[caption align="alignleft" width="300"](الهوية الاسلامية للروهينغيا وصراعهم للعيش في ميانمار)[/caption]
هذه ترجمة لورقة قدمها الاستاذ "سيد سراج الاسلام في مجلة:
Muslim Education Quarterly العدد 17(4) لعام 2000
الترجمة :
سعيد كريديه
لم يترك الإسلام أثراً على سكان منطقة جنوب شرق آسيا في النواحي الاجتماعية فقط بل تعداه إلى الجانب السياسي أيضاً. فبينما يمثل الإسلام دين الأكثرية في ماليزيا وإندونيسيا يشكل المسلمون في كل من الفلبين وتايلاند وميانمار (بورما) أقلية تعاني الظلم مما دفعها للمطالبة إما باستقلال ذاتي أو استقلال تام. وفيما نجح مسلمو الفلبين مؤخراً (نشر هذا المقال عام 2000 ]المترجم) في الحصول على استقلال ذاتي فشلت الأقليات الإسلامية في تايلاند وميانمار في تحقيق أي خطوة تمنحهم نوعاً من الاستقلال، فتحول مسلمو ميانمار (الذين يُعرفون باسم روهينغيا) إلى لاجئين سياسيين في بنغلادش المجاورة. هذا الوضع يطرح أسئلة هامة : "ما هي الأسباب التي أدت إلى هذا الفشل؟ وأين مواطن الفشل في هذه الخطوة؟" ستحاول هذه الورقة الاجابة على تلك الاسئلة وضمن نطاقٍ محدود.
في أواخر الستينات من القرن الماضي صرح صامويل هانتنغتون، البروفسور في جامعة جامعة هارفارد، أن أي حركة انفصالية تلجأ للعنف أو ثورة تتواجد في نظام سياسي يعاني من أوضاع سياسية أو اجتماعية معينة ستكون مشاركتها في هذا النظام بعيدة الاحتمال بسبب عدم قدرة المؤسسات السياسية لهذا النظام على تأمين ذلك. وهكذا فإن أهم الثورات في التاريخ حسب هانتنغتون قد ترعرعت في ظل أنظمة غير ديمقراطية. فإن لم تجد أي مجموعة بشرية معينة الوسائل للمشاركة في أي نظام سياسي فسوف تعاني هي وقيادتها من الاحباط ومن ثم سيشعر الجميع بالغربة وينتهي بهم الأمر بالقيام بثورة. لذلك، ولكي تنجح أي ثورة يتجب أن تتوفر لها ثلاثة شروط : أولاً: ظروف سياسية تفضي إلى هذه الحركة، ثانياً : ضرورة وجود تنظيم سياسي فعال يديره قيادة قوية، ثالثاً: قدرة هذه المنظمة على حشد دعم جماهيري ضخم داخليا وخارجياً.
وفي ضوء هذه الافتراضات النظرية يطرح المرء السؤال التالي: "هل هذه الشروط تنطبق على وضع الروهينغيا في ميانمار؟ لكي ندرس هذا السؤال علينا أولاً أن ننظر إلى منشأ الحركات الانفصالية عبرالتاريخ ثم إلى طبيعة حركة المقاومة في ميانمار في العصر الحديث. فبناءً على هذه الخلفية من التطورات التاريخية والمعاصرة سوف ندرس أسباب فشل الروهينغيا في ميانمار في إنجاز أهدافها المرجوة.
الخلفية: جذور الصراع:
تأثرت منطقة جنوب شرق آسيا عبر التاريخ بعدة عوامل خارجية، فخلال القرون الأولى للفترة المسيحية انتشرت على أرضها الحضارتان الهندية والصينية، بعد ذلك دخلها العرب والأوروبيون. وقد ساهم وصول جماعات متعددة من خارج المنطقة إلى ظهور عدم تجانس في مجتمعاتها. إلا أن العرب كانوا بلا منازع أسياد التجارة في هذه المنطقة لحين قدوم البرتغاليين والأسبان. لذلك فإن الاتصال الأولي بين جنوب شرق آسيا والإسلام هو بدون شك نتيجة لهذه التجارة العرببة مع السكان الأصليين لتلك المنطقة، إذ بعد انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية، جلب التجار العرب الدين الحنيف الى جنوب شرق آسيا في أوائل القرن الثامن الميلادي.
