع عشر والعشرين موثقة بما لا يدع مجالاً للشك، وعلى عكس البوذيين الذين يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة في بنغلادش ذات الأغلبية المسلمة، سُلبت من الروهنغيا المسلمين في ميانمار جنسيتهم خلال عقود من الحكم العسكري.
واليوم، تقود ميانمار حكومة مدنية اسمياً برئاسة السيدة الحائزة على جائزة نوبل، أونغ سان سو تشي، ولكن هذا التحول من الحكم العسكري المباشر لم يساعد الروهنغيا. إنهم يعيشون في ظل نظام الفصل العنصري، وتحركاتهم مقيدة بشدة، وهم محرومون من جنسية بلادهم بحسب دستور ١٩٨٢، كما لا يحق لهم التعليم في المدارس الرسمية والعمل بالوظائف الحكومية والرعاية الصحية الحكومية كما تؤخذ عليهم تعهدات رسمية بعدم إنجاب أكثر من طفلين.
تعرض مسلمو الروهنغيا لحملات عنصرية ازدادت وتيرتها وحدتها بعد الانقلاب العسكري عام ١٩٦٢ والذي تبعه تهميش للمسلمين وطردهم من الجيش والوظائف العليا، وإعطاء قادة الجيش الضوء الأخضر لبعض الجماعات البوذية المتطرفة لشن حملة كراهية ضد المسلمين، ووقعت حملات تهجير قسري وقتل وحرق لمنازلهم ومزارعهم في أعوام ١٩٧٨، ١٩٩١،١٩٩٢ ، ٢٠٠١، ٢٠١٢، ٢٠١٣ ومؤخرا في ٢٠١٦ و٢٠١٧.
في هذه الدراسة لتقدير الموقف نحاول الإجابة على أربعة أسئلة ملحة: حول طبيعة الاضطهاد الحاصل وكونه عرقياً أم دينياً، وأسباب رفض رئيسة حكومة ميانمار الضغوط المتكررة لإنكار حملات التطهير العرقي، وموقف الجماعة المسلحة للدفاع عن الروهنغيا والجماعات المسلحة للأعراق الأخرى، وأخيراً ما هي الحلول السياسية الممكنة لإحداث انفراجة في محنة الروهنغيا؟
هل الاضطهاد الحاصل يرجع لدوافع عرقية، دينية أم سياسية؟
بدأت حملة الاضطهاد والتطهير العرقي لأسباب عنصرية عرقية، ثم اتخذت منحى دينياً في السنوات الأخيرة، وذلك لثلاثة أسباب:
الأول: أن حكومة ميانمار تضطهد كل الأعراق الأخرى تقريباً في البلاد، وتمثل عرقية البامار الحاكمة أكبر أقلية في البلاد (حوالي ٤٠٪ من السكان)، وقد اضطرت العديد من العرقيات الأخرى أن تشكل ميليشيات مسلحة للدفاع عن نفسها.
اتسمت الحياة السياسية في ميانمار بعد الاستقلال (١٩٤٨) بصراعات عرقية مريرة وحروب أهلية لا تكاد تتوقف، وكان في المركز منها في جميع المواجهات أقلية البامار الحاكمة. تفاصيل كل هذه الصراعات من الصعب التأكد منها لأن الحكومة تمنع وسائل الإعلام الأجنبية من تغطيتها إلا بتصاريح خاصة ونادرة.
فقد كونت أقلية الكاشين المسيحية (حوالي ٤٪ من السكان) جبهة مسلحة تسمى “جبهة تحرير كاشين” قاتلت الحكومة المركزية حتى توصلت لاتفاق لوقف إطلاق النار بين الجانبين. كما استطاعت أقلية “وا” في ولاية “شان” أن يكون لها كيان يتمتع بالحكم الذاتي ومرتبط بعلاقات وثيقة مع الصين، وأصبح لديهم جيش مسلح تحت اسم جيش “دولة وا المتحدة” يضم حوالي ٣٠ ألف مقاتل، وقد قاتل الجيش الحكومة المركزية لوقت طويل حتى توصلوا أيضًا لوقف لإطلاق النار.
