وكالة أنباء أراكان ANA:
بقلم/ إبراهيم حافظ غريب
ها هم قادمون من جديد، تكتسي وجوههم بعلائم الجدِّ، بخطوات صارمة يتوجهون إلينا مباشرة، كأنهم يَودُّون أخذَنا، ولكن إلى أين؟
• قوموا يا جماعة، سنأخذكم إلى المحكمة!
المحكمة؟! عجبًا! دون إشعار مسبق؟ وبهذه السرعة؟ لله الأمر من قبلُ ومن بعد! ورغم الشدة والتضييق، والحبس والتحقيق، والضغط والتلفيق، ومحاولاتهم المستمرة لانتزاع اعترافات منا بتهم ملفَّقة علينا، فإننا نحسُّ براحة وسكون، وأمن واطمئنان، وسلام نفسي داخلي، ما كنت أظنُّ أن المسجونَ في بلد مغترب يمكنه أن يحظى بكل هذا الهدوء الروحي والصفاء الوجداني رغم المحاولات المستمرة لممارسة كل أشكال الضغط النفسي، ولولا شيءٌ من الخوف على أولادي أن يصيبَهم الهمُّ والقلق هناك، لاغتبَطت نفسي حقًّا بهذا النعيم الداخلي هنا، صدق ابن تيمية رحمه الله حين قال: “إن سجني خلوة، ونفيي سياحةٌ، وقتلي شهادة”.
• اسمع يا ولدي سلمان، أنا في عجلة من أمري، سأخرج من هنا رأسًا إلى المطار، والدكم بخير، وسيُطلَقُ سراحُه عما قريب، كنت في اتصال مع وزير الخارجية بشأن موضوعه قبل قليل، ثقوا في الله ولا تقلقوا، وإذا أمكنكم أن تتصلوا به فبلِّغوه سلامي، وأخبروه أن الدكتور وقار زاركم بنفسه في البيت، هل عرفتَني؟
• أنت الممثل الشرعي للروهنجيين في العالم.
وأخيرًا تُفتح بوابة السجن في وجوهنا، النور يقتحم الساحة ويغمر المكان، لا أكادُ أقوى على فتح عينيَّ الذابلتين بفعل الظُلمة المتكاثفة منذ دخولي هذا السجن، عَرَبة صغيرة تسعُنا جميعًا، تنقلنا إلى المحكمة، حراسة عادية لا تتوافق مع حجم التهم الموجهة إلينا، الضابط يبدي احترامَه للشيخ عبدالمجيد، يُهيِّئ له المكان في العربة، منذ أن تم إيقافنا وحبسُنا في هذا السجن والشيخ عبدالمجيد لا يفتُرُ لسانه عن ذكر الله وتلاوة القرآن، والغريب أن تأثيره ومفعوله امتدَّ إلى حراس السجن؛ بحيث يكونون ألطفَ في المعاملة معنا حين يستمعون إليه وهو يتلوه بصوت شجيّ نديّ، هنيئًا لك صحبة القرآن هنا يا شيخ، لكأنها منحةٌ إلهية لتجديد عهدك بالكتاب العزيز، لو يعلمون طهارتَك مما يحاولون إلصاقَه بك وتلفيقه عليك! كيف يستطيع الزملاء في المركز الروهنجي العالمي أن يساعدوك ويثبتوا لهم ذلك؟
• اقرأ يا بن ذكير في “الواتس” في “قروب” الموقوفين.
• ماذا هناك؟
• محامي الشيخ عبدالمجيد يطلب أيَّ إثبات لكونه قارئًا للقرآن إمامًا للناس في صلواتهم.
• بسيطة، سيوفِّرُها له الشباب في غضون ساعات، وسيعود بإذن الله يشدو أغاريد العزة.
يبدو أن العربة معروفة لدى الناس هنا، ينظرون إليها بفضول كلما مرَّ أحدهم بالقرب منها، السؤال في أعينهم المحدِّقة، والدهشة على شفاههم المفتوحة! سواء كان إيقافُنا وحبسنا بهذه التهم بفعل فاعل أو لشبهة عارضة، فإن الحدث في حد ذاته سيحظى بزخم إعلامي، وسيُعطي بُعدًا إيجابيًّا للقضية الروهنجية، وسيُعدُّ منعطفًا ذا دلالة في تاريخ النضال الروهنجي، وسيدفع المناضلين المخلصين للمزيد من التعاون والتكاتف والتلاحم فيما بينهم.