يتركز المسلمون في ميانمار بشكل رئيسي في منطقة أراكان الشمالية التي تحد دولة بنغلادش الإسلامية. كانت أراكان دولة مستقلة لغاية عام 1784 وكان التجار العرب على اتصال بها منذ القرن الثالث لانتشار الإسلام بعد أن شرعوا في نشره هناك منذ عام 788م،بالرغم من بعض المؤرخين يرى أن العرب نشروا الاسلام في تلك المنطقة حتى قبل ذلك التاريخ. فخلال تلك الفترة كانت أراكان تحكمها عائلة من سلالة "شاندرا Chandra" ولما وصلها التجار العرب قاموا بانشطة دعوية بالتلازم مع عملهم التجاري فاعتنق الاسلام أفواجا كثيرة من الناس. علاوة على ذلك تزوج عدد كبير من العرب المسلمين الأوائل الذين أتوا إلى تلك المنطقة من نساء محليات واستوطنوا فيها بشكل دائم. وهكذا، وبسب اعتناق الاسلام والزواج من النساء المحليات والهجرة ازداد عدد المسلمين هناك خلال القرون اللاحقة وأضحى هؤلاء المسلمون يُعرفون باسم "روهينغيا" وهي كلمة مشتقة من الكلمة العربية "رحمة".
يقول بعض المؤرخين الأراكانيين أنه خلال القرن 13 كان يزور ساحل أراكان بعض الأولياء المسلمين، وهناك حقيقة ثابته هي وجود مقامات (تدعى بدر مقام) وهي مقامات تذكارية لهؤلاء الأولياء شيدها أتباع "بير بدر الدين" والذي عرف باسم "بير بدر" والتي انتشرت على طول ساحل منطقة أراكان. ولغاية القرن 15 حكم أراكان ملك غير مسلم يدعى "نارامكلا Narameikhla" اعتنق الاسلام في عام 1404 وأطلق على نفسه اسم "سليمان شاه" وبعد إسلام هذا الملك أضحت أراكان مملكة معظم سكانها من المسلمين لأن معظم سكانها رضوا بالإسلام ديناً لهم وهكذا انتشر الاسلام في تلك المنطقة من دون أي دعم سياسي لكنه ظل متأصلا هناك لعدة قرون.
ظلت أراكان مملكة إسلامية مستقلة لاكثر من 3 قرون ونصف. ومع وفاة سليم شاه الثاني، آخر الملوك المسلمين، انتشرت المؤامرات في البلاط ودب الوهن في أرجاء المملكة على الصعيدين السياسي والعسكري. وقد سبق تلك الفترة وصول البوذية إلى تلك المنطقة آتيةً من التيبت ومنغوليا. ومع حلول منتصف القرن العاشر أسس البورميون المنحدرون من العرق المغولي مقراً للسلطة لهم في بورما حيث اعتنق معظمهم البوذية وقد استمرت هجرة البوذيين في تلك الفترة الى أراكان. وخلال فترة تراجع الحكم الاسلامي في أراكان، قام الملك "بوداو فايا Bodaw Phaya" حاكم مملكة "آفا Ava" البورمي بغزو أراكان وسيطر عليها كلياً عام 1784 قاضياً كلياً على استقلالها.
في عام 1824 قامت شركة الهند الشرقية البريطانية بغزو بورما، ومن خلال الحرب البورمية البريطانية خضعت أراكان للحكم البريطاني، ثم خضعت كل من بورما بما فيها أراكان الى الإدارة البريطانية في الهند.
لم يهتم البريطانيون خلال حكمهم الاستعماري لبورما بالاندماج الوطني لكافة الطوائف السكانية في البلاد، بل على العكس تماماً استغلوا التناقضات السكانية لإطالة فترة حكمهم من خلال سياسة "فرق تسد" مما أدى الى إخضاع هذه الطوائف والمجموعات الموالية لها في مختلف مناطق بورما. وما إن بدأ الاستعمار بالزوال حتى بدات بورما تواجه مشكلة في نظامها السياسي الذي ولد حالة من الغربة والعزلة لمجوعة أو أكثر من شعبها. فهناك أكثر من 100 مجموعة عرقية في البلاد أكبرها هو العرق البورمي الذي يؤلف النخبة الحاكمة. وخوفاً من الأكثرية البورمية طلبت كل المجموعات العرقية (وخاصة "شان" و "كاشين" و "كارين" و "آراكان") من الحزب الوطني (عصبة حرية الشعب المعادية للفاشية) ضمانة لحكمٍ ذاتي لمناطقها في ماينمار مستقلة. فعقد الزعيم الوطني الجنرال "أونغ سان Aung San" مؤتمراً في "بانغلونغ Panglong" عام 1947 ضم كل المجموعات العرقية وتم الاتفاق على إعطاء الاستقلال الذاتي لكل الولايات مع امكانية الانفصال بعد 10 سنوات من الاستقلال.
