[caption align="alignleft" width="300"]عندما نقلب التاريخ نخسر الانسانية[/caption]
من التفاهة الاعتبار أن البوذية تتكامل مع الاماكن التي اصبحت فيها اليوم ديانة مهمشة. فالشعب هو الذي يقرر ماذا يختار او يصدق او يرفض. وكما أظهر التاريخ باستمرار فان اعتناق دين معين بالقوة لا يدوم طويلاً، وحالما يختفي عامل الخوف يميل الناس الى اختيار ما يناسبهم. وهكذا كان تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة.
ومؤخراً، وبعد ان نشرت مجلة "تايم" مقالاً وصورة غلاف عن راهب ميانمار البوذي الارهابي المدعو "ويراتو"، قرأت مقالاً لكاتب بوذي يذكر فيه ان المجلة المذكورة قد أخطأت بحق هذا الراهب وأن المذابح ضد المسلمين قد أُطلق عليها بطريقة مكرة اسم "القومية البوذية" و "الحل الاخير" للحفاظ على "البلد وعلى البوذية وتراثها وللتأكد من أن التاريخ لن يعيد نفسه". وأضاف أن العنف ضد المسلمين في دول ذات الأغلبية البوذية يجب ان يُفهم في سياق مفاده ان البوذيين هم الآن أقلية في بعض الدول التي كان أتباع هذه الديانه فيها هم الاكثرية.
يشارك هكذا كتابات وأفكار إعتذارية كثير من البوذيين في ميانمار وسريلانكا الذين يتبعون مذهب ترافادا Theravada. لكن وبكل أسف يناقضون التاريخ ويقلبون الحقائق رأساً على عقب كما يسعون لتبريرالعنف الاجرامي المستمر ضد أقلية مستهدفة. فهل كانت سريلانكا مثلا والتي تعتبر حالياً دولة ذات أغلبية بوذية هكذا دائما على مر الزمن؟ بالطبع لا، فقد سادت البوذية فيها منذ عام 247 قبل الميلاد بينما تاريخ سريلانكا أقدم من تلك الفترة بكثير ويعتقد ان عمره على الأقل حوالي 30,000 سنة. فأجداد الشعب السنهالي الحالي ليسوا السكان الاصليين لتلك البلاد بل أتوا من البنغال (وهي اليوم دولة بنغلادش وولاية غرب البنغال في الهند) و منطقة أوريسا Orissa في الهند. وتدعي الاساطير الشعبية السنهالية ان "فيجيا Vijaya 543–505 قبل الميلاد" (وهو أمير بنغالي منفي يعتقد انه مولود من أبوين الام أميرة والوالد اسد قد اتحدا دينيا فأنجباه) هو والد الشعب السنهالي بعد أن أغرت به الملكة الشيطانة (Yakkhas) "كوفني Kuveni"، فتخلصا من كل الشياطين وابعدا الاخرين عن الجزيرة. لكن "فيجيا" خان "كوفني"، وعندما عادت إلى شعبها مع ولديها قتلها الشعب بسبب خيانتها.
وحتى لو تغاضينا عن الخرافة في هكذا قصص التي تتعلق بالعقيدة تظل حقيقة واحدة مفادها ان سريلانكا كانت في القرن السادس قبل الميلاد مأهولة بغير البوذيين مقا شعب "فيدا" (الذي له ملامح تشبه سكان جنوب الهند) وكان يسودها عده معتقدات غير البوذية. ]فمن المحتمل ان كل هؤلاء الشياطين في تلك الفولكلورين الهندوسي والبوذي هم بالواقع بشر لكن مُحتقرين ومجردين من انسانيتهم[. فهذه هي حال كل بلد انتشرت فيه البوذية من خلال القضاء على المعتقدات والتقاليد السابقة. فليس "فيجايا" و 700 شخص من اتباعه هم أول من استوطن سريلانكا، فشعب التاميل في سريلانكا والذي يدين معظم أفراده بالهندوسية متأصل في هذا البلد منذ القرن الثاني قبل الميلاد على أقل تقدير، اذ يدعي التاميل السنهاليون انهم هم سكان الجزيرة الاصليين. فقبل الاحتلال الاوروبي كانت هناك اقسام من الجزيرة يحكهما السنهاليون البوذيون والتاميل الهندوس. وفي اوائل القرن 15 الميلادي سقطت الجزيرة بأيدي الصينيين عندما فتحها القائد المسلم "جنغ هي" المنتمي إلى سلالة "مننع Ming".]