نفس الحال بالنسبة لأقلية “المون” التي خاضت صراعًا مسلحًا مع الجيش باستخدام مجموعات مسلحة لحزب يعرف باسم “ولاية مون الجديد”، وبينهم وبين الحكومة المركزية هدنة مؤقتة. كما تتعرض أقلية “الكاريني” المهمشة بولاية “كايان” لحملات اضطهاد شبيهة بما يتعرض له مسلمو الروهنغيا. وقد شنت الحكومة حملة موسعة عرفت بحملة “كوكانغ” في فبراير ٢٠١٥ حيث أجبرت حوالي خمسين ألفا من متمردي الأقليات الصينية على النزوح واللجوء إلى الجانب الصيني من الحدود.
الثاني: أن هناك نسبة من مسلمي ميانمار من غير الروهنغيا، وهؤلاء لا يسكنون في إقليم أراكان، وإنما ينحدرون من عرقيات أخرى، وبعضهم مستقر في العاصمة يانغون وفي مدن أخرى، ولا يتعرضون لنفس الاضطهاد الذي يعاني منه مسلمو الروهنغيا، وإن تعرضوا لحملات متصاعدة من التفرقة العنصرية منذ عام ٢٠٠١. لا نستطيع أن نحدد أعداد هؤلاء فقد دأبت الحكومة على عدم الإفصاح عن تفاصيل التعداد السكاني في السابق، لكنها أعلنت في ٢٠١٦ بيانات التعداد السكاني الخاصة بالدين والعرق لعام ٢٠١٤، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ ٣٣ عامًا، وبعد عامين من إجراء التعداد، لتظهر تلك البيانات تراجعاً في نسبة مسلمي البلاد، من ٣.٩% من إجمالي تعداد السكان لعام ١٩٨٣، إلى ٢.٣%، في حين لم يشمل التعداد حوالى ١.٢ مليون نسمة من مسلمي الروهنغيا.
وأشارت نتائج التعداد إلى أن المسلمين المسجلين، يقدرون بمليون و ١٤٧ ألف و٤٩٥ نسمة، من تعداد سكان البلاد البالغ ٥١.٥ مليون نسمة.
هؤلاء المسلمون المسجلون رسميا لا نستطيع الجزم بموثوقية عددهم.
الثالث: أن الأحداث التي أحاطت بالمنطقة بعد هجمات ١١ سبتمبر في الولايات المتحدة ثم غزو أفغانستان وقبلها بشهور عندما هدمت حركة طالبان تمثالي بوذا الأثريين في باميان بأفغانستان، قد ألقت بظلالها على المنطقة ومنها ميانمار، وربما يكون اضطهاد مسلمي الروهنغيا بدأ عرقيا – كسائر الأعراق الأخرى – ثم أخذ منحى دينيا، خاصة بعد إعلان تنظيم القاعدة في تصريح لزعيمه أيمن الظواهري أعلن فيه تعهده “لن ننسى مسلمي ميانمار وسنقوم باللازم لإنقاذهم”.
وقد شهدت السنوات الأخيرة ظهور مجموعات من متطرفي البوذيين الميانماريين، وقد شكلوا تنظيما مسلحا (٩٦٩) رفع لواء العداء للمسلمين ويعلن تصميمه على تطهير البلاد منهم. من أبرز القيادات البوذية المتطرفة الكاهن آشين ويراثو (Ashin Wirathu) وقد تم سجنه نظرا لتصريحاته التي تحرض على قتل المسلمين، ولكن تم الإفراج عنه في ٢٠١١، وأصبح من أكثر الكهنة البوذيين شعبية، وله ولتنظيم “٩٦٩” معجبون وأتباع داخل القيادات العليا للجيش وفي الحزب الحاكم. وهم ينادون علانية بإجلاء المسلمين، وأن المساجد هي ثكنات الأعداء، وأن البوذية والبلاد تتعرض لخطر داهم من الأقلية المسلمة.