بورما منذ الاستقلال :
بعد إعلان الاستقلال بورما نص دستورها، الذي وُضع بعد وفاة "أونغ سان Aung San"، أن الدولة الجديدة والتي تُدعى "بورما" ستكون أحادية الصفة من دون منح الاستقلال الذاتي لأي مقاطعة. على الفور سبب هذا الدستور الإعلان الى اندلاع ثورات عرقية تفاقمت بعد عام 1958 بالرغم من إعلان رئيس الوزراء "أو نو U Nu" أن البوذية هي دين الدولة في البلاد في خطوة لإرضاء المجموعات العرقية غير البورمية والتي تدين بالبوذية. ومع ذلك ساهم هذا الوضع في عزلة المسلمين في آراكان وشعورهم بعدم الامان في بورما المستقلة حديثاً.
وبالرغم من إعلان الحكومة أن البوذية هي دين الدولة لم يقم مسملون أراكان في البداية بأي أعمال احتجاجية. ومع ذلك، وفور إعلان البوذية دين الدولة اتخذت الحكومة البورمية عدداً من الاجراءات لتسريح مجموعة كبيرة من الموظفين المسلمين واستبدالهم ببوذيين، كما عمدت الحكومة إلى نقل بوذيين من عدة أنحاء في البلاد وتوطينهم في أراكان لتخفيض عدد الأكثرية الإسلامية.
في هذه الظروف ظهر شخص من الروهينغيا تدرب عند اليابانيين اسمه "جعفر كمال" وشرع بتنظيم مجموعات من شعبه تحت اسم "المجاهدون". إلا أن المجاهدين لم يصمدوا أمام قوة الجنود البورميين المدربين، واغتيل جعفر كمال فيما بعد وقُتِل الجيش العديد من مؤيديه وألقي القبض على البعض الآخر.
في عام 1962 انهارت الحكومة المدنية في كل أنحاء البلاد واستلم الجيش زمام الامور.
ألغى الحكم العسكري الدستور وحل البرلمان ومنع نشاطات كل المنظمات واستعمل القسوة على الروهينغيا بشكل خاص. وقد ألحق مجلس قيادة الثورة خسائر فادحة بالجماهير الروهنغية، كما فرضت سلطات الهجرة قيوداً على تحركاتهم من مكان لآخر مما أدى إلى عمليات اعتقال ضدهم.
وقد وصل التململ من وحشية النظام العسكري إلى درجة دفعت بعض خرجي الجامعات من الروهينغيا إلى تأليف مقاومة سرية تحت اسم "جبهة استقلال أراكان بهدف تحقيق استقلال تلك المنطقة، وانضم إلى تلك المنظمة عدد من المجاهدين القدامى لكنهم لم يستطيعوا أن يلعبوا دوراً بسبب الرقابة الصارمة لنظام الحكم.
أعقب ذلك استمرار النظام البورمي العسكري في ممارسة القمع المفرط ضد الروهينغيا، فشن الجنرال "نِي وين Ne Win" هجوماً عنيفاً ضد قوى التحرر الروهينغية أطلق عليه اسم "هجوم التنين الملك".
ولكي يتمكن النظام من السيطرة على تحركات القرويين عمد إلى إصدار أوامر بتدمير القرى الصغيرة وترحيل سكانها إلى قرى أكبر شبيهة بتلك التي بناها الأميركيون في فيتنام والتي كانت محاطة بسياج ولها بوابة واحدة فقط، وبالتالي تم اقتلاع المئات من القرويين من ديارهم بالقوة واُجبروا على العيش في قرى شبية بالحظائر.
