مذكرات ويوميات يروي فيها كاتبها مشاهداته في إندونيسيا حول مشاركة الوفد الروهنجي في مؤتمر الإعلام وزيارة اللاجئين الروهنجيين .
مأساة طفلة وسط البحر
بدأت شمس الثامن من ديسمبر تميل للغروب، ونحن على مقربة من الملجأ الرابع في سلسلة زياراتنا للاجئين الروهنجيين في هذا اليوم ، وبعد ساعات مررنا فيها بعدد من المحافظات والقرى وصلنا إلى ملجأ "باستريغا" أحد الملاجئ التي اتخذتها الأمم المتحدة لإيواء اللاجئين في إندونيسيا، يتكون الملجأ من وحدات سكنية في عدة طوابق تتوسطها ساحة كبيرة يجتمع فيها أطفال اللاجئين للعب وقضاء الوقت، تفاجأت حين وصلنا هذا الملجأ أنه يتكون من خليط من عدد من الجنسيات العربية والافريقية بما في ذلك الروهنجيون بعوائلهم، التفّ حولنا الروهنجيون يستقبلوننا بالترحيب والسلام، وقد كانوا على علم مسبق بوصولنا إليهم، وكانوا ينتظروننا منذ فترة.
على يمين الساحة الخارجية توجد قاعة للتعليم وفرتها الجهة المعنية برعاية اللاجئين في الأمم المتحدة، استقبلوننا فيها، وقاموا بجمع جميع الروهنجيين وعوائلهم بداخلها، وبعد أن استقروا في أماكنهم بدأ الدكتور طاهر الأركاني كعادته في كل زيارة يلقي عليهم كلمة موجزة يعرفهم فيها بوفدنا، وبهدف مجيئنا، ويذكّرهم بالله جل وعلا، ويواسيهم في محنتهم، ولقد رأيت لتلك الكلمات تأثيراً عجيباً في نفوسهم، وتسلية لما هم فيه من حزن وأسىً على فراق موطنهم، وترك ديارهم وأهليهم، ومفارقة أحبابهم وأقاربهم، لاحظت أن بعض الروهنجيين أصبحوا يتحدثون اللغة الاندونيسية وبعضهم صار يتقنها من طول فترة بقائهم في الملجأ، واختلاطهم بأهل إندونيسيا، طلبت منهم إجراء بعض اللقاءات الإعلامية بعد أن تأكدت من عمل الكاميرات، هنا كنت على موعد متجدد مع الحزن، عشت لحظات كئيبة وأنا أمسك "المايكرفون" وأستمع إلى قصص أليمة وذكريات حزينة عاشها بعض أولئك اللاجئين أثناء طردهم من بلادهم وركوبهم قوارب الهلاك ووصولهم إلى شواطئ الدول كتايلند وإندونيسيا ولعلي أقص لكم حكاية طفلة وامرأة روهنجية، تحدثتا إلى وكالة أنباء أراكان ANA .
كانت سحابة من الحزن والأسى تظلل وجه هذه الطفلة المسكينة، وتحولت ملامحها الطفولية إلى صورة تجاعيد لعبت بها أعاصير المصائب وويلات ما لقيته في طريق هجرتها، سألتها: حدثيني عنكِ من أنتِ؟ وكيف وصلت إلى هنا؟ وأين والداك؟ ومع من تسكنين ؟
استحت الطفلة في بداية الأمر من الحديث أمام الكاميرا والمايكرفون ولكني شجعتها ببعض كلمات الثناء، فقالت والأسى يتقاطر من حديثها: أنا طفلة روهنجية كنت أعيش مع أسرتي وأبي وأمي في مدينة أكياب بأراكان بورما، وكنا في أمن إلى أن جاء ذلك اليوم الأسود الذي لا أنساه أبداً، حين بدأت عصابات بوذية تتوافد إلى قريتنا بشكل مريب، وفجأة قاموا بإحاطة القرية، وشكلوا طوقاً على منازلنا، حينها دبّ الرعب في قلبي وبدأت أشعر بالخوف والهلع، وأخذ والدي يتمتم ببعض الآيات والسور وعلى وجهه ارتسمت علامات الخوف مما يخطط له البوذيون، وما هي إلا ساعات حتى أغاروا علينا بكل همجية ووحشية، وأخذوا يحرقون قريتنا ومنازلنا، فاضطررنا للخروج من منازلنا في حالة رهيبة من الخوف، ونحن لا ندري هل