ينسب الى هذا القائد الصيني اكتشاف أمركا قبل كرستوفر كولومبس[. وحتى في الهند، وقبل تعرضها لغزو شعب "أريان" (حوالي 1800 قبل الميلاد)، كان الدرافيديين وهم السكان الاصليين ذوي الملامح السمراء يعتنقون عدة معتقدات مختلقة عن الهندوسية المتعددة الطبقات. وقد أدى هذا العزو إلى هجرة العديد من الدرافيدين الناجين إلى جنوب الهند. كما تم في العصر الحديدي تهميش "الفيدية Vedism" وهي من الكتب المقدسة لدى الهندوس من قِبل العقائد الاخرى أمثال الجينية والبوذية. حصل نفس الشيئ في بورما وفي عدة مناطق من تايلاند حيث سكن تلك البقاع أناس ذوي ملامح الهندية وبشرة الداكنة قبل انتقال الشعوب التيبتية-المنغولية اليها حيث همش البوذيون تعاليم المعتقدات الدينية التي كانت سائدة في الهند قبلهم. ففي منطقة "كوشان" التي تقع الان شمال أفغانستان وكشمير وبشاور في باكستان، كانت الزرادشتيه والاعتقاد بمجموعة من الآلهة هي المعتقدات السائدة لدى السكان قبل مجيء البوذية. ]وهناك بعض الهنود يدعون أن غزو منطقة كوشان في الشمال الغربي خلال القرن الاول الميلادي أدى الى هجرة الهنود الى جنوب شرق آسيا[. فالبشر دائما بحركة تنقل من منطقة الى أخرى منذ بدء الخليقة وهناك أسباب كثيرة لانتقالهم. فأحياناً كانوا يهاجرون بملئ ارادتهم لتحسين اوضاعهم المعيشية، واحيانا أخرى كانوا يهاجرون رغماً عنهم بسبب الحروب والسياسة. وحيثما حلوا استوعبوا الافكار والنظم التي واجهتهم ونشروا احياناً افكارهم طبقاً لقوة هذه الافكار ومدى تقبلها من الناس. ومع ذلك، لم تتبنى كل حضارة حلت في مكان جديد نمط الحياة السائد فيه. فما زال هناك مجموعات صغيرة ما زالت تحافظ على النمط البدوي للحياة وتنتقل من مكان الى آخر لتبيع بضاعة او تقدم خدمات او لرعي الماشية لتستقر بالنهاية في اماكن مرحب بها. وكانوا ينقلون تعاليمهم الى الاجيال الصاعدة وقلما انخرطوا في أجواء المجتمع الذي حلوا به. وكانوا يتكلمون لغتهم القديمة ويلقنوها لاولادهم بانفسهم. وبالرغم من انهم كانوا مراراً يتعرضون لللاضطهاد، فان القانون كان يحمي الكثير من هذه المجموعات بهدف المحافظة على تراثهم النادر. فليس صعباً في ظل هذا التدفق المستمر من النشاط البشري ان نفهم كيف تحل العادات والتقاليد والاعتقادات والافكار الجديدة مكان تلك القديمة وكيف أحياناً تعود تلك القديمة وتظهر مرة أخرى بعد ان تكون قد ضاعت في غياهب النسيان او الانقراض. وهناك حالات أخرى أيضاً من التآلف بين الحضارات والتقاليد. ففي حالة الهند الاسلامية، يقول المؤرخ "وليام دالريمبل William Dalrymple" :"اتخذا التآلف الحضاري عدة أشكال، فظهرت الجمالية في اللغتين الاوردية والهندية من خلال التأثر بالكلمات الفارسية والعربية واللغات المحكية في شمال الهند التي يعود اصلها إلى اللغة السانسكريتية. فكما جمع مطبخ شمال الهند بين الارز الهندي وحساء العدس الخالي من اللحم مع كباب آسيا الوسطى وخبزها ظهر التآلف في الموسيقى مزج بين الآلات الموسيقية الفارسية وتلك الهندية لتنج آلات موسيقية جديدة وصل انتشارها حتى العالم الغربي. وفي مجال العمارة كانت هناك عملية مشابهة من التدجين حيث جمعت العمارة المغولية بين أساليب الفن المعماري الهندوسي والاسلامي لينتج مزيجاً رائعاً مفعماً بالجمال." (صحيفة الغارديان، عدد 19 آذار 2004).
من التفاهة الاعتبار أن البوذية تتكامل مع الاماكن التي اصبحت فيها اليوم ديانة مهمشة. فالشعب هو الذي يقرر ماذا يختار او يصدق او يرفض. وكما أظهر التاريخ باستمرار فان اعتناق دين معين بالقوة لا يدوم طويلاً، وحالما يختفي عامل الخوف يميل الناس الى اختيار ما يناسبهم. وهذا كان تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة. فلا يمكن لاي حاكم ان يفرض معتقدات ابدية على رعاياه اذا رفضوا ما فُرض عليهم.