لماذا رفضت رئيسة الحكومة الحائزة على جائزة نوبل للسلام الضغوط المتكررة لإنكار حملات التطهير العرقي؟
حصلت أونغ سان سو تشي على جائزة نوبل للسلام، وجوائز حقوقية عالمية رفيعة أخرى بسبب حملتها السلمية للتحول الديمقراطي في بلادها ضد المجلس العسكري الحاكم، وهي الحملة التي أدت إلى فرض الإقامة الجبرية عليها لست سنوات، وتحت الضغط الدولي تم الإفراج عنها وكونت “العصبة الوطنية من أجل الديمقراطية” وأصبحت بعد انتخابات ٢٠١٥ مستشارة الدولة وهو منصب يوازي رئاسة الوزراء. وبرغم تجربتها الحقوقية فإن موقفها من الانتهاكات البشعة التي وقعت لمسلمي الروهنغيا كانت مشينة ومخيبة للآمال.
تعرضت سو تشي لانتقادات بسبب صمتها إزاء هذه الانتهاكات، ففي حوار صحفي عام ٢٠١٦، أبدت زعيمة حزب الأغلبية غضبها بعد أن أجرت صحفية مسلمة مقابلة معها سألتها فيها عن أعمال العنف المعادية للمسلمين. ووفق مؤلف كتاب حول سيرة سو تشي، فإن الأخيرة قالت بعيداً عن الكاميرا بعد نقاش ساده التوتر مع الصحفية مشعل حسين “لم يقل لي أحد إن مسلمة ستجري مقابلة معي”.
وبعد تردد وتحفظ طويل من الإعلام العالمي بدأت مؤسسات إعلامية وحقوقية بالتنديد بموقف سو تشي ومساهمتها في التنكيل بمسلمي الروهنغيا. ففي مايو ٢٠١٦، وصفت صحيفة نيويورك تايمز موقف سو تشي من الروهنغيا بالجبان، ودعتها إلى إعادة النظر فيه على وجه السرعة، قائلة إن منظمات حقوق الإنسان طالبت واشنطن بتجديد العقوبات ضد بلادها.
وأشارت الصحيفة إلى أن سو تشي لا ترغب في إطلاق “الروهنغيا” وهو الاسم الذي يستخدمه المسلمون هناك لأن البوذيين “العنصريين المتعصبين” -وهم الأغلبية الطاغية بالبلاد- يرغبون في استمرار كذبة أن الروهنغيا ليسوا ميانماريين، بل بنغاليون وعليهم العودة لبلادهم.
ووصفت نيويورك تايمز طلب سو تشي من واشنطن عدم استخدام مصطلح روهنغيا بأنه خاطئ ومخيب للآمال بشدة، مؤكدة أن الروهنغيا ميانماريون تماماً ومساوون لها هي نفسها في ذلك.
ودعت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) لجنة نوبل للسلام إلى سحب جائزتها منها، كما شن ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي حملات لذات الهدف، لكن أحد أعضاء اللجنة السابقين استبعد سحب الجائزة. وقد ظهرت سو تشي بتحد في إبريل ٢٠١٧ وساندت “هجمات الجيش ضد الإرهابيين الروهنغيا” ووصفت مشاهد النزوح والمآسي بأنها مفبركة.
وصفت صحيفة نيويورك تايمز موقف سو تشي من الروهنغيا بالجبان، ودعتها إلى إعادة النظر فيه على وجه السرعة، قائلة إن منظمات حقوق الإنسان طالبت واشنطن بتجديد العقوبات ضد بلادها.
موقف سو تشي قد يفسره أن أغلبية بوذية تؤيد انتهاكات العسكر، وهي تريد المحافظة على شعبيتها السياسية في البلاد، بينما يفسر موقفها آخرون بأنها لا تستطيع مواجهة الجيش لأنه الحاكم الفعلي للبلاد من وراء ستار رقيق لحكومة أتت بانتخابات، فهي تعتقد أن الصدام مع الجيش سيأتي بنتائج عكسية وأن انقلاباً عسكرياً جديداً قد يقع بالبلاد. وأياً ما كان سبب صمتها عن المذابح التي وقعت لمسلمي الروهنغيا فإن هذا الموقف يلقي بظلاله وشكوكه على تلك الجوائز الدولية المسيسة، وعلى انتقائيتها، وعلى أن المواقف الصلبة تظهر عند وقوع الانتهاكات على الغير وليس فقط على النفس، وأن صاحبة كتاب “التحرر من الخوف” بحاجة إلى قراءته من جديد.