• شيخ ناصر: بالله أخبرنا ما قاله لك زميلنا في المركز الروهنجي العالمي، إن لم تصرح لنا باسمه!
• حسنًا، قال لي بالحرف: اتفقنا أنا وزوجتي على أن نبيع ما عندها من الذهب إن احتجنا إلى المال في سبيل الإفراج عن الموقوفين وفك أسرهم؛ كي يشهدَ العالمُ أن أعضاء المركز جسدٌ واحد لا يتجزأ، وكلٌّ لا يتبعَّض بتوفيق الله ومنّه وكرمه.
• جميل! هذا مصداق للمثل الروهنجي: إذا اتحدتْ أصابع اليد صارت “غوشا، زيكّا ماري هيكّا فوشا”! ههههه!
العربة تقف كأنها وصلت مقصدَها الذي تريد، بلى، هذه المحكمة الجنائية، من أين حشدوا كل هذه الجموع؟ ولماذا؟ من المستفيد من كل هذا؟ من كان يظن أن العمل الإغاثي من أجل اللاجئين المشرَّدين ينتهي المصير بأصحابه إلى الاعتقال والحبس بتهم ملفَّقة ومحاكمتهم عليها؟ وربما كان ذلك بفعل فاعل خسيس من الروهنجيين أنفسهم! هل كان علينا أن نعيد ارتكاب الأخطاء التي سبقنا إليها الآخرون؟ لماذا لم نتعلم منهم في قضيتنا؟ هناك فصائل فلسطينية يكيد بعضُها لبعض، وهنا أحزاب وفرق روهنجية يمكر بعضها ببعض! بلى، أما نحن فسنخرج بإذن الله مكلَّلين بتيجان البراءة – وإن طال علينا الأمد – ولكن من شرح بالمكر صدرًا ونجَّس يده بمصافحة يد العدو الملطخة بدم إخوانه، فكيف سيخرج من سجن الخيانة ويتطهر من رجس العار؟
• اسمع يا إلياس، تصريحَ شاهو لوكالة أنباء أراكان حول الموقوفين.
• هاتِ يا وارث.
• أنا شاه حسين، أقول لمن نشر خبرًا ملفَّقًا عن المركز الروهنجي العالمي، وادَّعى أنه لا يمثل الروهنجيين وافترى على أعضائه الموقوفين، واتهمهم بتهم باطلة، ووقف بذلك مع العدو البوذي في صف واحد: إذا كنت روهنجيًّا حقًّا، وإذا كنت مناضلاً لقضية الروهنجا حقًّا، وإذا كنت إعلاميًّا نزيهًا شريفًا – كما تزعم – فأعَدِ النظرَ فيما كتبت ونشرت في موقعك الإلكتروني ضد مواطنيك الروهنجيين الموقوفين، وإلا فأعَدِ في سلامة دينك، وأصالة روهنجيتك بصفة عاجلة!
غريبة! قاعة المحكمة تمتلئ عن بكرة أبيها، القضاة على المنصة، النيابة، الشهود، المحامون، كلهم أخذوا أماكنَهم، وجلسوا ينتظرون، يتهامسون، تشيع بينهم ابتسامات مَرِحة، نحن من تأخَّرنا في الوصول، يقترب الحرَّاس منا، يبدؤون في فكِّ القيود عنا واحدًا بعد آخر، هل صدرت الأحكام قبل أن نصل؟! هذا المحامي يُقبِلُ علينا بخطوات متسارعة وبوجه طلق:
♦ بشراكم أبا سلمان! تم سحبَ التهم الموجهة إليكم، وصدر قرار فوري بإطلاق سراحكم!
♦ الله أكبر، جاء الحق وزهق الباطل، ولكني لن أخرج!
♦ لماذا؟
♦ حتى يقبلوا تسجيل فرع المركز هنا بصفة رسمية، من حقنا على الأقل أن نطالب برد الاعتبار إليه.
♦ أحسنت يا بطل! فعلاً أنتم الروهنجيون رغم كل عذابات الألم، لم تعودوا ضعفاء إن لم تكونوا أقوياء!