في نهاية عام 1975 تشكّلت "جبهة روهينغيا الوطنية" على يد ناشطين من المحاربين القدامى في "جبهة استقلال أراكان" بالإضافة إلى بعض خريجي الجامعات الشباب. لكن هذا التنظيم لم يعمر طويلاً أمام الضربات القوية التي تلقاها في عملية "التنين الملك." فزج بمئات الروهنيغيا من رجال ونساء في السجن، وقتل وعُذب الكثير منهم، كما تعرضت النساء للإغتصاب في معسكرات الاعتقال. وفي الواقع، صرح أحد الكتاب البوذيين بأنهم "يعرفون حتى أسماء ضباط الجيش الذين ارتكبوا هذه الجرائم ومكان وتاريخ ارتكابها".
وخوفاً من بطش وقساوة العمليات العسكرية ومن المجهول الذي ينتظر أرواحهم وممتلكاتهم فر حوالي 200000 مسلم إلى بنغلادش حيث أغاثتهم المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة.
على إثر ذلك قامت حكومة بنغلادش بالتفاوض من الحكومة البورمية لإعادة اللاجئين، وفي النهاية رضخت الأخيرة نتيجةً للضغوطات الدولية.
وفور عودة اللاجئين إلى أراكان اتخذ نظام "نِي وين Ne Win" العسكري تكتيكاً جديداً للحد من عدد المسلمين في تلك المنطقة. فأصدر عام 1982 قانوناً جديداً للجنسية يُذكر فيه ان أفراد المجموعات العرقية التي استقرت في بورما قبل عام 1832 (أي العام الذي احتل فيه البريطانيون بورما) هم مواطنون بورميون. وقد حذف النظام العسكري الروهينغيا من لائحة المواطنين على أساس أنهم مستوطنون قدموا إلى البلاد بعد عام 1832 متجاهلا وجودهم العريق في أراكان، كما أطلق عليهم اسم "كالاس Kalas" وهي كلمة تستعمل للحط من قيمة الغرباء والأجانب. وقد اتخذ "نِي وين Ne Win" هذه الاخطوة عن عمد بدافع تحويل الروهينغيا إلى "شعب مشرد بلا دولة" كي يتمكن بعد ذلك من طردهم بسهولة.
في غضون ذلك، تعاظمت الضغوط التي مارستها حركة المعارضة الديمقراطية في البلاد بقيادة "أونغ سان سو كي Aung San Suu Kyi" ضد الحكم العسكري لأجل نقل السلطة. وقد ساندت "منظمة التضامن الروهنغية" هذه الحركة الديمقراطية ولمواجهة الضغط الشعبي أعلنت الحكومة العسكرية الجديدة (التي أطلق عليها اسم: "مجلس قانون الدولة وإعادة النظام" SLORC) عن إجراء انتخابات في ايار (مايو) لعام 1990 وطلبت من كل الفرق المشاركة بها.
وبالرغم من أن "العصبة الوطنية للديمقراطية" التي تراسها "أونغ سان سو كي Aung San Suu Kyi" حصلت على الأغلبية في الانتخابات إلا أنها لم تتسلم السلطة بل على العكس تم اعتقالها مع قادة آخرين في العصبة مما أدى إلى اندلاع ثورة عارمة ضد النظام الحاكم.
وكالعادة عمد النظام إلى استعمال التكتيك القديم في تحويل أنظار الشعب عن المشكلة الحقيقية الساخنة إلى المشكلة الطائفية فسربت إشاعات مفادها أن المسلمين سوف يبتلعون أراكان بدعمٍ من الجارة المسلمة بنغلادش ومن منظمة العالم الاسلامي. وبالاضافة إلى ذلك شرع النظام بمناصرة البوذيين من خلال دعم الرهبان و بناء معابد بوذية لهم طبقاً لعادات الحكام البوذيين القدامى.
أدت هذه الاجراءات إلى نشوء توتر في كل أنحاء البلاد فاندلعت أعمال عنف بين المسلمين والبوذيين في عدة مناطق من بورما السفلى حيث اقترفت الحكومة العسكرية خلالها فظائع وحشية ضد الروهينغيا. وفي منتصف عام 1991 شنت الحكومة حملة ضد الروهينغيا وأطلقت عليهم اسم "بزايا peezaya". ومن جهة أخرى تم تم طرد الروهينغيا من بعض المدن الرئيسية في أراكان وإسكان بوذيين مكانهم، وبالتالي تدفق مرة أخرى عشرات الآلاف من اللاجئين إلى بنغلادش مما أدى إلى بالنهاية إلى عقد اتفاقية ثنائية بين الأخيرة وبورما لإعادة اللاجئين إلى ديارهم بأمان.