وبعكس الاساطير الشعبية التي يبثها المعادون للمسلمين، فإن الاسلام لم ينتشر بالسيف. فلو كان كذلك لكان هو دين الاكثرية في الهند ولكانت الهندوسية والمعتقدات الاخرى قد اضمحلت هناك. فالاسلام وصل إلى الهند في اوئل القرن الثامن الميلادي من خلال فتح منطقة السند على يد القائد محمد بن قاسم، ثم حكم المسلمون مساحات شاسعة من الهند لمدة الف عام. كما لم تجري أي حملة عسكرية اسلامية ضد منطقة جنوب شرق آسيا، ومع ذلك هناك دول في تلك المنطقة يشكل فيها المسلمون الأغلبية.
فلا يوجد بداية واحدة لتاريخ المنطقة التي تعرف بجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، كما لا يوجد لها تسلسل زمني واحد ولا حتى سرد لرواية واحدة. وهذا واقع يعترف به كل المؤرخين الكبار أمثال الاساتذة دايفد لودن David Ludden وعبد الكريم و ريتشارد إيتون Richard Eaton و روميلا ثامبار Richard Eaton و ر س شارما وغيرهم الذين امضوا عمرهم في دراسة هذه المنطقة، فحسب دراستهم التي تميزت بالحياد والمصداقية ليس لهذه المنطقة تاريخ واحد بل عدة تواريخ لها أصول غير محددة وغير متفق عليها بالاضافة إلى ظهور مسارات لها منفصلة لا تحصى تزداد كلما تعلمنا أكثر عن تلك المنطقة.
وما يروج له الرهبان غلاة التعصب والعنصريون أمثال "ويراتو Wirathu" في ميانمار، والسياسيون غلاة القومية والرجعيون الشوفينيون واتباعهم المتعصبون بالاضافة الى المؤرخين المزيفين على ان هناك شجرة واحدة لحضارتهم مغروسة في أساطيرهم العرقية والدينية هو بالواقع شبيه بغابة واسعة لعدة حضارات ينمو فيها عدد لا يحصى من الاشجار من مختلف الأشكال والأحجام والأعمار والألوان والأنواع وتتكاثر من خلال التطعيم المتبادل. فوفرة الحضارات تحجب النظر بحيث لا نستطيع رؤية حدود هذه الغابة. وحسب البروفسور "لودن Ludden" فإن :"ما يسمى اليوم بالحدود بين الحضارات هي بالواقع نتاج من صنع الانسان للحضارات القومية الحديثة أكثر ما هي انعكاسات دقيقة للظروف التى سادت قبل عصرنا الحديث."
وكما يبدو جلياً فان هكذا مفهوم وتحليل للتاريخ هو أمر غير مرغوب فيه ومكروه لدى الأنظمة العنصرية والطائفية التي تبغض الغرباء ولدى مروجي هذه الانظمة وطلائعها. فهؤلاء المتعصبين يفضلون لو ان تلك الأقليات العرقية والطوائف الدينية والفئات المحرومة لا تهتم بحقها او حتى لا تكون موجودة أصلاً. فبالنسبة لهم ظهور هذه الشعوب المقهورة مثل المسلمين الروهينغيا في ميانمار هو مجرد صدفة تاريخية تشبه الذين يظهرون من الفانوس السحري. فهذا مستوى عنصريتهم البغيضة التى تنعكس أحياناً من خلال الادعاءات والادعاءات المضادة لأقلام معادية مثلما ظهر جلياً في كتابات معجبي الارهابي الراهب "ويراتو".
فمنذ عقد تقريباً علّق البروفوسور "نيلادري باتاشاريا Neeladri Bhattacharya" من جامعة جاواهار لال نهرو في دلهي عن محاولة الهندوس المتطرفين في حزب جاناتا باراتيا Bharatiya Janata لإعادة صياغة الكتب الدراسية لمادة التاريخ قائلاً :"عندما يُستعمل التاريخ لمشروع سياسي أو نزاع طائفي، وعندما تبدأ المشاعر السياسية والطائفية في الوقت الراهن تشرح كيف كان يجب ان يكون الماضي، وعندما يُفَبرَك التاريخ ليولد حساسية طائفية وحالة كراهية عنف، عندها نحتاج ]نحن المؤرخون[ ان نجلس مع بعضنا ونحتج. واذا لم نفعل ذلك فلن ينتهي ليل منطقة "غوجارات Gujarat". فتاريخها سوف يظهر مرة بعد مرة ليس بشكل كابوس فقط بل بتجربة متكررة عاشتها المنطقة من قبل مما سيؤدي الى دوامة من العنف والأخذ بالثأر بجوٍ مفعمٍ بالدم والموت".
وما يحدث الان للأقلية الاسلامية في ميانمار هو اسوأ مما حدث في غوجارات، وسوف تكون اكبر ماساة واعظم جريمة في هذا العصر ان تجد أعذاراً لنشاطات المجازر الجماعية. فالصمت هو معيب ولا يغتفر.
بقلم د. حبيب صديقي
(ناشط في مجال السلام والحقوق)
ترجمة : سعيد كريدية