ما هي الحلول السياسية الممكنة لإحداث انفراجة في محنة الروهنغيا؟
لا تبدو في الأفق حلول لمحنة الروهنغيا، وقد يطول أمد وجودهم في تلك المخيمات البائسة على الحدود البنغالية لشهور أو أكثر، إذ ظهرت الأمم المتحدة بصورة عاجزة، بل ومستعدة لإقرار حالة التطهير العرقي برغم التنديد بها، حيث لمح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرتش بإمكانية توطين الروهنغيا في إحدى جذر بنغلادش!
الجيش الميانماري لن يستجيب للنداءات الإنسانية، ولا لبيانات مجلس الأمن الضعيفة، ولن يتراجع ويسمح بعودة اللاجئين الفارين إلى وطنهم إلا تحت ضغط المصالح. الجيش غير راض تماماً عن الجماعات القومية المتطرفة التي يقودها الرهبان البوذيون برغم شعبيتها الواسعة، بل إن أخباراً يتم تداولها أن الجيش يفكر في حظر أكبر هذه الجماعات القومية (تنظيم حماية العرق والدين، أو تنظيم ماباتا)، لكنه يخشى من التداعيات السياسية. الحكم العسكري الاستبدادي لا يحبذ التناحرات العرقية لخشيته أن تؤدي لانفلات زمام الأمور من يديه، وفي نفس الوقت فإن العقوبات الاقتصادية قد أثرت عليه في السابق، وأجبرته على تقديم تنازلات وإن كانت أكثرها شكلية.
لا تبدو في الأفق حلول لمحنة الروهنغيا، وقد يطول أمد وجودهم في تلك المخيمات البائسة على الحدود البنجالية لشهور أو أكثر، إذ ظهرت الأمم المتحدة بصورة عاجزة، بل ومستعدة لإقرار حالة التطهير العرقي برغم التنديد بها، حيث لمح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتريتش بإمكانية توطين الروهنغيا في إحدى جذر بنغلادش!
ولعل أكبر البلاد تأثيرًا هو الصين نظراً للعلاقات التجارية المتنامية مع ميانمار، حيث حالة الفقر وانعدام البنى التحتية تقريباً (٧٠٪ من السكان لم تصلهم شبكات الكهرباء)، والفساد ينخر في المؤسسات الرسمية (ترتيب ميانمار ١٧٣ من ١٧٩ دولة بحسب مؤسسة الشفافية الدولية).
شركة “بتروتشاينا” الصينية بدأت بالفعل إنتاج الغاز (وتصديره للصين) من حقل تشوي البحري الميانماري، واستثمرت الصين أكثر من ١٠ مليار دولار لإنشاء خطي أنابيب غاز ونفط بطول ٧٧٠ كم من ميناء كيوكفيو بولاية أراكان إلى موانئ بجنوب الصين، هذا المشروع من شأنه أن يقلل اعتماد الصين على خطوط النقل البحرية البعيدة من أفريقيا والشرق الأوسط، وتفاوض ميانمار على المشاركة في حق التحكم في الميناء الحيوي بحيث تقيم فيه منطقة اقتصادية كاملة، أو حتى شراء الميناء بالكامل.
كل هذا النفوذ والمصالح الصينية تجعل التفاوض مع الصين حلًا رئيسيًا لمشكلة الروهنغيا، إذ إن صراع الأقليات يهدد المصالح الصينية في هذه المنطقة، لكن حتى الآن لم ترد بكين الضغط على حلفائها في السلطة المركزية الميانمارية للتفاوض مع الروهنغيا مثل باقي الأقليات في البلاد، الذين أعلنوا الوصول إلى اتفاق سلام في ٢٠١٥ مع الحكومة، وذلك بسبب عدم اعتراف حكومة ميانمار بالعرق الروهنغي من الأساس، وإنكار انتمائه لبورما القديمة.
