بقلم: عبدالله الأيوبي
وكالة أنباء أراكان ANA | متابعات
وضعت البعثة الأممية المستقلة المكلفة بتقصي الحقائق بشأن الجرائم التي ارتكبها جيش ميانمار بحق الأقلية الميانمارية المسلمة (الروهنغيا)، المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الإنسانية المباشرة، فقد خلصت البعثة في تقرير أعدته بعد المجازر التي تعرضت لها الأقلية المسلمة والمقرر أن يتم عرضه رسميا في الثامن عشر من شهر سبتمبر الجاري أثناء الدورة الجديدة لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف، وبحسب ما ورد في التقرير، فإن «ما حدث في ميانمار في مارس عام 2017 يعد بلا شك جرائم خطيرة وفق القانون الدولي»، حيث يشير التقرير إلى ارتكاب أعمال الاغتصاب الجماعي والقيام بهجمات على الأطفال وإحراق القرى بالكامل والتعذيب واختفاء الناس وممارسة الرق الجنسي، وأكد ممثلو البعثة في التقرير أن قيادة جيش ميانمار ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في ولايات أراكان وكاشين وشان بالتواطؤ مع السلطات المدنية.
لم تكتف اللجنة الأممية بإعداد هذا التقرير فحسب، بل دعت إلى نقل التحقيق في الوضع في ميانمار إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو إنشاء محكمة دولية منفصلة لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في هذا البلد وخصت بالذكر كبار مسؤولي الجيش الميانماري، وهنا مربط الفرس في هذا التقرير والتوصية التي أعقبته، فالبعثة بذلك نقلت المسؤولية إلى المجتمع الدولي برمته وتحديدا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمعني مباشرة بالدفاع عن حقوق الإنسان وحمايتها، فهذه الجرائم التي وقعت في ميانمار بمشاركة جيش دولة وبصمت وتغاضي السلطات السياسية في هذا البلد ينم عن ممارسة عنصرية بغيضة ضد أقلية من السكان، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية.
كما شمر المجتمع الدولي عن سواعده لمواجهة جرائم الحرب التي ارتكبت في يوغوسلافيا السابقة وشكل محكمة خاصة لمحاكمة المتهمين عن ارتكاب الجرائم خلال الحرب الأهلية التي عانت منها شعوب الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من مختلف العرقيات، وبغض النظر عن حجم الضرر الذي تعرضت له هذه العرقية أو تلك، فإن المجتمع الدولي واجه هذه الحالات من خلال المحكمة الجنائية التي شكلها لهذا الغرض، وبالتالي فإن ما حدث في ميانمار بحق الأقلية المسلمة (الروهنغيا) هو الآخر يستحق أن تشكل من أجله محكمة جنائية لمقاضاة المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم.
مع الإشارة إلى الجرائم التي شهدتها يوغوسلافيا السابقة والفظائع التي ارتكبت خلالها وجلها دفع ثمنها أبناء البوسنة والهرسك وغالبيتهم من المسلمين، فإن تلك الجرائم ارتكبت خلال حرب أهلية بين أقليات عرقية ودينية كان نصيب الأقلية الأضعف منها عاليا، أما فيما يخص الجرائم التي تعرضت لها الأقلية المسلمة (الروهنغيا) في ميانمار فهي تختلف تماما، فهي لم تحدث نتيجة حرب بين أقليات في هذا البلد، بل لم ترتكب على أيدي أتباع أي من الأقليات الدينية أو العرقية، وإنما تمت على أيدي الجيش التابع للدولة وبحق مواطنين يتبعون عرقا ودينا يختلف عن عرق ودين السلطة الحاكمة وجيشها.
فالجرائم التي تعرضت لها أقلية (الروهنغيا) لا تختلف تماما عن الجرائم التي تعرض لها مواطنو جنوب إفريقيا السود، وهم أغلبية في بلدهم، على أيدي السلطة العنصرية البيضاء التي كانت تحكم جنوب إفريقيا، فما حدث في ميانمار هو قتل وتصفية وجرائم جماعية على أسس عرقية ودينية، ومهما تحدثت سلطات هذا البلد عن ان هناك عناصر إسلامية متطرفة وسط الأقلية المسلمة تهاجم قوات الجيش والشرطة الميانمارية، فإن ذلك حتى لو كان صحيحا، فلا يمكن القبول به كمبرر لإقدام الجيش على ترويع مئات الآلاف من السكان المدنيين العزل وتشريد النساء والأطفال وإطلاق العنان لجرائم القتل الجماعي والاغتصاب وحرق المنازل وغيرها من الجرائم البشعة.
لا مناص أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة من الأخذ بتوصية البعثة الأممية والشروع فورا في إنشاء محكمة دولية منفصلة لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم، فما حدث لهذه الأقلية من أعمال تنكيل وصفتها اللجنة بــ«جرائم الحرب»، يستدعي إنشاء مثل هذه المحكمة كي ينال المسؤولون عن ارتكاب الجرائم العقاب الذي يستحقونه، وكي تكون مثل هذه الخطوة رسالة الى من تسول له نفسه الاستخفاف بحياة وأرواح السكان المدنيين، وخاصة أن ميانمار لا تشهد حربا أهلية واسعة كالتي حدثت في يوغوسلافيا السابقة مثلا.
سيكون من المعيب جدا للمجتمع الدولي بأسره، وخاصة الدول ذات التأثير القوي على اتخاذ المواقف والقرارات، لو فشل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في الاستجابة لطلب البعثة الأممية لتقصي حقائق الجرائم في ميانمار، ذلك لأن اللجنة التي أعدت التقرير ليست مرتبطة بأي جهة سياسية أو غيرها، وليس من مصلحة أي من أعضائها عدم إظهار ما توصلوا إليه من حقائق أو تحريفها، وبالتالي فلا يمكن إثارة أي شكوك حول مصداقية هذا التقرير وحياديته، أضف إلى ذلك أن سلطات ميانمار عمدت إلى إعاقة عمل البعثة ولم تسمح لأعضائها بدخول البلاد بغية الوصول إلى الأماكن التي أرادت الوصول إليها.
فالأماكن التي أرادت البعثة الوصول إليها تحوي كثيرا من الأدلة الدامغة التي تدين سلطات ميانمار، لهذا وقفت هذه السلطات حائلا دون وصول البعثة إلى تلك الأماكن، ما اضطر أعضاءها، بحسب ما ورد في التقرير إلى «إجراء تحقيقهم على أساس المقابلات مع الضحايا وشهود العيان وباستخدام الصور من الأقمار الاصطناعية والصور العادية وتسجيلات الفيديو وزيارة عدد من دول الجوار»، فالأدلة الكثيرة متوافرة ومتطلبات إنشاء محكمة خاصة بجرائم ميانمار لا يمكن إغفالها، إلا إذا كان هناك توجه لمكافأة المجرمين وعدم إنصاف الضحايا، عندها ستكون وصمة العار هي عنوان عدم إنشاء محكمة لهذا الغرض، ووصمة عار كذلك في وجه الدول التي تعرقل ذلك.