نستطيع إنقاذ أنفسنا أم أن البوذيين الذين ينتظروننا في الخارج بالبنادق والسيوف، سيقضون علينا، وبدأ الحريق ينتشر وأخذ الرجال والنساء يصيحون ويخرجون من منازلهم بملابسهم دون أن يتمكنوا من حمل أي شيء لأن النيران أخذت تنتقل بشكل سريع والدخان يتصاعد بقوة، وكدنا نموت بسبب الاختناق ولكن الله سلّم، تفرق الأهالي في قريتنا بعد ما أضرم فيها البوذيون النار ، ومن هول الفاجعة هرب أبي وأمي إلى جهة، وهربت أنا مع أخي إلى جهة أخرى، لكي ننجو بأنفسنا من النار، ونسلم من ملاحقة البوذيين لنا في الخارج، واستطعنا بعد عدة محاولات وجهود مضنية أن نصل إلى الشاطئ ونركب سفينة بحرية صغيرة مع مجموعة من أهالي القرية الفارين، لقد بقيت أبكي لعدة أيام أسأل عن أبي وأمي كل من أقابله على متن القارب الذي ركبناه، كنت أنظر إلى قريتنا وهي تحترق، وأتخيل أن أبي قد مات وأن أمي قد احترقت، كنت أتمنى أن أموت معهم، وفكرت أن أرمي بنفسي في البحر لأتخلص من جحيم المعاناة، لقد بكيت وبكيت كثيراً، وكان من في السفينة يحاولون تهدئتي والتخفيف عني ولكن لم يكن هناك شيء يسليني عن أبي وأمي، ولم أستطع أن آكل شيئاً، فأي أكل وأي راحة بعد أن صرت في عرض البحر مع أناس أغراب من قريتنا ولا أعلم عن مصير عائلتي شيئاً، امتدت رحلة الموت أكثر من أسبوعين، كنت أبكي فيها وأرثي نفسي وأتألم من داخلي ويصيبني دوار البحر فأغمض عيني، وأتذكر حنان أمي، ولطف أبي، ودفء أسرتي، آه على فراقهم؛ لقد صرت يتيمة مشردة ضائعة، أين أنتِ يا أماه تمسحين دمعاتي؟! أين أنت يا أبتاه تهدّئ لوعاتي؟! هكذا كنت أعيش وسط دوامتين؛ دوامة الحزن والأسى بفراق أمي وأبي، ودوامة أخرى مع أمواج البحار وهول المصير الذي نجهله، واصلنا السير في البحر حتى وصلنا إلى حدود تايلاند؛ وبدأ الشاطئ التايلاندي يلوح في الأفق، وظننا أننا نجونا من مصيبتنا بسلام، وأن الغمة قد انقشعت، وأن فجراً جديداً قد لاح؛ ولكن لم نكن نعلم أن مصائب أخرى، وفاجعات أشد كانت في انتظارنا؛ ما كدنا نصل إلى شواطئ تايلند حتى اعتدت قوات البحرية التايلندية، على من في سفينتنا من الرجال والنساء، وضربوهم ضرباً شديداً بلا أدنى رحمة، وكأننا مجرمون أو قطاع طرق، وبعدها نهبت القوات البحرية التايلندية محرك سفينتنا، ودفعونا قسراً نحو البحر مرة أخرى دون محرك، ودون أن يزودونا بأي مؤنٍ غذائية أو علاج، وكأنها طريقة مؤدبة لإبادتنا وإغراقنا جميعاً، وتحركت السفينة مع الأمواج، والنساء والأطفال يصيحون ويصرخون، حتى وصلنا بها إلى جهة أخرى من الحدود التايلاندية ، فمنعتها القوات البحرية هناك، ودفعتها للبحر مرة أخرى، وعشنا أياماً صعبة للغاية، ومكثنا على ظهر السفينة حتى نفد ما كان معنا من طعام وشراب ، وارتفع صياح النساء وبكاء الأطفال، وبقينا ننتظر الموت إلى أن تحركت السفينة بفعل الأمواج من جديد إلى جهة كان فيها صيادون إندونيسيون، فلما رأونا على حالنا أخذونا معهم، وأدخلونا البلاد وانتهى مصيرنا إلى هذا الملجأ وأنا الآن أعيش هنا مع اللاجئين ولكن أبي وأمي مازالوا هناك في أكياب داخل أراكان، وأنتظر اللحظة التي أكحل فيها عيني برؤيتهم، ولكن يا ترى من سيحقق لي حلمي ؟!