يرى مارك كانينغ السفير البريطاني السابق (٢٠٠٩-٢٠١١) في ميانمار أن البلاد لن تستطيع أن تلمح معالم التحسن الاقتصادي والانفتاح على محيطها الإقليمي إلا بالدعم الصين، وهنا يأتي الدور الصيني المهم لإيجاد مخرج سياسي لمأساة الروهنغيا.
إن آخر ما تريده الصين أن تؤثر مأساة مسلمي الروهنغيا على المسلمين الصينيين، ولا تريد بالتالي أن تظل هذه المأساة حية في الإعلام الإقليمي والعالمي، والذي سيصور الصين – في نهاية المطاف – أنها الداعم الرئيس لنظام وحشي عنصري عدو للمسلمين. إن الضغوط الشعبية والحقوقية سيكون لها أثر فعال إذا تواصلت ولم تهدأ بمرور الوقت، والضغوط الرسمية البنجالية والماليزية والتركية والإندونيسية والباكستانية دوليا وبخاصة مع الصين، يمكن أن تؤتي ثمارها.
إن آخر ما تريده الصين أن تؤثر مأساة مسلمي الروهنغيا على المسلمين الصينيين، ولا تريد بالتالي أن تظل هذه المأساة حية في الإعلام الإقليمي والعالمي، والذي سيصور الصين – في نهاية المطاف – أنها الداعم الرئيس لنظام وحشي عنصري عدو للمسلمين.
الخلاصة:
إن الضغوط الشعبية والحقوقية والرسمية – وبهذا الترتيب بالأهمية – يمكن أن تعيد الروهنغيا إلى وطنهم بضمانات دولية معقولة ربما خلال أسابيع قليلة، وأما إذا تراجعت أو خفتت هذه الضغوط فربما تمتد مأساة الروهنغيا لسنوات تنشأ فيها أجيال جديدة في المخيمات.
إذا تم توطين الروهنغيا بشكل دائم في بنغلادش تحت أي مظلة دولية، فستكون سابقة خطيرة لإقرار سياسة التطهير العرقي، ومن ثم يمكن القياس عليها في مناطق نزاعات أخرى، ولعل ما يشاع عن صفقة في الشرق الأوسط لإعادة توطين الفلسطينيين ليست بعيدة عن هذا السياق.
احترام حقوق الأقليات مبدأ إنساني مهم، ولكن النظام العالمي القائم يستخدمه في حالات كثيرة لمصالح سياسية تتسم بالأنانية، حتى صار حقاً يراد به باطل، فأصبح يستخدم بشكل انتقائي (كالتفرقة بين حقوق السنة والأكراد في العراق) أو بهضم حقوق الأغلبية والسماح بتحكم الأقلية (كما في حال العلويين في سوريا والحوثيين في اليمن) أو لابتزاز بعض الحكومات (كالضغط على حقوق البهائيين في البحرين والكويت) أو لمنع استقرار بعض الدول (كتهميش غالبية الباشتون في أفغانستان).
إن استخدام ورقة حقوق الأقليات لتحقيق مصالح سياسية يفرغ المعنى الإنساني وربما يغري بعض الأنظمة الاستبدادية بمزيد من قمع الأقليات. حالة مسلمي الروهنغيا كاشفة لهذا الخلل الخطير، وقد يؤدي الحرج الذي تسببت فيه لدفع بعض الحكومات القوية لحلحلة الأزمة أو حلها.
دور الجماعات البوذية المتطرفة مهم وحاضر بقوة في هذه المحنة. التنظيمات البوذية المتطرفة تتدثر بشعارات قومية، وتقود حراكا شعبوياً عنصريا.ً تنظيم “٩٦٩” ينادي علانية منذ مطلع ٢٠٠١ باضطهاد المسلمين ومقاطعتهم وحظر الشراء من متاجرهم وأعمالهم، وقد علق بعض قادة الجيش الميانماري بقولهم “إننا دولة نتجه للاقتصاد الحر، فلا شيء يمنع هذه المقاطعة”. برغم معارضة الجيش لهذه التنظيمات في بداية الأمر، إلا أنه أصدر بياناً رسمياً يصف فيه تنظيم “٩٦٩” بأنه رمز للسلام وأن زعيمه آشين ويراثو هو ابن الإله بوذا”.