ورغم ذلك تملك معظم هؤلاء اللاجئين الخوف من القمع والبطش، فآثروا البقاء في مخيماتهم في بنغلادش. فنظام الحكم مازال يقوم بعمليات البطش وخرق حقوق الانسان في بورما حتى يومنا هذا. وقد علق المؤرخ الشهير "ارون Irwin" قائلاً: "يعيش (الروهينغيا) في بلدٍ معادٍ تواجدوا به لمئات من السنين ومع ذلك ما زالوا على قيد الحياة. ربما يمكن مقارنتهم باليهود أي أمة داخل أمة".
وخلال السنوات الأخيرة استغاث الروهينغيا بمنظمة العفو الدولية والأمم المتحدة ومنظمة دول جنوب شرق آسيا ASEAN ومنظمة دول المؤتمر الإسلامي، لكن كل ذلك من دون جدوى.
وقد كتب الصحافي المستقل "أندرو دِدو Andrew Dedo" :"ستبقى الفتنة بين البوذيين والمسلمين ملازمة لبورما سواء انطلقت شرارتها في بورما عن غضب أو عن تحريض متعمد".
النتائج : التحليل
كانت حصيلة نضال الروهينغيا خلال نصف قرن للحصول على حقوقهم المشروعة هي الطرد من ديارهم وفقدان جنسيتهم ليصبحوا بالنهاية شعب لا دولة له. ما هي العوامل المسؤولة عن الفشل المأساوي للروهينغيا؟ يمكن دراسة ذلك في ضوء نظرية هانتينغتون" من خلال مراقبة المناخ السياسي في بورما والقوة التنظيمية للمنظمات الثورية وتعبئة الدعم السياسي في داخل البلاد وخارجها.
"المناخ السياسي"
اتبع نظام الحكم في بورما سياسة القمع طوال فترة وجوده بالسلطة. فخلال الفترة الاولى لولادة بورما المستقلة، وبالرغم من تبني ديمقراطية برلمانية في البلاد ومن إطلاق وعد بمنح الاستقلال الذاتي لمنطقة أراكان، قام النظام بوضع حسابات خاصة به تفضي إلى تصفية الروهينغيا. ففي تلك السنوات رابطت القوات المسلحة البورمية (والتي شكل البوذيون 90% منها) في أراكان لتنظيم أوضاع الروهينغيا، كما أعلن النظام الديمقراطي أن البوذية هي دين الدولة. و بعد تولي العسكر الحكم قام نظام الجنرال "نِي وين Ne Win" بمحاولات مدروسة لسحق كل القوى الديمقراطية بوجه عام والروهينغيا بشكل خاص.
أولاً:
تطبيق مركزية الادارة من خلال تبني "طريق بورما الى الاشتراكية" واعتماد نظام الحزب الواحد وهو "حزب البرنامج الاشتراكي في بورما BSPP".
ثانيا:
وضع مشروع طويل الأمد لنشر البوذية في أراكان من خلال توطين البوذيين فيها بعد جلبهم من عدة مناطق من بورما.
ثالثاً:
إطلاق عملية "الملك التنين" عام 1978 وهي عبارة عن مشروع وضعته الحكومة لإجبار الروهينغيا على الهرب إلى بنغلادش.
رابعاً:
إصدار الحكومة لقانون الجنسية الجديد وحرمان الروهينغيا من الاستفادة منه بالرغم من عودتهم إلى بورما مما جعلهم من دون جنسية وبالتالي أطلق عليهم اسم "كالاس" أي غرباء.
خامساً:
عندما عمت الاحتجاجات في البلاد ضد النظام العسكري عام 1990 حولت الحكومة أنظار الشعب عن تلك القضية وصورت الوضع وكأنه نزاع طائفي، مما أدى الى أعمال عنف ضد الروهينغيا حيث اعتقل الآلاف وقتل المئات واغتصب عدد كبير من النسوة، مما دفع عدد كبير من الروهينغيا إلى ترك وطن أجدادهم والهروب مرة اخرى إلى بنغلادش عام 1992 للبحث عن الأمن والمأوى. وكان العديد من هؤلاء الروهينغيا مالكي أراضي صادر الجيش أراضيهم ليتركهم من دون أي مورد رزق. ومن جهة أخرى ذكرت صحيفة يومية في بنغلادش ما يلي:" تحولت منطقة شمال أراكان ذات الأغلبية الإسلامية إلى موقع عسكري يسودها القلق على الأرواح والممتلكات والكرامة والشرف. وقد تورطت الحكومة العسكرية هناك في أعمال إجرامية جعلت حياة المسلمين شقاءً لايمكن تحمله، فلم يجدوا أمامهم خياراً سوى الهرب وترك وطنهم. ومن تلك الجرائم :
- احتجاز النساء المسلمات واغتصابهن بشكل جماعي
- تشغيل المسلمين رجالا ونساءً بالسخرة
- احتجاز الحبوب الغذائية ومنعها من الوصول للمسلمين كي تنتشر المجاعة في مناطقهم.
- السجن والتعذيب الجسدي بناءً على ادعاءات ملفقة
- النهب
- القضاء على المستوطنات والقرى الإسلامية وإنشاء مكانها مخيمات عسكرية ومستوطنات بوذية بيد عاملة إسلامية. وكان على المسلمين أيضا أن يتحملوا عبء الدعم المالي للمستوطنين الجدد.
ينقسم المجتمع البورمي إلى 6 مجموعات لغوية وعرقية، في حين يشكل البوذيون الأكثرية بين المجموعات الدينية. وقد سعى البريطانيون بكل قواهم لتجنب حدوث أي نزاع خلال فترة حكمهم الاستعماري لبورما وذلك عبر الوسائل الدستورية ومن خلال تفضيل أقليات دينية في تعيينهم في وظائف أجهزة الدولة. ومع ذلك، وكما ذُكر سابقاً، فإن عدد كبير من الموظفين المسلمين صُرِفوا من أعمالهم بعد الاستقلال واستبدلوا ببوذيين.
ومن جهة أخرى لم يسمح للمسلمين بالانتقال من مكان لآخر في البلاد إلى باذن من السلطات الحكومية وقد صرح وزير الداخلية الفريق "ميا ثين Mya Thinn" بالآتي: " أن وضع حالتهم (أي المسلمين) لا يسمح لهم بالعمل في المراكز الحكومية ويحذر عليهم الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي".
ويشير "هيو تنكر Hugh Tinker" إلى أن :"هدف سياسية الحكومة هو التشديد على وحدة بورما من خلال نشر البوذية التي أضحت وعلى نحو متزايد "أهم مكونات الهوية البورمية" والأساس الحضاري لقومية بورمية ناشئة تعتمد على القرق. ومن جهة أخرى قدمت البوذية المسار الأمين للتعبير عن أي استياء بورمي أو لنمو قومية ناشئة.
كل ذلك يشير إلى أن النظام السياسي المتطرف في بورما لم يترك أي مجال للروهينغيا للتفاوض معه. والنتيجة، كما أشار "ستاينبرغ Steinberg" أن ليس لأفراد الأقليات دوراً في هيكلية السلطة.
"القوة التنظيمية"
يشير "هنتنغتون" إلى أنه بالاضافة إلى النجاح، تحتاج كل حركة سياسية إلى مؤسسات قوية وثابتة وموحدة وقابلة للتكيف مع الظروف. فلا يمكن لأي حركة أن تنجح إذا كانت قيادتها ضعيفة. وقد أنشأ الروهينغيا عدداً من التنظيمات هدفها حرب العصابات، لكن جميعها ظلت ضعيفة بالمقارنة مع حركات التحرر في دول أخرى من العالم.
ومنذ عام 1947 أسس الروهينغيا عددة التنظيمات للقتال من أجل قضيتهم أبرزها: "جبهة الروهينغيا الوطينة" و "منظمة التحرير الاسلامية" و "جبهة روهينغيا للاستقلال" و"منظمة التضامن الروهنغية". إلا أن كلها كانت ضعيفة. فلم تعمر المنظمة الأولى طويلا واغتيل مؤسسها "جعفر كمال" ولم يخلفه أحد، فانهارت في فترة وجيزة. أما "جبهة روهينغيا للاستقلال" والتي أُسِّست في ستينات القرن العشرين فظلت من حيث المبدأ منظمة للمفكرين وانتهت وهي بالمهد.