في تحقيق أجرته وكالة رويترز عام ٢٠١٣ وجدت أن حملة ٢٠١٢ التي خلفت مئات القتلى من مسلمي الروهنغيا واضطرت ١٤٠ ألفاً للنزوح إلى بنغلادش، كانت على يد عصابات من القوميين يقودهم رهبان بوذيون. ولم يقتصر الأمر على مسلمي الروهنغيا، بل رصدت الوكالة أن رهباناً بوذيين قتلوا ٤٤ وشردوا ١٣ ألفا من المسلمين في مارس ٢٠١٣ في مدينة ميختيلاMeikhtila بوسط ميانمار، وأن مجموعات أخرى من الرهبان أثارت الرعب في مدينة لاشيو (Lashio) في شمال البلاد في مايو ٢٠١٣ وقاموا هناك بحرق قرى المسلمين وقتل عدد منهم، وبعدها انتشرت انتهاكات مماثلة في أنحاء ميانمار. راهب بارز في الحركة هو ويمالا بيوونثا (Wimala Biwuntha) وصف المسلمين في قداس حاشد بأنهم مثل “نمر مفترس دخل بيتاً ضعيف الحراسة فيوشك أن يدمر كل شيء”. شعار التنظيم منتشر في المركبات العامة والخاصة وواجهات البيوت والمحلات والهدايا التذكارية والمباني الأثرية والهامة في البلاد. في حادثة مشهورة عام ٢٠١٤ حُكِم على رجل مسلم أزال ملصقاً بشعار “٩٦٩” من دكانه بالعاصمة يانجون، بالسجن سنتين بتهمة إثارة المشاعر الدينية.
وتقدر وكالة رويترز عدد الرهبان البوذيين بنصف مليون راهب، وترى أنهم يوفرون الغطاء الأخلاقي لهذه الانتهاكات الوحشية، وأن عدداً من قادة الجيش يدينون بالولاء لهم، وليس العكس. ليس من الواضح كيف نشأت هذه التنظيمات ولكن مراقبين رصدوا انتشارها مع بداية الانفتاح الديمقراطي في ٢٠٠٧، وهو ما يشير إلا أن بعض الكيانات التي نشأت في عقود الاستبداد العسكري قد تأثرت ببيئة القمع والإقصاء، حتى لو كانت منتسبة للبوذية التي لم يعرف عنها كثيراً الانخراط في مثل هذه الأنشطة الدموية. في عام ١٩٨٨ قام الجيش بقمع مظاهرات سلمية وقتل بالرصاص الحي آلاف المتظاهرين كان منهم عشرات من الرهبان البوذيين. الآن تغيرت موازين القوى، وأصبحت الحكومة المركزية ترعى الأنشطة البوذية وتقدم الدعم المالي بسخاء لبناء وإصلاح المعابد البوذية. منذ ٢٠١١ أصبح من المألوف تداول أخبار قادة الجيش وحضورهم الجلسات الدينية، ونقل الصور من داخل بيوتهم التي تعكس توقيرهم لكبار الرهبان وطلب رضاهم وبركاتهم. تنظيمات المتطرفين البوذيين تزيد المشهد البورمي تعقيداً، وتنذر بفوضى داخلية. المشاعر العدائية ضد المسلمين من غير الروهنغيا آخذة أيضاً في التصاعد، وقد تؤدي لصدام بين الحزب الحاكم والتنظيمات البوذية أو قضاء أحد الطرفين على الآخر.
إن اشتباك الأوضاع الإنسانية مع المصالح السياسية، بحيث تصبح معاناة البشر مجرد أرقام في موازين المصالح، تشير إلى خلل عظيم في النظام العالمي المسيطر، وفي بنية الدولة القومية الحديثة. مأساة الروهنغيا دليل ماثل على هذا.