وفي منتصف سبعينات القرن العشرين وُلدت منظمة جديدة هي "جبهة الروهينغيا الوطينة" التي سبق وتكلمنا عنها، وكانت هذه أقوى من سابقاتها حيث استطاعت تأليف بضع مئات من كوادر حرب العصابات، ومن ثم اندمجت مع "جبهة الروهينغيا الوطينة" بهدف إنشاء دولة روهينغيا الإسلامية في أراكان، لكن بالحقيقة ليس هناك أي سجل لنشاط جدي باستثناء كتابة عدد من الرسائل إلى بعض المنظمات الدولية. لذلك فإن أي منظمة تود تأمين الاستقرار وخلق وعي على المستوى الجماهيري هي بحاجة إلى أن تعمر لفترة طويلة من الزمن، لكن هذا لم يحدث في أراكان.
"تعبئة الدعم"
ليس التنظيم القوي وحده هو ما تحتاجه أي حركة ثورية فقط بل هناك أمر آخر يجب أن تسعى إليه وهو: دعم الجماعات الاجتماعية وقد فشل الروهينغيا في ذلك داخلياً وخارجياً.
فعلى الصعيد المحلي يتشارك الروهينغيا بالوعي المشترك والشعور بالهوية، لكن هذا يحتاج إلى أن يترجم للواقع. فغياب تنظيم قوي لديهم جعل الدعم الجماهيري مستحيلا، ويعود ذلك إلى :
أولا: بقاء القيادة في أراكان في يد النخبة.
ثانياً: لم يستطيعوا حماية الجماهير من بطش الجيش البورمي.
ثالثاً: استعمل نظام الحكم البوذيين كأداة داخلية ضد المسلمين. أما على الصعيد الاقليمي فلم يفلح الروهينغيا في لفت نظر منظمة دول ومنظمة دول جنوب شرق آسيا ASEAN التي لها مكانة قوية تستطيع من خلالها التحكم بانضمام بورما إليها.
كما فشل الروهينغيا في استغلال دعم منظمة دول المؤتمر الاسلامي. وحتى بنغلادش الدولة المسلمة المجاورة لم تكن بالقوة التي تؤهلها الدفاع عن الرهينغيا أو دعمهم، فلديها ما يكفيها من المشاكل. ومن جهةٍ أخرى لم يحصل الروهينغيا على أي دعم من الدول الإسلامية الأخرى بالرغم من وجود تقارير تفيد أن ليبيا قد قدمت بعض الإعانة لهم.
أما القوى العظمى وخاصة الولايات المتحدة والأمم المتحدة فتهتم بخرق حقوق الانسان في بورما فقط وليس بوضع الروهيغيا بشكل خاص وهكذا تُرك الروهينغيا لوحدهم لحل مشاكلهم بأنفسهم.
الاستنتاج :
يفضي التحليل المذكور أعلاه إلى نتيجة مفادها أن كل جهود الحركة الوطنية لروهنغيا أراكان في ميانمار قد باءت بالفشل. فعلينا الاعتراف أنه لا يمكن لأي حركة سياسية أن تأخذ مجراها الكامل من دون أن تحصل على دعمٍ خارجي. ولا يمكن لأي جماعة أن تنجح في إدارة حركة سياسية وهي في عزلة. كذلك لا يمكن لأي حركة سياسية أن تحافظ على ديمومتها إلا بوجود تنظيم سياسي قوي مقروناً بدعمٍ جماهيري. وفي بورما، كان هناك العديد من الظروف الاجتماعية والمؤسساتية الكافية لتطوير حركة وطنية للمسلمين في أراكان. لكن بالرغم من تلك الظروف المؤاتية لم ينجح الروهنغيا في عملهم الوطني. فقد عاشوا لقرون في أراكان وبقوا بها حتى بعد الاحتلال البورمي في القرن 18 حين أصبحت مناطقهم جزءاً من بورما. ثم أصبحوا مشردين ولاجئين سياسيين بسبب فشلهم التنظيمي، وما زالوا حتى الان ضحايا الاعتقال التعسفي والقتل والتعذيب والاغتصاب، كما تعرضت أراضيهم للمصاردة من قِبل الحكومة البورمية. فكل يوم هناك شكل جديد من الاضطهاد.
لذلك فإنه من خلال العودة إلى الديمقراطية فقط يمكن إنهاء حكم البورميين الطويل لروهينغيا ميانمار.